عرض مشاركة واحدة
قديم 10-17-2010, 08:36 PM
المشاركة 5
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

فحدثني القاسم بن إسماعيل قال، سمعت إبراهيم بن العباس يقول: لو أراد كاتب بليغ أن
ينثر من هذه المعاني ما نظمه النابغة ما جاء به إلا في أضعاف كلامه، وكان يفضل هذا
الشعر على جميع الأشعار. وقد سبق النابغة إلى هذا شعراء كندة فقال رجل يمدح عمرو
بن هندٍ من كلمة:

تكادُ تَمِيدُ الأرضُ بالناسٍ أنْ رأَوْا ... لَعمْرِو بن هندٍ عُصْبَةً وهُو عَاتبُ

هو الشمسُ وافتْ يومَ سعدٍ فأفضَلتْ ... على كلِّ ضَوْءٍ والملوكُ كواكبُ

أنشدها أبو محلم. وقد أتى أبو تمام بمعنى قول النابغة الذي فسره إبراهيم بن العباس نقلاً إلا أنه في الغزل:

وقالتْ أَتْنسَى البدرَ قلتُ تجلُّداً ... إذا الشمسُ لم تَغْرُبْ فَلاَ طَلَعَ البَدْرُ

فهذا الذي أراده أبو تمام، وقال النجاشي:

نِعمَ الفتى أنتَ إلاّ أنّ بيْنَكُما ... كما تفاضَلَ ضوءُ الشمسِ والقمرُ

وأنشد أبو محلم لصفية الباهلية، وفيه غناء للغريض فيما أظن:

أَخْنَى عَلَى مالكٍ رَيبُ الزمانِ وهَلْ ... يُبْقِى الزمانُ على شيءٍ ولا يَذَرُ

كُنَّا كأنجَمِ لَيلٍ بينَها قَمَرٌ ... يَجْلُو الدُّجَى فَهَوَى من بيننا القَمَرُ

فهذا كلام أبي تمام ومعناه بعينه. وقال جرير يرثي الوليد بن عبد الملك:

إنَّ الخليفةَ قد وَارتْ شَمائلَهُ ... غبراءُ مَلحُودَةٌ في جُولِها زَوَرُ

أَمْسَى بَنْوه وقد جَلَّتْ مُصِيبتهُمْ ... مِثلَ النجومِ هَوَى مِنْ بَيْنِها القمرُ

أفترى جريراً أراد أن يهجو الوليد، أو يقول إن بنيه زادوا بموته؟ وقال نصيب فأخذ معنى
قول النابغة بعينه:

هُوَ البدرُ والناسُ الكواكبُ حَوْلَهُ ... وهلْ تُشْبِهُ البدرَ المضئَ الكواكبُ؟

ثم قالوا: فهلا قال كما قال الخريمي:

إذا قمرٌ منهم تغوَّرَ أو خَبَا ... بَدَا قَمَرٌ في جانبِ الأُفْقِ يلمعُ

فيجب على هذا أن يقال له: هلا قال الذي يقول:

عَفَتِ الديارُ محلُّها فمقامُها

ألا هُبِّي بصَحْنِكِ فاصْبَحيِنا

وهلا قال امرؤ القيس مكان:

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ

لخوْلةَ أطلالٌ بُبرقَةٍ ثَهمَدِ

لأن المعنى الذي أراده أبو تمام ليس ما أراد الخريمي: لأن أبا تمام قصد التفضيل في السؤدد، والخريمي أراد التسوية فيه، وأبو تمام يقول: مات سيد وقام سيد دونه، والخريمي يريد: مات سيد وقام سيد مثله. فكيف يستحسن قوم ذهب هذا عليهم أن ينطقوا في الشعر بحرف بعدما فهموه؟ على أنهم أعذر عندي ممن يسمع منهم ويحكي قولهم. وإنما احتذى الخريمي قول أوس بن حجر:

إذا مُقْرَمٌ مِنَّا ذرا حَدُّنا بِهِ ... تَخمَّطَ فينا نابُ آخرَ مُقْرَمِ

وهذا كما قال أبو الطمحان القيني:

وإني من القومِ الذين هُمُ هُمُ ... إذا ماتَ منهم سيدٌ قامَ صاحبُهْ

كواكبُ دَجْنٍ كلَّما غابَ كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوِي إليه كواكبُهْ

أَضاءَتْ لهم أحْسابُهم ووجوهُهمْ ... دُجَى الليلِ حتَّى نظمَّ الجَزْعَ ثاقِبُهْ

وقال آخر:

خِلافُة أهلِ الأرضِ فينا وراثةٌ ... إذا مات منا سيِّد قام سيِّدُ

وقال طفيل الغنوي:

كواكبُ دَجْنٍ كُلَّما انقضَّ كوكبٌ ... بدا وانجلتْ عنه الدُّجُنَّةُ كوكبُ

وقال آخر:

إذا سيِّدٌ منا مضَى لسبيلهِ ... أَقامَ عَمودَ المجدِ آخَرُ سيِّدُ

فهذا الذي أراد الخريمي.

ولولا الثقة بأن أشباه هذا تمر بهم فلا يعرفونها، فإن تكلفوها تكلموا فيها بالجهل، لصعب على أن يفهم هذا غير أهله، ومن يستحق سماع مثله. وهذه كتب جماعتهم ممن مضى وغبر، هل نطقوا فيها بحرفٍ من هذا قط، أو ادعوه، أو ادعاه مدع لهم، أو تعرضوا له؟ وفي هذا كفاية لمن خلع ثوب العصبية وأنصف من نفسه، ونظر بعين عقله، وتأمل ما قلت بفكره؛ فإن القلب بذكره وتخيله أنظر من العين لما فقدته ورأته، وقد أحسن ابن قنبر في قوله:

إن كنتَ لستَ معي فالذكرُ منك معيِ ... يراكَ قلبيِ وإنْ غُيِّبْتَ عنْ بصريِ

والعينُ تُبصِرُ مَنْ تَهوَى وتفقِدُه ... وناظرُ القلبِ لا يخلو من النظرِ

وكأن هذا من قول بشار:

قالوا بسَلمَى تَهْذِي ولم تَرَها ... يا بُعْدَ ما غَاولَتْ بِكَ الفِكَرُ

فقُلتُ بعضُ الحديث يَشغَفُنِي ... والقلب راءٍ مالا يرَى البصرُ

وشبيه بهذا في الشناعة عيبهم قوله:

لو خرَّ سيفٌ من العَيُّوقِ مُنصلتاً ... ما كان إلاَّ على هاماتهم يقعُ

وقد رواهُ قوم: "ما كان إلا على إيمانهم يقع" ولكنا نبين صوابه وخطأ عائبه على الرواية الأولى. وهي عندي التي قال. إنما أراد أبو تمام: كل حربٍ عليهم ومعهم، وأن كل سيف يقاتلهم ليسلبهم عزهم؛ وفي مثل ذلك يقول رجل من بني أبي بكر بن كلاب، أنشدناه محمد بن يزيد النحوي:

تَرْضَى الملوكُ إذا نَالتْ مقاتِلنَا ... ويأخُذُون بأعْلَى غَايةِ الحسَبِ

وكلُّ حَيٍّ من الأَحياءِ يَطلُبُنا ... وكلُّ حيٍّ له في قتلِنا أَرَبُ

والقتْلُ مِيتَتُنا والصَّبْرُ شِيمتُنا ... ولا نُراعُ إذا ما احْمرَّتِ الشُّهُبُ

وأراد مع ذلك أنهم لا يموتون على الفرش -والعرب تعير بذلك- وأن السيوف تقع في وجوههم ورؤوسهم لإقبالهم، ولا تقع في أقفائهم وظهورهم لأنهم لا ينهزمون، ولذلك قال كعب ابن زهير في قصيدته التي امتدح بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمنه بها بعد أن كان نذر دمه، وأولها:

بانَتْ سُعادُ فقلْبِي اليومَ مَتْبولُ ... مُتَيَّمٌ إِثرَهَا لم يُفْدَ مَكْبُولُ

فقال فيها يمدح قريشاً:

لا يقعُ الطَّعنُ إلا في نحورِهمِ ... ليسَ لهم عن حيِاضِ الموت تَهْليلُ

فلم لم يعيبوا هذا الشعر على كعبٍ، وقد سمعه النبي -عليه السلام- وأثاب عليه؟ حدثني محمد بن العباس قال، حدثنا أبو حاتمٍ عن أبي عبيدة قال: فخر رجل من ولد حبيب بن عبد الله بن الزبير فقال: أنا أعرق الناس في القتل، قتل لي خمسة آباءٍ متصلين.

وقال آخر:

قَومٌ إذا خَطَر القَنا ... جَعلُوا الصُّدورَ لها مَسالِكْ

لبِسُوا القلوبَ على الدُّرُو... عِ مُظاهِرينَ لدفْعِ ذلِكْ

حدثني أبو عمر بن الرياشي قال، حدثنا أبي عن الأصمعي عن أبي عمرو قال: لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعبٍ وصبره في الحرب، قال: إنا والله لا نموت حبجاً كما تموت بنو أمية، إنما نموت قعصاً بالرماح، وتحت ظلال السيوف. فلو كان هذا عاراً ما فخر به. وممن عير بالموت على الفراش سهم ابن حنظلة قال يعير طفيل بن عوف:

بِحَمْدٍ من سِنانِكَ غَيْرِ ذّمٍ ... أبا قُرَّانَ مُتَّ على مِثال

ومما يروى للسموؤل وهو للحارثي:

تَسيلُ على حَدِّ السُّيوفِ نُفوسُنَا ... وليسَتْ على غيرِ الحديدِ تَسيلُ

يُقَرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنَا لَنا ... وتكْرَهُهُ آجالُهم فتطولُ

وما ماتَ منا سَيدٌ في فراشِهِ ... ولا طُلَّ منا حَيْثُ كانَ قتيلُ

وجعل آخر نفوسهم غذاءً للمنايا فقال:

وإنَّا لَتَسْتَحْليِ المنايا نُفوسَنا ... وتَتْرُكُ أُخرَى مُرّةً ما تَذُوقُها

لنا نَبْعَةٌ تَهْوَى المنيَّةُ رَعْيَهَا ... فَقَدْ ذَهَبتْ إلا قليلاً عُرٌوقُها

أخبار أبي تمام مع أحمد بن أبي دؤاد

حدثني أبو بكر بن الخراساني قال، حدثني علي الرازي قال: شهدت أبا تمام، وغلام له
ينشد ابن أبي دؤاد:

لقد أَنْسَتْ مَسَاوِئَ كلِّ دَهْرٍ ... محاسِنُ أحمدَ بنِ أبي دُؤادِ

فما سافرتُ في الآفاقِ إلاَّ ... ومِنْ جَدْواكَ راحِلتَي وَزَادِي

مُقيمُ الظَّنِّ عندكَ والأَمانيِ ... وإِنْ قَلِقَتْ رِكاَبي في الْبِلاَدِ

فقال له: يا أبا تمام، أهذا المعنى الأخير مما اخترعته أو أخذته؟ فقال: هو لي، وقد ألممت
بقول أبي نواس:

وإِنْ جَرَتِ الألفاظُ منا بِمدْحَةٍ ... لغيرِكَ إنساناً فأنتَ الذي نَعْنِي

قال أبو بكر: وكنت يوماً في مجلسٍ فيه جماعة من أهل الأدب والعصبية لأبي نواس حتى يفرطوا، فقال بعضهم: أبو نواس أشعر من بشار، فرددت ذلك عليه، وعرفته ما جهله من فضل بشار وتقدمه، وأخذ جميع المحدثين منه، واتباعهم أثره، فقال لي: قد سبق أبو نواس إلى معانٍ تفرد بها، فقلت له: ما منها؟ فجعل كلما أنشدني شيئاً جئت بأصله، فكان من ذلك قوله:

إذا نحن أَثْنَيْنَا عليكَ بِصَالحٍ ... فأَنتَ كما نُثْنِي وفوقَ الذي نُثْنِي

وإِنْ جَرَتِ الألفاظُ يوماً بِمدْحَةٍ ... لغيرِكَ إنْسَاناً فأنتَ الذي نَعْنِي

فقلت: أما البيت الأول فهو من قول الخنساء:

فما بَلَغَ المُهْدُونَ للناسِ مدُحةً ... وإن أطنَبُوا إلاَّ الذي

ومن قول عدي بن الرقاع:

أُثنى فلا آلُو وأعْلمُ أنّه فوق الذي أثنى به

وأما البيت الثاني فمن قول الفرزدق لأيوب بن سليمان بن عبد الملك:

وما وامَرَتْنِي النفسُ في رِحلَةٍ لها ... إلَى أَحدٍ إلاَّ إليك ضميُرها
حدثني أحمد بن إبراهيم قال، حدثني محمد بن روح الكلابي قال: نزل على أبو تمام الطائي، فحدثني أنه امتدح المعتصم بسر من رأي بعد فتح عمورية، فذكره ابن أبي دؤاد للمعتصم، فقال له:
أليس الذي أنشدنا بالمصيصة الأجش الصوت؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن معه راويةً حسن النشيد، فأذن له، فأنشده راويته مدحه له، ولم يذكر القصيدة، فأمر له بدراهم كثيرةٍ، وصك ماله على إسحاق بن إبراهيم المصعبي. قال أبو تمام: فدخلت إليه بالصك، وأنشدته مديحاً له، فاستحسنه وأمر لي بدون ما أمر لي به المعتصم قليلاً وقال: والله لو أمر لك أمير المؤمنين بعدد الدراهم دنانير لأمرت لك بذلك.

حدثني أبو علي الحسين بن يحيى الكاتب قال، حدثني محمد بن عمرو الرومي قال: ما رأيت قط أجمع رأياً من ابن أبي دؤاد، ولا أحضر حجةً، قال له الواثق: يا أبا عبد الله رفعت إلى رقعة فيها كذب كثير، قال: ليس بعجبٍ أن أحسد على منزلتي من أمير المؤمنين فيكذب علي، قال: زعموا فيها أنك وليت القضاء رجلاً ضريراً، قال: قد كان ذاك، وكنت عازماً على عزله حين أصيب ببصره، فبلغني عنه أنه عمى من كثرة بكائه على أمير المؤمنين المعتصم، فحفظت له ذاك، قال: وفيها أنك أعطيت شاعراً ألف دينارٍ، قال: ما كان ذاك، ولكني أعطيته دونها، وقد أثاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير الشاعر، وقال في آخر: أقطع عني لسانه. وهو شاعر مداح لأمير المؤمنين مصيب محسن، ولو لم أرع له إلا قوله للمعتصم صلوات الله عليه في أمير المؤمنين أعزه الله:

فاشدُدْ بهارُونَ الخلافةَ إِنه ... سَكَنٌ لوحْشِتها ودارُ قَرَارِ

ولقد علمتُ بأنَّ ذلكَ مِعصَمٌ ... ما كنتَ تتركهُ بغيرِ سِوَارِ

فقال: قد وصلته بخمسمائة دينار. قال: ودخل أبو تمام على أحمد بن أبي دؤاد، وقد شرب الدواء فأنشده:

أَعْقَبكَ اللهُ صحةَ البدَنِ ... ما هتفَ الهاتفاتُ في الغُصُنِ

كيفَ وَجَدْتَ الدواءَ أَوجَدَك الله ... شِفَاءً بِه مَدَى الزَّمَنِ

لا نَزَعَ اللهُ منك صَالحةً ... أَبْليتَها من بلائك الحسنِ

لا زلتَ تُزْهَي بكلِّ عافِيَةٍ ... تَجْتَنُّهَا مِنْ مَعَارِض الفِتنِ

إنَّ بقاءَ الجوادِ أحمدَ في ... أعناقِنا مِنَّةٌ من المِنَنِ

لو أنَّ أَعمارَنَا تُطَاوِعُنَا ... شَاطَرَةُ العُمْرَ سَادةُ اليَمنِ

حدثني أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالزائر قال: حدثني أبي قال: دخل أبو تمام على أحمد بن أبي دؤاد، وقد كان عتباً عليه في شيء فاعتذر إليه، وقال: أنت الناس كلهم، ولا طاقة لي بغضب جميع الناس! فقال له ابن أبي دؤاد: ما أحسن هذا فمن أين أخذته؟ قال: من قول أبي نواس:

وليسَ للهِ بمُستنْكَرٍ ... أنْ جَمعَ العاَلَم في وَاحِدِ

سمعت محمد بن القاسم يقول: قال ابن أبي دؤاد لأبي تمام: إن لك أبياتاً أنشدتها لو قلتها زاهداً أو معتبراً أو حاضاً على طاعة الله جل وعز لكنت قد أحسنت وبالغت فأنشدنيها، قال: وما هي؟ قال: التي قافيتها "فأدْخُلَهَا" فأنشده:

قل لابن طَوْقٍ رَحَى سَعدٍ إذَا خَبَطَتْ ... نَوائِبُ الدّهرِ أَعْلاَها وأَسْفلَها

أَصْبحتَ حَاتِمهَا جُوداً، وأَحنَفَها ... حِلْماً، وكَيِّسهَا عِلْماً وَدَغْفَلَها

مالي أَرى الحُجْرةَ الفَيْحاءَ مُقْفَلَةً ... عنِّي وقد طالما استفتَحْتُ مُقْفَلَهَا؟

كأنَّها جنَّةُ الفِردْوسِ مُعْرِضَةً ... وليسَ لي عَمَلٌ زَاكٍ فأدْخلَها

حدثني عون بن محمد قال، حدثني محمود الوراق قال: كنت جالساً بطرف الحير حير سر من رأى، ومعي جماعة لننظر إلى الخيل، فمر بنا أبو تمام فجلس إلينا، فقال له رجل منا: يا أبا نمام، أي رجلٍ أنت لو لم تكن من اليمن؟ قال له أبو تمام: ما أحب أني بغير الموضع الذي اختاره الله لي، فممن تحب أن أكون؟ قال من مضر. فقال أبو تمام إنما شرفت مضر بالنبي صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك ما قيسوا بملوكنا وفينا كذا وفينا كذا، ففخر وذكر أشياء عاب بها نفراً من مضر، قال: ونمي الخبر إلى ابن أبي دؤاد وزادوا عليه، فقال: ما أحب أن يدخل إلى أبو تمام، فليحجب عني، فقال يعتذر إليه ويمدحه:

سَعِدتْ غُرْبةُ النَّوى بسُعَادِ ... فَهْيَ طَوعُ الإِتْهَامِ والإنْجادِ

شابَ رأسِي وما رأيتُ مَشيبَ الرَّ ... أُسِ إلاَّ من فَضْلِ شَيْبِ الفُؤادِ

وكذاكَ القُلوبُ في كلِّ بؤْسٍ ... ونَعيمٍ طلائعُ الأَجْسادِ

طال إِنكاريَ البيَاضَ وإنْ عُمْى ... مِرتُ شيئاً أَنْكَرتُ لَوْنَ السَّوادِ

يا أَبا عبد الله أَوْرَيتْ زَنْداً ... في يَدِي كَانَ دَائِمَ الإِصْلادِ

أنتَ جُبْتَ الظَّلاَمَ عن سُبُلِ الْ ... آمَالِ إذْ ضَلَّ كلُّ هَادٍ وحَادي

وضِيَاءُ الآمَالِ أَفْسَحُ في الطّرْ ... فِ وَفيِ القَلْبِ مِنْ ضِيَاء البِلاَدِ

ثم وصفَ قوماً لزموا ابن أبي دؤاد، وأنه أحظ به مع ذاك منهم، فقال:

لَزِمُوا مَرْكزَ النَّدَى وذَرَاهُ ... وعَدَتْنا عَنْ مِثلِ ذاكَ العَوادي

غيرَ أنَّ الرُّبَى إلى سَبَلِ الأَنْ ... وَاءِ أَدْنَى والحظُّ حظُّ الوِهَاد

بَعْدَ ما أَصْلَتِ الوُشَاةُ سُيوفاً ... قَطَعَتْ فيَّ وهْيّ غَيرُ حِدَاد

مِنْ أَحاديثَ حِينَ دَوَّخْتَها بالرَّ ... أيِ كانتْ ضَعيفَةَ الإِسْنَاد

فنَفَى عَنْكَ زُخْرفَ القَوْلِ سَمْعٌ ... لم يكُنْ فُرصَةً لِغيرِ السَّدَاد

ضَرَبَ الحِلْمُ والوَقَارُ عَليْه ... دُونَ عُورِ الكَلامِ بالأَسْداد

وحَوَانٍ أَبَتْ عليْها المعَاليِ ... أَنْ تُسْمَّى مَطِيَّةَ الأَحْقَاد

وقد أفصح عما قرف به، واعتذر منه إلى ابن دؤاد، فقال وهو عندي من أحسن الاعتذار:

سَقَى عَهْدَ الحِمى سَبَلُ العِهَادِ ... ورَوَّضَ حَاضِرٌ مِنْه وَبادِي

ثم قال:

وَإنْ يَكْ مِنْ بَنِي أُدَدٍ جَنَاحي ... فإنَّ أَثيِثَ رِيشيِ في إِيَادِ

لَهُمْ جَهْلُ السِّبَاعِ إذَا المنَايا ... تَمَشَّتْ في القَنَا وَحُلُومُ عَاد

لَقدْ أَنْسَتْ مَساوِئَ كلِّ دهْرٍ ... مَحاسِنُ أَحْمدَ بن أَبي دُؤَاد

مَتَى تَحْلُلْ بِهِ تَحْلُلْ جنَاباً ... رَضِيعاً لِلسَّوَاري والغَوادي

فما سَافَرْتُ في الآفَاقِ إلاّ ... وَمِنْ جَدْوَاكَ رَاحِلتَي وَزَادي

مقيمِ الظَّنِّ عِندَكَ والأمانِي ... وَإنْ قلقِتْ رِكاَبي في البِلاَدِ

وهذا من قول أبي نواس:

وَإنْ جَرَتِ الأَلفَاظُ يوماً بِمِدْحَةٍ ... لغْيِركَ إنْسَاناً فأَنتَ الذي نَعْني

مَعَادُ البْعثِ مَعْروُفٌ وَلكنْ ... نَدَى كفَّيْكَ في الدُّنْيَا مَعَادِي

أَتَانِي عَائِرُ الأنْبَاءِ تَسْرِي ... عَقَارِبُهُ بِدَاهِيَةٍ نَآدِ

بِأَنِّي نِلْتُ مِنْ مُضَرٍ وَخَبَّتْ ... إلَيْكَ شَكَّيِتِي خَبَبَ الجَوَادِ

لقد جَازَيتُ بالإحْسَانِ سُوءًا ... إِذَنْ وَصَبَغْتُ عُرْفَكَ بالسَّوَادِ

وَسِرْتُ أَسُوقُ عِيرَ اللُّؤْمِ حَتى ... أَنَخْتُ الكُفْرَ فيِ دَارِ الجِهَادِ

وَلَيْسَتْ رُعْوَتِي مِنْ فوْقِ مَذْقٍ ... وَلاَ جَمْرِي كمِينٌ في الرَّمَادِ

تَثَبَّتْ، إِنَّ قَوْلاً كانَ زُوراً ... أَتَى النُّعْمَانَ قَبْلَكَ عَنْ زِيَادِ

إلَيْكَ بَعَثتُ أَبْكَارَ المَعَانيِ ... يَلِيهَا سَائِقٌ عَجِلٌ وَحَادِي

يُذَلّلُها بِذِكرِكَ قِرْنُ فكْرٍ ... إذَا حَرَنتْ فتَسْلَسُ في الْقِيَادِ

مُنَزَّهَةُ عَنِ السَّرَقِ المُوَرَّي ... مُكَرَّمَةً عَنِ المعْنى المُعَادِ

تَنَصَّلَ رَبُّهَا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ ... إلَيْكَ سِوَى النّصِيحَةِ وَالوِدادِ

وَمَنْ يَأذَنْ إلى الوَاشِينَ تُسْلَقْ ... مَسَامِعُهُ بأَلْسِنَةٍ حِدَادِ

وطال غضب ابن أبي دؤادٍ عليه، فما رضى عنه حتى شفع فيه خالد بن يزيد الشيباني، فعمل قصيدةً يمدح ابن أبي دؤاد، ويذكر شفاعة خالد بن يزيد إليه، وأغمض مواضع منها في اعتذاره فما فسرها أحد قط، وإنما سنح لي استخراجها لحفظي للأخبار التي أومأ إليها، فأما من لا يحفظ الأخبار فإنها لا تقع له، وأولها:

أَرَأََيْتَ أَيُّ سَوالِفٍ وَخُدُودِ ... عَنَّتْ لَنا بينَ الِّلوَى فَزَرُود؟

فقال فيها:

فاسْمَعْ مقالة زائرٍ لم تَشْتَبهْ ... أرْآؤُهُ عِنْدَ اشْتِباهِ البيدِ

أَسْرَى طَرِيداً لِلْحَيَاءِ مِنَ التَّي ... زَعَمُوا، ولَيْسَ لِرَهْبَةٍ بِطَريِدِ

كُنْتَ الرَّبيعَ أَمَامَهُ، وَوَرَاءَهُ ... قَمَرُ القَبائلِ خَالِدُ بن يَزِيدِ

فَالغَيْثُ مِنْ زُهُرٍ سَحابةُ رَأفةٍ ... وَالرُّكْنُ مِنْ شَيْبَانَ طَوْدُ حَديِد

زهر والحذاق قبيلتان من إيادٍ رهط ابن أبي دؤاد.

وَغَداً تَبَيَّنُ مَا بَرَاءَةُ سَاحَتِي ... لَوْ قدْ نَفَضْتَ تَهائِمي ونُجَودِي

هذَا الْوَليدُ رَأَى التَثَبُّتَ بَعْدَمَا ... قَالوا يَزيِدُ بنُ المُهَلَّبِ مُودِي

يعني الوليد بن عبد الملك، لما هرب يزيد بن المهلب من حبس الحجاج، واستجار بسليمان بن عبد الملك، وكتب الحجاج في قتله إلى الوليد، فلم يزل سليمان بن عبد الملك وعبد العزيز بن الوليد يكلمانه فيه، فقال: لابد من أن تسلموه إلي، ففعل سليمان ذلك، ووجه معه بأيوب ابنه، فقال: لا تفارق يدك يده، فإن أريد بسوءٍ فادفع عنه حتى تقتل دونه.

فَتَزَعْزَعَ الزُّورُ المؤَسَّسُ عِندَهُ ... وَبِنَاءُ هذَا الإِفكِ غَيْرُ مَشِيدِ

وتَمَكَّنَ ابنُ أبِي سَعيدٍ مِنْ حِجَي ... مَلِكٍ بشُكْرِ بني الملوكِ سَعيدِ

-ابن أبي سعيد- يعني يزيد بن المهلب، لأن كنية المهلب أبو سعيد. -من حجي ملك- يعني سليمان بن عبد الملك. - بشكر بني الملوك-يعني آل المهلب، أن سليمان يسعد باقي الدهر بشكرهم له.

ما خَالدٌ لِي دُونَ اَيُّوبٍ وَلاَ ... عَبْدِ العَزِيزِ وَلَسْتَ دُونَ وَليدِ

يقول: شفيعي خالد بن يزيد، وليس هو عندك بدون عبد العزيز بن الوليد، وأيوب بن سليمان عند الوليد؛ هو بك أخص من ذينك بالوليد، ولا أنت دون وليدٍ في الرأي، وجميل العفو.

نَفْسِي فِدَاؤُكَ أَيُّ بابِ مُلمَّةٍ ... لم يُرْمَ فِيهِ إلَيكَ بالإقليدِ

لَمَّا أَظَلَّتْني غَمامُكَ أَصْبَحَتْ ... تِلْكَ الشُّهُودُ عَلَىَّ وَهْيَ شُهُودِي

مِنْ بَعْدِ مَا ظَنُّوا بأنْ سَيَكُونُ لِي ... يَوْمٌ بِبَغْيِهِمِ كَيَوْمِ عَبيدِ

يعني عبيد بن الأبرص: لقي النعمان في يوم بؤسه وهو يوم كان يركب فيه، فلا يلقاه أحد إلا قتله، وخاصة أول من يلقاه، فلقيه عبيد فقتله.

نَزَعوا بَسهْمِ قَطيِعةٍ يَهْفُو بِهِ ... ريِشُ العُقُوقِ فكَانَ غَيْرَ سَدِيدِ

وإذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضيِلَةٍ ... طُويِتْ أَتَاحَ لَها لِسَانَ حَسُودِ

لَوْلاَ اشْتِعالُ النَّارِ فيما جَاوَرتْ ... مَا كَانَ يُعْرفُ طِيبُ عَرْفٍ العُودِ

لَوْلاَ التَّخَوُّفُ لِلْعَواقِبِ لم تَزَلْ ... للِْحاسِدِ النُّعْمَى عَلَى المحْسُودِ

الحمد الله وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما.

أخبار أبي تمام مع خالد بن يزيد الشيباني "بسم الله الرحمن الرحيم"

حدثنا محمد بن يزيد النحوي، وكان قد عمل كتباً لطافاً، فكنت أنتخب منها وأقرأ عليه، فقرأت عليه من كتابٍِ سماه كتاب -الفطنِ والمحَنِ- قال: خرج أبو تمام إلى خالد بن يزيد بن مزيد، وإلى أرمينية، فامتدحه فأمر له بعشرة آلاف درهم ونفقةٍ لسفره، وأمره ألا يقيم إن كان عازماً على الخروج. فودعه ومضت أيام، فركب خالد ليتصيد، فرآه تحت شجرة وقدامه زكرة فيها نبيذ وغلام بيده طنبور، فقال: حبيب؟ قال: خادمك وعبدك، قال: ما فعل المال؟ فقال:

عَلَّمَني جُودُكَ السَّماحَ فَما أَبْ ... قَيْتُ شَيْئاً لَدَىَّ مِنْ صِلَتِكْ

مَا مَرَّ شَهْرٌ حَتىَّ سمَحْتُ بهِ ... كأنّ ليِ قُدْرَةً كَمَقْدُرَتكْ

تُنْقِقُ في اليَوْمِ بِالْهِبَاتِ وفي ... السَّاعَةِ مَا تَجْتَبِيِه في سَنَتِكْ

فلستُ أَدْرِي مِنْ أَينَ تُنفِقُ لَوْ ... لاَ أَنَّ رَبِّى يَمُدُّ في هِبَتِكْ

فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى فأخذها. وكان قوله: -علمني جودكَ السماحَ- من قول ابن الخياط المديني، وقد امتدح المهدي فأمر له بجائزةٍ ففرقها في دار المهدي وقال:

لَمَسْتُ بِكَفِّي كَفَّهُ أبْتغِي الغِنَى ... وَلَمْ أَدْرِ أَنّ الْجُودَ مِنْ كَفِّهِ يُعْدي

فَلاَ أَنَا مِنْهُ ما أَفادَ ذَوُو الغِنَى ... أَفَدْتُ، وَأعْدَانِي فَبَدَّدْتُ ما عِنْدِي

فبلغ المهدي خبره، فأضعف جائزته، وأمر بحملها إلى بيته.

حدثني عبد الله بن إبراهيم المسمعي القيسي قال، حدثني أبي قال، حدثني أبو توبة الشيباني -ولم أر أفصح منه- قال: حضرت عشيرنا وأميرنا خالد بن يزيد، وعنده رجل كثير الفكاهة حسن الحديث، فأعجبني جداً، فقال الأمير أبو يزيد: أما سمعت شعره فينا؟ ما رأيت أحسن بياناً منه، ولا أفصح لسانا!

مَا لِكَثيبِ الحِمَى إلى عَقِدِهْ ... مَا بالُ جَرْعَائِهِ إلى جَرَدِهْ

إلى أن قال:

نِعْمَ لِوَاءُ الخَميسِ أُبْتَ بهِ ... يَوْمَ خَمِيسٍ عَالِي الضُحَى أَفِدِهْ

خِلْت عُقاباً بَيْضَاءَ فيِ حُجُرا ... تِ المُلْكِ طارَتْ منه وفي سُدَدِهْ

فَشَاغَب الجوَّ وَهْوَ مَسْكَنُهُ ... وقاتَلَ الرِّيحَ وَهْيَ مِنْ مَدَدِهْ

وَمرَّ تَهْفُو ذُؤابَتَاهُ عَلَى ... أَسْمَرِ مَتْنٍ يَوْمَ الوَغَى جَسِدِهْ

تَخْفِقُ أَثْنَاؤُهُ عَلَى مَلِكٍ ... يَرَى طِرَادَ الأبْطَالِ من طَرَدِهْ

وهَلْ يُسَاميِكَ في العُلاَ مَلِكٌ ... صَدْرُكَ أَوْلَى بالرُّحْبِ من بَلَدِهْ؟

أَخْلاَقُكَ الغُرُّ دُونَ رَهْطِكَ أَثْ ... رَى مِنهُ في رَهْطِهِ وَفيِ عَدَدِهْ

فما سمعت مثل قوله، وطربت فرحا أن يكون من ربيعة، فقلت: ممن الرجل؟ فقال: من طيئ، وولائي لهذا الأمير، فقلت: يا أسفي ألا تكون ربعياً أو نزارياً، ثم أمر له الأمير أبو يزيد بعشرة آلاف درهم بيضاً، ووالله ما كافأه. وفي هذه القصيدة ذكر شفاعة خالدٍ إلى ابن أبي دؤاد فيما تقدم ذكره، فقال:

باللهِ أَنْسَى دِفَاعَهُ الزُّورَ مِنْ ... عَوْرَاءَ ذي نَيْرَبٍ ومِنْ فَنَدِهْ

وَلاَ تناسَى أحيَاءُ ذيِ يَمَنٍ ... مَا كانَ مِنْ نصْرِهِ ومِنْ حشَدِهْ

آثَرَنِي إذْ جَعَلْتُهُ سَنَداً ... كلُّ امْرِئٍ لاَجئٌ إلى سَنَدِهْ

حدثني أبو بكر القنطري قال، حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: كان خالد بن يزيد الشيباني بقية الشرف والكرم، وأوسع الناس صدراً في إعطاء الشعراء. دفع إلى عمارة بن عقيل ألف دينار لقوله فيه:

تَأْبَى خلائقُ خالدٍ وَفَعَالُهُ ... إلا تَجنُّبَ كلِّ أَمْرٍ عائبِ

وإذا حَضَرْنَأ الْبَابَ عِنْدَ غَدَائِه ... أَذِنَ الغَدَاءُ لَنَا برَعْمِ الحاجِبِ

قال: وأخذ أبو تمام بمدحه له أضعاف هذا.

وجدت بخط ابن أبي سعيد، حدثني إسماعيل بن مهاجر قال، حدثني وكيل للحسن بن سهل يعرف بالبلخي قال: استنشد خال بن يزيد أبا تمام قصيدته في الأفشين التي ذكر فيها المعتصم وأولها:
غَدَا المُلْكُ مَعْمُورَ الحَرَا وَالمْنَازِلِ ... مُنَوَّرَ وَحْفِ الَّروْضِ عَذْبَ المَنَاهِلِ

فلما بلغ إلى قوله:

تَسَربَلَ سِرْبالاً مِنَ الصَّبْرَ وارْتَدَي ... عَليهِ بِعَضْبٍ في الكَريهِة قَاصِلِ

وَقَدْ ظُلِّلَتْ عِقْبانُ أَعْلاَمِهِ ضُحىً ... بِعِقْبَانِ طَيْرٍ في الدِّمَاءِ نَوَاهِلِ

أَقَامَتْ مَعَ الرَّاياتِ حَتَّى كأَنَّهَا ... مِنَ الجَيشِ إلاّ أَنَّهَا لَمْ تُقَاتِلِ

قال له خالد: كم أخذت بهذه القصيدة؟ قال: ما لم يرو الغلة، ولم يسد الخلة. قال: فإني أثيبك عنها، قال: ولم ذاك، وأنا أبلغ الأمل بمدحك؟ قال: لأني آليت لا أسمع شعراً حسناً مدح به رجل فقصر عن الحق فيه إلا نبت عنه. قال: فإن كان شعراً قبيحاً؟ قال: أنظر فإن كان أخذ شيئاً استرجعته منه!. وقد أحسن أبو تمام في هذا المعنى وزاد على الناس بقوله: -إلا أنها لم تقاتل-، وقد قال مسلم قبله:

قد عَوَّدَ الطيَر عاداتٍ وَثقْنَ بِها ... فهُنَّ يَتْبعْنَهُ في كلِّ مُرْتَحَلِ

وأحسن من هذا قول أبي نواس في العباس بن عبيد الله:

وَإِذَا مَجَّ القَنَا عَلَقاً ... وتَرَاءَى الموتُ في صُوَرِهُ

رَاحَ في ثنيْ مُفَاضَتِهِ ... أَسَدٌ يَدْمَى شَبَا ظُفُرِهْ

تَتآيَا الطَّيرُ غَدْوَتَهُ ... ثِقَةً بِالشِّبْعِ مِنْ جَزَرِهْ

ولا أعلم أحداً قال في هذا المعنى أحسن مما قاله النابغة، وهو أولى بالمعنى، وإن كان قد سبق إليه، لأنه جاء به أحسن. وقد ذكرنا شريطة السرقات قبل هذا، قال النابغة:

إِذَا ما غَدَوْا بالجيشِ حَلَّق فوقَهمُ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتدِي بَعصائِبِ

جَوَانحَ قد أَيْقَنَّ أَنَّ قَبيلَهُ ... إِذا مَا الْتَقَى الْجَمْعانِ أوَّلُ غالبِ

وهو من قول الأفوه الأودي في قصيدةٍ أولها:

يا بَنيِ هَاجَرَ سَاءَتْ خُطَّةُ ... أَنْ تَرُومُوا النِّصْفَ مِنَّا وَمَحَارْ

فقال فيها:

فَتَرى الطَّيْرَ على آثارِنَا ... رَأىَ عَيْنٍ ثِقَةً أَنْ سَتُمارُ

الحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى أله وصحبه وسلم تسليماً.
أخبار أبو تمام مع الحسن بن رجاء "بسم الله الرحمن الرحيم"

حدثنا عون بن محمد الكندي قال، حدثني محمد بن سعد أبو عبد الله الرقي – وكان يكتب للحسن بن رجاء - قال: قدم أبو تمام مدحاً للحسن بن رجاء، فرأيت رجلاً علمه وعقله فوق شعره، واستنشده الحسن بن رجاء، ونحن في مجلس شربٍ فأنشده:

كُفِّى وَغَاكِ فَإنَّني لَكِ قَالِي ... ليسَتْ هَوَادِي عَزْمَتيِ بِتَوَالِي

أَنَا ذُو عَرَفْتِ فإنْ عرَتْكِ جَهَالةٌ ... فأَنَا المُقِيمُ قِيَامَةَ العُذَّالِ

فلما قال:

عادَتْ لَهُ أيامُهُ مُسْوَدَّة ... حتّى تَوَهَّمَ أَنّهُنَّ لَيَالِي

قال له الحسن: والله لا تسود عليك بعد اليوم. فلما قال:

لا تُنْكرِي عَطَلَ الْكَرِيِمِ مِنَ الغِنَى ... فالسَّيْلُ حَرْبٌ لِلْمَكانِ العَاليِ

وتَنَظَّرِي خَبَبَ الرِّكَابِ يَنُصُّهَا ... مُحْيِ القَرِيضِ إلىَ مُمِيتَ المَالِ

قام الحسن بن رجاء وقال: والله لا أتممتها إلا وأنا قائم، فقام أبو تمامٍ لقيامه، وقال:

لمَّا بَلغْنَا سَاحَةَ الحسَنِ انْقَضَى ... عنَّا تَمَلُّكُ دوْلَةِ الإمْحَالِ

بَسَطَ الرَّجَاءَ لَنَا بِرَغْمِ نَوَائِبٍ ... كَثْرَتْ بِهنَّ مَصَارِعُ الآمَالِ

أَغْلَى عَذَارَى الشِّعْر، إِنَّ مُهُورَهَا ... عِنْدَ الكِرَامِ إِذَا رَخُصْنَ غَوَالِي

تَرِدُ الظُّنُونَ بِهِ عَلَى تَصْدِيِقَها ... وَيُحَكِّمُ الآمَالَ في الأمْوَالِ

أَضْحَى سَمِىُّ أَبيِكَ فِيكَ مُصَدِّقاً ... بأَجَلِّ فَائِدَةٍ وَأَيْمَنِ فَالِ

وَرَأَيْتَني فَسَأَلْتَ نَفْسَكَ سَيْبَهَا ... لِي، ثُمَّ جُدْتَ وَمَا انْتَظَرْتَ سُؤَالِي

كالْغَيْمِ لَيْسَ لَهُ-أُرِيدَ غِيَاثُهُ ... أَوْ لَمْ يُرَدْ- بُدٌّ مِنَ التَّهْطَالِ

فتعانقا وجلسا، فقال له الحسن: ما أحسن ما جليت هذه العروس! فقال: والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك أوفى مهورها. قال محمد بن سعيد: فأقام شهرين فأخذ على يدي عشرة آلاف درهم، وأخذ غير ذلك مما لم أعلم به، على بخلٍ كان في الحسن بن رجاء. حدثني أبو الحسن الأنصاري قال، حدثني نصير الرومي مولى مبهوتة الهاشمي قال: كنت مع الحسن بن رجاء، فقدم عليه أبو تمام فكان مقيماً عنده، وكان قد تقدم إلى حاجبه ألا يقف ببابه طالب حاجةٍ إلا أعلمه خبره، فدخل حاجبه يوماً يضحك، فقال: ما شأنك؟ فقال: بالباب رجل يستأذن ويزعم أنه أبو تمامٍ الطائي! قال: فقل له ما حاجتك؟ قال: يقول مدحت الأمير - أعزه الله - وجئت لأنشده، قال: أدخله، فدخل فحضرت المائدة، فأمره فأكل معه، ثم قال له: من أنت؟ قال: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، مدحت الأمير أعزه الله، قال: هات مدحك، فأنشده قصيدةً حسنةً، فقال: قد أحسنت، وقد أمرت لك بثلاثة آلاف درهمٍ، فشكر ودعا، وكان الحسن قد تقدم قبل دخوله إلى الجماعة ألا يقولوا له شيئاً، فقال له أبو تمام: نريد أن تجيز لنا هذا البيت، وعمل بيتاً، فلجلج، فقال له: ويحك، أما تستحي، ادعيت اسمي واسم أبي وكنيتي ونسبي، وأنا أبو تمام! فضحك الشيخ وقال: لا تعجل علىَّ حتى أحدث الأمير - أعزه الله- قصتي: أنا رجل كانت لي حال فتغيرت، فأشار على صديق لي من أهل الأدب أن أقصد الأمير بمدح، فقلت له: لا أحسن، فقال أنا أعمل لك قصيدةً، فعمل هذه القصيدة ووهبها لي، وقال: لعلك تنال خيراً، فقال له الحسن: قد نلت ما تريد، وقد أضعفت جائزتك. قال: فكان ينادمه ويتولعون به فيكنونه بأبي تمام.

حدثني أبو بكر القنطري قال، حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: ما سمعت الحسن بن رجاء ذكر قط أبا تمام إلا قال: ذاك أبو التمام، وما رأيت أعلم بكل شيءٍ منه.

حدثني علي بن إسماعيل النوبختي قال، قال لي البحتري: والله يا أبا الحسن لو رأيت أبا تمام الطائي، لرأيت أكمل الناس عقلاً وأدباً، وعلمت أن أقل شيءٍ فيه شعره!. سمعت الحسن بن الحسن بن رجاء يحدث أبا سعيد الحسن بن الحسين الأزدي، أن أباه رأى أبا تمام يوماً يصلي صلاةً خفيفةً، فقال له: أتم يا أبا تمام. فلما انصرف من صلاته قال له: قصر المال، وطول الأمل، ونقصان الجدة، وزيادة الهمة، يمنع من إتمام الصلاة، لا سيما ونحن سفر، فكان أبي يقول: وددت أنه يعاني فروضه كما يعاني شعره، وأني مغرم ما يثقل غرمه؟. وقد ادعى قوم عليه الكفر بل حققوه، وجعلوا ذلك سبباً للطعن على شعره، وتقبيح حسنه، وما ظننت أن كفراً ينقص من شعرٍ، ولا أن إيماناً يزيد فيه. وكيف يحقق هذا على مثله، حتى يسمع الناس لعنه له، من لم يشاهده ولم يسمع منه، ولا سمع قول من يوثق به فيه؟ وهذا خلاف ما أمر الله عز وجل، ورسوله عليه السلام به، ومخالف لما عليه جملة المسلمين. لأن الناس على ظاهرهم حتى يأتوا بما يوجب الكفر عليهم بفعلٍ أو قولٍ، فيرى ذلك أو يسمع منهم، أو يقوم به بينة عليهم. واحتجوا برواية أحمد بن أبي طاهر، وقد حدثني بها عنه جماعة أنه قال: دخلت على أبي تمام وهو يعمل شعراً، وبين يديه شعر أبي نواس ومسلمٍ، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعزى، وأنا أعبدهما من دون الله مذ ثلاثون سنةً. وهذا إذا كان حقاً فهو قبيح الظاهر، ردئ اللفظ والمعنى، لأنه كلام ماجنٍ مشعوفٍ بالشعر. والمعنى أنهما قد شغلاني عن عبادة الله عز وجل، وإلا فمن المحال أن يكون عبد اثنين لعله عند نفسه أكبر منهما، أو مثلهما، أو قريب منهما. على أنه ما ينبغي لجادٍ ولا مازحٍ أن يلفظ بلسانه، ولا يعتقد بقلبه، ما يغضب الله عز وجل، ويتاب من مثله؛ فكيف يصح الكفر عند هؤلاء على رجلٍ، شعره كله يشهد بضد ما اتهموه به، حتى يلعنوه في المجالس؟ ولو كان على حال الديانة لأغروا من الشعراء بلعن من هو صحيح الكفر، واضح الأمر، ممن قتله الخلفاء -صلوات الله عليهم- بإقرارٍ وبينةٍ، وما نقصت بذلك رتب أشعارهم، ولا ذهبت جودتها، وإنما نقصوا هم في أنفسهم، وشقوا بكفرهم. وكذلك ما ضر هؤلاء الأربعة، الذين أجمع العلماء على أنهم أشعر الناس: امرأ القيس والنابغة الذبياني وزهيراً والأعشى، كفرهم في شعرهم، وإنما ضرهم في أنفسهم. ولا رأينا جريراً والفرزدق يتقدمان الأخطل عند من يقدمهما عليه بإيمانهما وكفره، وإنما تقدمهما بالشعر. وقد قدم الأخطل عليهما خلق من العلماء، وهؤلاء الثلاثة طبقة واحدة، وللناس في تقديمهم آراء.
حدثني القاسم بن إسماعيل قال، حدثنا أبو محمد التوجي عن خلف الأحمر قال: سئل حماد الراوية عن جريرٍ والفرزدق والأخطل أيهم أشعر؟ فقال: الأخطل، ما تقول في رجلٍ قد حبب إلى شعره النصرانية! وهذا أيضاً مزح من حماد، وفرط شعفٍ بشعر الأخطل. ولو تأول الناس عليه كما تأولوا على أبي تمام لكان ما قال قبيحاً، وما أحسب شعر أبي تمام، مع جودته وإجماع الناس عليه، ينقص بطعن طاعنٍ عليه في زماننا هذا، لأني رأيت جماعةً من العلماء المتقدمين، ممن قدمت عذرهم في قلة المعرفة بالشعر ونقده وتمييزه، وأريت أن هذا ليس من صناعتهم، وقد طعنوا على أبي تمامٍ في زمانهم وزمانه، ووضعوا عند أنفسهم منه، فكانوا عند الناس بمنزلة من يهذي، وهو يأخذ بما طعنوا عليه الرغائب من علماء الملوك، ورؤساء الكتاب، الذين هم أعلم الناس بالكلام منثوره ومنظومه، حتى كان هو يعطي الشعراء في زمانه ويشفع لهم؛ وكل محسنٍ فهو غلام له، وتابع أثره. ومن الإفراط في عصبيتهم عليه، ما حدثني به أبو العباس عبد الله بن المعتز قال: حدثت إبراهيم بن المدبر -ورأيته يستجيد شعر أبي تمام ولا يوفيه حقه- بحديثٍ حدثنيه أبو عمرو بن أبي الحسن الطوسي، وجعلته مثلاً له، قال: وجه بي أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً، وكنت معجباً بشعر أبي تمامٍ، فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:

وعاذِلٍ عَذَلْتُهُ في عَذْلِهِ ... فَظَنَّ أَنَّي جَاهِلٌ مِن جَهْلِهِ

حتى أتممتها، فقال: اكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها! قلت: إنها لأبي تمام فقال: خرق خرق!. وكان عبد الله قد عمل بعد هذا الخبر كلاماً يتبعه به فكتبته عنه، قال عبد الله: وهذا الفعل من العلماء مفرط القبح، لأنه يجب ألا يدفع إحسان محسن، عدواً كان أو صديقاً، وأن تؤخذ الفائدة من الرفيع والوضيع، فإنه يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ-صلوات الله عليه- أنه قال: الحكمة ضالة المؤمن، فخذ ضالتك ولو من أهل الشرك. ويروى عن بزر جمهر أنه قال: أخذت من كل شيءٍ أحسن ما فيه، حتى انتهيت إلى الكلب والهرة والخنزير والغراب. قيل: وما أخذت من الكلب؟ قال: إلفه لأهله، وذبه عن حريمه. قيل: فمن الغراب؟ قال: شدة حذره. قيل: فمن الخنزير؟ قال: بكوره في إرادته. قيل: فمن الهرة؟ قال: حسن رفقها عند المسألة، ولين صياحها.

قال أبو العباس: ومن عاب مثل هذه الأشعار، التي ترتاح لها القلوب، وتجذل بها النفوس، وتصغي إليها الأسماع، وتشحذ بها الأذهان، فإنما غض من نفسه، وطعن على معرفته واختياره. وقد روى عن عبد الله بن العباس رحمه الله أنه قال: الهوى إله معبود، واحتج بقول الله جل وعز: "أفرأيتَ مَنِ اتخذَ إلههُ هَوَاهُ". انقضى كلام عبد الله.

حدثني علي بن محمد الأسدي قال: حدثني أحمد بن يحيى ثعلب قال: وقف ابن الأعرابي على المدائني فقال له: إلى أين يا أبا عبد الله؟ قال: إلى الذي هو كما قال الشاعر:
تَحْمِلُ أَشْبَاحَنَا إلى مَلِكٍ ... نَأخُذُ مِنْ مَالِهِ ومِنْ أَدَبِهْ
قال أبو بكر: فتمثل بشعر أبي تمام وهو لا يدري، ولعله لو درى ما تمثل به. وكذلك فعل في النوادر: جاء فيها بكثيرٍ من أشعار المحدثين، ولعله لو علم بذلك ما فعله. وقد رأينا الأعداء يصدقون في أعدائهم، لا لنيةٍ في تقديمهم، ولا لمحبةٍ في رفعهم وتقريظهم، ولا لديانة يرعونها فيهم، ولكن يفعلونه حياطةً لأنفسهم، وتنبيهاً على فضلهم وعلمهم. فمن ذلك قول عمارة بن عقيل وقد أنشد قصيدةً للفرزدق يهجو بها جريراً: أكل والله أبي، أكل والله أبي! ومن ذلك قول الفرزدق، وقد سمع قول جريرٍ، حدثني به الفضل بن الحباب، قال: حدثني محمد بن سلام عن مسلمة بن محارب بن سلم بن زياد قال: كان الفرزدق عند أبي في مشربةٍ له، فدخل رجل فقال: وردت اليوم المربد قصيدة لجرير، تناشدها الناس، فامتقع لون الفرزدق، فقال له: ليست فيك يا أبا فراس قال: ففيمن؟ قال: في ابن لجأ التيمي، قال: أحفظت منها شيئاً؟ قال: نعم، علقت منها ببيتين، قال: ما هما؟ فأنشده:

لئِنْ عُمِّرَتْ تَيْمٌ زماناً بِعِزَّةٍ ... لقَد حُدِيَتْ تيمٌ حُدَاءً عَصَبْصَبا

فلا يَضْغَمَنَّ الليثُ عُكْلاً بِعِرَّةٍ ... وعُكْلٌ يَشَمُّونَ الفَرِيسَ المُنَيَّبَا

وفسر لي أبو خليفة وأبو ذكوان جميعاً هذا المعنى عن ابن سلام قال: الليث إذا ضغم الشاة ثم طرد عنها جاءت الغنم تشم ذلك الموضع فيغترها فيخطف الشاة، وعكل إخوة التيم وعدي وثورٍ، وهم بنو عبد مناة بن أدّ. يقول: فلا تنصروهم فأهجوكم وأدعهم. قال ابن سلام: ونحوه قول جرير:

وقُلتُ نَصَاحةً لبني عَدِيٍّ ... ثِيابَكُم وَنَضْحَ دَمِ القَتِيلِ

فقال الفرزدق: قاتله الله، إذا أخذ هذا المأخذ فما يقام له: يعني الروي على الياء. وقال ابن سلام

حدثني رجل من بني حنيفة قال، قال الفرزدق: وجدت -ألياء- أم جرير وأباه، أي يجيد إذا ركبها. ومن ذلك قول الراعي في جريرٍ وقد هجاه، حدثني القاضي أبو خليفة الفضل بن الحباب قال:
حدثني محمد بن سلام قال، حدثني أبو البيداء الرياحي قال: مر راكب يتغني:

وَعاوٍ عَوَى من غيرِ شيءٍ رمَيتُه ... بقافيةٍ أَنْفاذُهَا تَقْطُر الدَّمَا

خروج بأَفْوَاهِ الرِّجالِ كأَنَّها ... قَرَى هُنْدُوانّيٍ إذا هُزَّ صَمَّما

فقال الراعي: من بالبيتين؟ قال: جرير، قال: قاتله الله، لو اجتمعت الجن والإنس ما أغنوا فيه شيئاً. قال ابن سلام، قال الراعي: ألامُ أن يغلبني مثل هذا؟

حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن بشار قال، قال بشار لراويته: أنشدني من قول حمادٍ فأنشده:

نُسِبْتَ إلى بُردٍ وأنتَ لغيرِهِ ... فَهَبْكَ لِبُرْدٍ -نِكتُ أمَّكَ- مَنْ بُرْدُ؟

فقال: هاهنا أحد يسمع كلامي؟ قال: لا، قال: أحسن ابن الزانية!. وهذا يكثر جداً، ولكنني أتيت بشيءٍ منه يدل على جميعه. ومثل هذا من نقص ذوي الفضل والمتقدمين في الصنائع من جميع الناس قبيح، وهو من العلماء أقبح. نعوذ بالله من اتباع الهوى، ونصر الخطأ، والكلام في العلم بالمحل واللجاج والعصبية.

حدثني عون بن محمد قال: شهدت دعبلاً عند الحسن بن رجاء، وهو يضع من أبي تمام، فاعترضه عصابة الجرجرائي فقال: يا أبا علي اسمع مني مما مدح به أبا سعيد محمد بن يوسف فإن رضيته فذاك، وأعوذ بالله فيك من ألا ترضاه، ثم أنشده:

أمَا إنَّه لو لا الخليطُ المودِّعُ

فلما بلغ إلى قوله:

لقد آسَفَ الأعداءَ مجْدُ ابن يوسُفٍ ... وذُو النَّقْصِ في الدُّنيا بذيِ الفَضْلِ مُولَعُ

هو السيلُ إنْ واجَهْتَهُ انْقَدْتَ طَوْعَهُ ... وتَقْتَادُهُ مِنْ جانِبَيهِ فَيَتْبَعُ

ولم أرَ نَفْعاً عند مَنْ لَيْسَ ضَائِراً ... ولم أرَ ضَراً عِنْدَ مَنْ لَيْسَ ينفَعُ

مَعاَدُ الورَى بعدَ الممَاتِ، وسَيْبُهُ ... مَعادٌ لنَا قبل المَماتِ ومَرْجِعُ

فقال دعبل: لم ندفع فضل هذا الرجل، ولكنكم ترفعونه فوق قدره، وتقدمونه وتنسبون إليه ما قد سرقه، فقال له عصابة: تقدمه في إحسانه صيرك له عائباً، وعليه عاتباً.

أخبار أبي تمام مع الحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات

حدثني عبد الرحمن بن أحمد قال: وجدت بخط محمد بن يزيد المبرد أن أبا تمام كتب إلى الحسن بن وهب يستسقيه نبيذاً:

جُعِلْتُ فِداكَ، عبد الله عِنديِ ... بعَقْبِ الهجْرِ منهُ والبِعَادِ

لَهُ لُمَةٌ منَ الكُتَّابِ بِيضٌ ... قضَوْا حقَّ الزيارَةِ والوِدادِ

وأحْسَبُ يَوْمَهمُ إنْ لمْ تَجُدْهُمْ ... مُصَادِفَ دعْوَةٍ منهُمْ جَمَادِ

فكَمْ نَوْءٍ من الصَّهْبَاءِ سَارٍ ... وآخَرَ منكَ بالمعْروُفِ غادِ

فَهَذَا يَسْتَهِلُّ عَلَى غَلِيلي ... وهَذَا يَسْتَهلُّ عَلَى تِلاَديِ

دعَوْتُهُمُ عَليكَ وكنتَ مِمنْ ... نُعَيِّنُهُ عَلَى العُقَدِ الجيِادِ

فوجه إليه بمائةٍ دنّ ومائة دينارٍ، وقال: لكل دنٍ دينار.

حدثني عبد الله بن المعتز قال: صار إلي محمد بن يزيد النحوي منصرفاً من عند القاضي إسماعيل، وكان يجيئني كثيراً إذا انصرف من عنده، فأعلمني أن الحارثي الذي يقول فيه ابن الجهم:
لَمْ يَطْلعَا إِلاَّ لآبدَةٍ ... الحارثي وكوكب الذَّنَبِ

دخل إلى القاضي إسماعيل، فأنشده شعراً لأبي تمام إلى الحسن بن وهب، يستسقيه نبيذاً لم أر أحسن منه في معناه، وأنه كره أن يستعيده أو يقول له اكتبه، لحال القاضي، فقلت له: أتحفظ منه شيئاً؟ قال: نعم، أوله: جُعِلتً فِداك عبد الله عندي قال: فأنشدته الأبيات وكنت أحفظها فكتبها بيده وهي هذه الأبيات التي ذكرناها.

حدثنا أحمد بن إسماعيل قال، حدثني عبيد الله بن عبد الله قال: استهدي أبو العيناء مطبوخاً، فوجهت إليه بشيءٍ منه، فاستقله وكتب إلي: أقول للأمير ما قاله أبو تمام لمحمد بن علي بن عيسى القمي، وقد استهداه شراباً فأبطأ رسوله، ثم وجه إليه بشرابٍ أسود قليلٍ، فكتب إليه:

قد عرفنا دلائلَ المنْعِ أوْ مَا ... يُشْبِهُ المنْعَ باحتباسِ الرَّسُولِ

وافتَضَحْنا عند الزَّبِيبِ بما صَحَّ ... لديْهِ مِنْ قُبْحِ وَجْهِ الشَّمُولِ

وهْيَ نَزْرٌ لو أنًّها من دُمُوعِ الصَّبِّ ... لم تَشْفِ منه حَرَّ الغليلِ

قد كتَبْنَا لك الأمانَ فَما تسألُ ... منْهَا عُمْرَ الزمان الطويل

كم مغطى قد اختبرنا نداه ... وعرضنا كثيره بالقليل

قال: فأرضيت أبا العيناء بعد ذلك. ومثل قوله:

وهْي نَزْرٌ لَوْ أنَّها من دمُوع الصَّب

ما حدثنيه أحمد بن إبراهيم الغنوي قال: طلب أبو مالك الرسعني وخاله ذو نواس البجلي الشاعر من صديقٍ له نبيذاً، فوجه إليه بأرطالٍ يسيرة فكتب إليه:

لو كانَ ما أهْدَيْتَهُ إِثْمِداً ... لم يكْفِ إلاَّ مُقْلةً واحدَهْ

بَرَّدْتَ وَاللهِ عَلَى أنَّها ... إليكَ مِنَّا حاجةٌ بارِدَهْ

والبحتري يقول في نحو هذا لأبي أيوب ابن أخت الوزير:

لكَ الخيرُ، ما مِقدَارُ عَفْوي وما جُهْدِي ... وآلُ حُمَيدٍ عنْدَ آخِرِهم عِنْدي؟

تَتابَعتِ الطَّاءَانِ طُوسٌ وَطَيِّئٌ ... فَقُلْ في خُراسانٍ، وإنْ شِئْتَ في نَجْدِ

أَتَوْنِي بِلاَ وَعْدٍ وإنْ لم تَجُدْ لهُمْ ... بِرَاحِهِمِ راحُوا جَمِيعاً عَلَى وَعْدِ

ولم أرَ خِلا كالنَّبيذِ إذَا جفَا ... جفَاكَ لهُ خُلاَّنُهُ وذَوُو الوُدِّ

وممَّا دَهَى الفِتْيَانَ أنَّهُمُ غَدَوْا ... بِآخِرِ شَعبانٍ على أوَّلِ الوَرْدِ

غداً يَحْرُمُ الماءْ القَرَاحُ وَتَنْتَوِى ... وُجوهٌ مِنَ الَّلذَّاتِ مُشْجِيَةُ الفَقْدِ

أَعِنَّا عَلَى يَوْمٍ يُشَيِّعُ لَهْوَنَا... إلَى ليلةٍ فيها لهُ أجَلٌ مُرْدِي

حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: وجه الحسن بن وهب إلى أبي تمام وهو بالموصل
خلعةً فيها خَزُّ ووشْىٌ. فامتدحَه ووصفَ الخلعة في قصيدةٍ أولها:

أَبُو عَليٍ وَسْمِيُّ مُنْتَجِعِهْ ... فاحلُلْ بأَعَلى وَاديِهِ أوْ جَرَعِهْ

ثم وصف الخلعة فقال:

وقد أتاني الرسولُ بالملبسِ الفَخْمِ ... لصيفِ امرئٍ ومُرْتَبَعِهْ

لو أَنها جُلِّلَتْ أوَيْساً لقدْ ... أسْرَعتِ الكِبْرياءُ فيِ وَرَعِهْ

رائقُ خَزٍّ أُجيدَ سَائِرُهُ ... سَكْبٍ تَدينُ الصَّبَا لمُدَّرِعِهْ

وَسِرُّ وَشيٍ كأنَّ شِعْريَ ... أحْيَاناً نَسِيبُ العُيُونِ مِنْ بِدَعِهْ

تَرَكْتَنِي سَامِيَ الجُفُونِ عَلَى ... أَزْلَمِ دَهْرٍ بِحْسْنِهَا جَذَعِهْ

يريد على دهر قديم وهو الأزلم لطوله وقدمه وجذعه، لأن يومه جديد، قال لقيط الإيادي:

يا قَوْم بَيْضَتُكُمْ لاَ تُفْجَعُنَّ بها ... إِني أخافُ عليها الأزلَمَ الجَذَعَا

وقد وصف خلعةً أخرى أحسن من هذا الوصف وجوده. حدثني عون بن محمد قال، حدثني الحسين بن وداع، كاتب الحسن بن رجاء، قال: حضرت محمد بن الهيثم بالجبل وأبو تمام ينشده:
جَادَتْ مَعَاهِدَهُمْ عِهَادُ سَحَابةٍ ... ما عَهْدُها عندَ الدِّيارِ ذَميمُ
قال: فلما فرغ منها أمر له بألف دينار وخلع عليه خلعةً حسنةً، وأقمنا ذلك اليوم عنده، ومعنا أبو تمام، ثم انصرف وكتب إليه في غد ذلك اليوم:

قَدْ كسَانَا من كُسْوَةِ الصَّيْفِ خِرْقٌ ... مُكْتَسِ من مَكاَرِمٍ ومَسَاعِ

حُلَّةً سَابِرِيَّةً ورِداءً ... كَسَحَا القَيْضِ أو رِداءِ الشجاعِ

كالسَّرابِ الرَّقْراقِ في الحُسْنِ إلاّ ... أنّه ليس مِثلَه في الخِدَاعِ

قَصَبِيّاً تَسْتَرَجِفُ الريحُ مَتْنَيْ ... هِ بأمرٍ منَ الغُيُوبِ مُطاعِ

رَجَفَاناً كأنه الدهرَ منهُ ... كبِدُ الصّبِّ أوْحَشَا المُرْتاعِ

لاَزماً ما يَليه تَحْسَبُهُ جُزْ ... ءاً من المثْنَيَيْنِ والأَضْلاعِ

يَطْرُدُ اليومَ ذا الهجير ولو شُبِّ ... هَ في حَرِّهِ بِيَوْمِ الوَدَاعِ

خِلْعَةٌ مِنْ أَغَرَّ أرْوَعَ رَحْبِ الصَّ ... دْرِ رَحْبِ الفُؤَادِ رَحْبِ الذِّرَاعِ

سَوْفَ أَكْسُوكَ ما يُعَفِّى عليْها ... مِنْ ثَنَاءٍ كالبُرْدِ بُرْدِ الصَّنَاعِ

حُسْنُ هاتيكَ في العُيونِ وَهَذَا ... حُسْنُهُ في القُلُوبِ والأَسْمَاعِ

فقال محمد بن الهيثم: من لا يعطي على هذا ملكه؟ والله لا بقى في داري ثوب إلا دفعته إلى أبي تمام؛ فأمر له بكل ثوبٍ يملكه في ذلك الوقت. ونحو قول أبي تمام في البيت الأخير قول عبد الصمد:

بأيْمَنِ طائرٍ وأَسَرِّ فَالِ ... وأَعْلَى رُتْبَةٍ وأجلِّ حالِ

شَرِبتَ الدُّهْنَ ثم خرجتَ منهُ ... خُروجَ المَشْرَفِيِّ من الصِّقالِ

تكشَّفَ عنكَ ما عايْنتَ منهُ ... كَماَ انكَشَفَ الغَمامُ عنِ الهِلالِ

لطُولِ سَلاَمةٍ ولطولِ عُمْرٍ ... بَلَغْتَ بكَ الطِّوَالَ من اللَّياليِ

وَقَدْ أَهْدَيتُ رَيْحَاناً طَرِيفاً ... بِهِ حاجَيْتُ مُسْتَمعِي مقَالِي

وما هو غَيْرُ حاءٍ بَعْدَ ياءٍ ... تُخُبِّرَ بَعْدَ ميمٍ قَبْلَ دالِ

ورَيْحَانُ النَّباتِ يعيشُ يَوْماً ... وليسَ يمُوتُ رَيْحَان المقَالِ

ولَمْ تكُ مُؤْثِراً رَيْحَانَ شَمِ ... عَلَى رَيْحَانِ أَسْمَاعِ الرِّجالِ

ولي أبياتٌ من قصيدة مدحت بها صديقاً لي، وصفت فيها الثياب، وما علمت أن أحداً وصفها حتى قرأت شعر أبي تمام، وقد أحسن فيه غاية الإحسان. قلت:

أين الدَّبِيقُّيِ الذي مَدَّتْ بِهِ ... أيدي النَّسَاءِ فجاءَ طَوْعَ المِغْزَلِ

غَمَضَتْ حَواشِيهِ لدِقَّةِ نَسْجِه ... مِنْ غَيْرِ تَضْليعٍ وغَيْرِ تَسَلْسُلِ

والثَّوْبُ قَدْ يَحْكِي بِدِقّةِ نَسْجِهِ ... نَسْجَ العناكِبِ بالمكانِ المُهْمَلِ

شُغِلَتْ به هِمَمُ المُلوكِ وأُمْهِلَتْ ... صُنَّاعُه فيه ولم تُسْتَعْجَل

فَغَدَا عليكَ مُهَلْهَلاً يَخْفَى عَلَى ... رَاحِ التِّجارِ وليسَ بالمُسْتَرْسِلِ

عِدْلُ الهَوَاءِ إذا صَفَتْ أقْطَارهُ ... وَأَرَقَّهُ نَسْجُ الخَرِيفِ المُقْبِلِ

أوْ مِثْلُ نَسْجِ الشَّمْسِ تَحْسِرُ دُونَهُ ... وتَكِلُّ عَيْنُ النَّاظِرِ المُتَأَمِّلِ

فَكأَنَّهُ عَرَضٌ يَقُومُ بِنَفْسِهِ ... مِنْ غَيْرِ مَا جِسْمٍ لَهُ مُتَقَبِّل

ولا أعرف شيئاً قبل هذا في وصف ثوبٍ ولا غزلٍ إلا ما حدثني به محمد بن يزيد النحوي قال: أنشدني عمرو بن حفص المنقري لأبي حنش النميري في رجلٍ ولي الإمارة بعد أن كان حائكاً:

للهِ سَيْفُكَ ما أَكَلَّ وُقُوعَهُ ... أَيامَ أنتَ بضرْبِه لا تَقْتُلُ

إلاَّ خُيُوطاً أُبْرِمَتْ طَاقَاتُها ... تُثْنَى بأَطْرافِ البنَانِ وَتُفْتَلُ

بِيضاً تُباهِي العَنكبوتَ بِنَسْجِهَا ... كالَّرقِّ رَقَّقَ غَزْلُهنَّ المِغْزَلُ

ما زلتَ تضْربُ في الغُزُولِ بِحَدِّهِ ... حتَّى حَدِبْتَ وَزَالَ مِنكَ المَفْصِلُ

أيامَ قِدْرُكَ لاَ تَزَالُ نَضِيجَةً ... مِنْ أَرْدَاهَاجٍ ليسَ فيه فُلْفُلُ

حدثني محمد بن موسى قال: كان أبو تمام يعشق غلاماً خزرياً كان للحسن بن وهبٍ، وكان الحسن يتعشق غلاماً كان لأبي تمام رومياً، فرآه أبو تمام يوماً يعبث بغلامه فقال: والله لئن أعنقت إلى الروم لنركضن إلى الخزر. فقال ابن وهب: لو شئت لحكمتنا واحتكمت، فقال له أبو تمام: أنا أشبهك بداود وأشبهني بخصمه. فقال الحسن: لو كان هذا منظوماً خفناه، فأما منثوراً فهو عارضٌ لا حقيقة له، فقال أبو تمام:

أبا عَليٍ لِصَرْفِ الدَّهْرِ والغِيَرِ ... وللحوادِثِ والأيامِ والعِبَرِ

أذْكَرْتَني أَمْرَ دَاودٍ وكُنْتُ فَتىً ... مُصَرَّفَ القَلْبِ في الأَهْوَاءِ والذِّكَرِ

أَعِنْدَكَ الشَّمسُ لم يَحْظَ المَغِيبُ بها ... وأنتَ مُضْطَرِبُ الأحْشاءِ بالقَمرِ

إِنْ أنتَ لمْ تَتْرُكِ السَّيْرَ الَحثِيثَ إلى ... جَآذِرِ الرُّومِ أَعْنَقْنَا إلى الخَزَرِ

إنّ القَطْوبَ لَهُ مِنِّي مَقَرُّ هوىً ... يَحْلُّ مِنِّي مَحَلَّ السَّمعِ والبصَرِ

وَرُبَّ أَمْنَعَ منه صاحباً وَحِمىً ... امْسَى وتِكَّتُه مِنِّي على خَطَرِ

جَرَّدْتُ فيهِ جِنُودَ العَزْمِ وانْكَشَفَتْ ... عنهُ غَيابتُها عَنْ نَيْكَةٍ هَدَرِ

سبحانَ مَنْ سَبَّحَتْهُ كلُّ جَارِحةٍ ... ما فيكَ مِنْ طَمَحَانِ الأيْرِ وَالنَّظَرِ

أنتَ المقيمُ فما تَعْدُو رواحِلُهُ... وأَيْرُهُ أبداً منه على سَفَرِ

حدثني أحمد بن إسماعيل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: قلت لأبي تمام: غلامك أطوع للحسن من غلام الحسن لك، قال: لأن غلامي يجد عنده مالا يجد غلامه عندي، أنا أعطي ذاك قيلاً وقالاً، وهو يعطي غلامي مالاً. وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا. حدثني أبو جعفر المهلبي قال، حدثني ابن أبي فننٍ قال: أنشد أبو تمامٍ محمد بن البعيث مدحاً له، وعند محمدٍ غلام خزري، ومع أبي تمام غلام رومي، فجعل محمد يلمحه، فقال أبو تمامٍ هذا الشعر الرائي، والأول أصح.
حدثني أبو الحسن الأنصاري قال، حدثني أبي وحدثني أبو الفضل الكاتب المعروف بفنجاخ قال: كان الحسن بن وهب يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات وهو يزر للواثق، وكان ابن الزيات قد وقف على ما بين الحسن بن وهبٍ وأبي تمامٍ في غلاميهما، فتقدم إلى بعض ولده، وكانوا يجلسون عند الحسن بن وهب، أن يعلموه خبرهما وما كان منهما، قالا: فعزم غلام أبي تمام على الحجامة، فكتب إلى الحسن يعلمه بذلك ويسأله التوجيه إليه بنبيذٍ، فوجه إليه بمائة دنٍ ومائة دينارٍ وخلعةٍ وبخورٍ، وكتب:

لَيْتَ شِعْري يا أمْلَحَ النَّاسِ عِنْديِ ... هلْ تَدَاوَيْتَ بالحِجَامَةِ بعْدِي؟

دَفَعَ اللهُ عنْكَ ليِ كُلَّ سُوءٍ ... بَاكرٍ رائحٍ وإنْ خُنْتَ عَهدِي

قدْ كتَمْتُ الهوى بمبلغِ جَهْدِي ... فَبَدا مِنه غَيْرُ ما كنتُ أُبْدِي

وَخَلعْتُ العِذارَ فلْيعْلَمِ النَّا ... سُ بأنِّي إِيَّاكَ أُصْفِي بُودِّي

وليَقُولٌوا بما أَحَبُّوا وإن كُنْ ... تَ وَصُولاً ولم تَرُعْنِي بصَدِّ

منْ عَذِيرِي مِنْ مُقْلَتَيْكَ ومِنْ إِشْ... رَاقِ ثَغْرٍ من تَحْتِ حُمْرَةِ خَدِّ؟

ووضع الرقعة تحت مصلاهُ، وبلغ محمد بن عبد الملك خبر الرقعة، فوجه إلى الحسن فشغله بشيءٍ من أمره، ثم أمر من جاءه بالرقعة، فلما قرأها كتب فيها على لسان أبي تمام:

لَيْتَ شِعْرِي عَنْ لَيْتَ شِعْرِكَ هذَا ... أَبِهَزْلٍ تَقُولُهُ أمْ بِجِدِّ؟

فَلَئنْ كُنتَ في المَقَالِ مُحِقاً ... يا ابْنَ وهْبٍ لَقَدْ تَطَرَّفْتَ بَعْدِي

وتَشبَّهْتَ بِي وكُنْتُ أرَى أَنِّ ... ي أنا العاشقُ المُتيَّمُ وَحْدِي

أَتْرُكُ القَصْدَ في الأُمُورِ ولَوْلاَ ... عَثَرَاتُ الهَوَى لأَبْصَرْتُ قَصْدِي

لاَ أُحِبُّ الذي يَلومُ وإنْ كَا ... نَ حَرِيصاً عَلَى هَلاَكِي وجهَدْيِ

وأحِبُّ الأخَ المُشَارِكَ في الحُبِّ ... وإنْ لَمْ يكُنْ به مِثلُ وَجدْيِ

كنَدِيمَي أبي عَلَىٍ وَحَاشَا ... لَندِيمي من مِثْلِ شِقوةِ جَدِّي

إنَّ مَوْلايَ عبدُ غيري ولَوْلاَ ... شُؤْمُ جَدِّي لكانَ مَوْلاَيَ عَبْدِي

سَيّدي سَيّدي ومَوْلايَ مَنْ أَوْ ... رَثَنِي ذِلَّةً وَأَضْرَعَ خَدِّي

ثم قال: ضعوا الرقعة مكانها، فلما قرأها الحسن قال: إنا لله، افتضحنا والله عند الوزير! وأعلم أبا تمامٍ بما كان، ووجه إليه بالرقعة، قلقيا محمد بن عبد الملك وقالا له: إنما جعلنا هذين سبباً لتكاتبنا بالأشعار، فقال: ومن يظن بكما غير هذ؟ فكان قوله أشد عليهما.


المصدر: الموسوعة الشعرية- ديوان العرب


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)