عرض مشاركة واحدة
قديم 05-31-2024, 11:03 PM
المشاركة 13
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان

الفصل الثالث:
أزمة الخط المستقيم

من أكبر الأزمات العقلية في طريق العودة إلى الله هو محاولة العقل للعودة بغير إرشاد القلب.
فما يغفل عنه الكثيرون أن الطريق إلى الله لا يُسرع بالعاقل، ولا يبطئ بالغبي الغافل، بل يبطئ بالعاقل المتغافل
وبالعكس
فالعقل غالبا ما يكون طريقا للهلاك وهذا أمر طبيعي لأن العقل إذا سلك طريق التساؤل والعودة إلى الله طرح أمامه مفردات المادة والإدراك في أمر يعوزه العجز للاعتراف بوجود خالق قادر منعم ومتفضل
ولذا فالمقولة الشهيرة أن الله تمت معرفته بالعقل، تحتاج معها إضافة لتصبح قابلة للمنطق فيكون الطريق بالعقل والقلب، فالقلب عماده المشاعر والأحاسيس وهو الذي يضيف لمحة التأثر المطلوبة لجمود العقل.

فالعقل بلا قلب، لن يعرف الخوف ولا الهيبة ولا العجز لأن مفردات العقل بطبيعتها تُفَجّر الغرور الإنساني فتدفعه للتساؤل بلا حدود وفى غياب التأثر القلبي يستمر التساؤل إلى ما لا نهاية رافضا أن يستكين لمفردات المنطق الإلهي طمعا في منطق عقلي يقنعه بدليل محسوس ملموس!
ولذلك ضل الملحدون وغيرهم الطريق عندما قالوا بعدم وجود إله لا تدركه الحواس، وكيف يمكن أن يوجد إله لا يدركه بصر وفى هذا جاء القرآن الكريم مُترجما لتلك الحقيقة، حقيقة أن العقل وحده لا يصلح حيث يقول عز وجل:
[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}

هل لاحظتم التعبير القرآني: (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)
فالآية الكريمة جعلت الإدراك العقلي للقلب لا للعقل، لأن العقل هو الطريق أو الوسيلة بينما المُنَفّذ الفعلي هو القلب الذي يصدق أو يكذب النتائج
وقد تكرر مفهوم نسبة الإدراك للقلب لا العقل في آيات القرآن الكريم مثال ذلك قوله تعالى:
[أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] {محمد:24}
وضلال الملحدين والمنكرين لوجود الخالق يدحضه المنطق العقلي ذاته، حيث أن مفردات العقل ذاتها تقود إلى أن وجود الإله في محل الإدراك ينفي ألوهيته بطبيعة الحال،
بمعنى أنه لو تمكن العقل (المخلوق) من رؤية وإدراك ذات الله تعالى وصفاته، لكان هذا دليلا على قصور الخالق ــ حاشا لله ــ إذ أن الخالق لا يمكن أن يخضع لإدراك (المخلوق)، وقول الملحدين هنا يشبه أن تتمرد الآلات التي صنعها البشر على البشر أنفسهم وأن تكون في مستواهم وتدرك طبيعتهم وكيفية صناعتهم لها!
وهذا مستحيل وضد المنطق بطبيعة الحال، فإذا كان هذا الأمر غير جائز في صناعة الإنسان للمخترعات والأدوات فكيف يمكن تجويزه على خالق الكون.
ويُضاف إلى هذا أن مقولة الملحدين في أنهم يريدون خضوع الخالق لحواسهم الظاهرة، ينافي منطق العلم نفسه، لأن العقل البشري يقف عاجزا أمام بعض مخلوقات الله، فكيف يمكن تصور قدرته على إدراك خالقها؟!
إذ أن هذا الكون الذي لم نعرف منه إلا جزء بسيطا من سمائه الدنيا يبلغ مقداره 15 مليار إلى 100 مليار سنة ضوئية في الاتساع و13 مليار سنة في العمر ــ والله أعلم بالحقيقة ـــ ويبدو أمام الإدراك لغزا غير قابل للحل،
فإذا كان العقل عاجزا عن الإدراك الحسي لبعض مخلوقات الله، فكيف بالله نفسه عز وجل؟!
والعقل العلمي عجز في كافة حضارات الأرض الحالية والسابقة عن معرفة أدنى معلومة تخص (الروح)، وكيفية الموت، فرغم التقدم العلمي الهائل في أجهزة القياس إلا أن العلم البشري سيظل عاجزا أمام حقيقة الموت وعاجزا عن تفسيرها وسيقتصر علمه فقط على مُسبباتها الظاهرة دون أن يدرك كنه الموت نفسه، ودون أن يستطيع العلم إعادة الحياة حتى لحشرة صغيرة!
وسيظل العلم عاجزا عن محاكاة الإبداع في الخلية البشرية أو تكوينها معمليا بنفس صفاتها وخَلْقها!

هم بهذه الطريقة مع أمثالهم من عبدة المذاهب البشرية هبطوا بقدرات العقل إلى دركها الأسفل فخرج منهم كما رأينا ملحدون ومشركون، وصنف آخر أعجب وهم العلمانيون عندما وقفوا يدافعون عن قدرات العقل الإنساني باعتباره يستطيع بالتطور أن يطور تشريعاته بما يتناسب والتقدم العلمي الهائل الذي يرونه أمامهم ويعبرون عن ذلك بأن الدنيا أصبحت قرية صغيرة مملوكة للقدرات الإنسانية
ولعمرى إنهم في ضلالة ما بعدها ضلالة، ومن أشد إعجاز القرآن آياته التي أخبرنا عن أمثالهم في قوله تعالى:
[حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {يونس:24}

وقد كنت أتعجب من حماقة إبليس لعنه الله وهو يتحدى رب العالمين وهو يثق تمام الثقة بمصيره الذي أخبر عنه القرآن فإذا ببعض البشر أشد منه حماقة وهم يقرءون بأعينهم ولا يفقهون بقلوبهم هذا الوعيد المباشر الصريح بأن مصدر الهلاك الأعظم للبشرية عندما تأخذ الأرض زخرفها ويظن الغافلون أنهم قادرون عليها.
ومما هو أغرب أن تلك العقول التي تتبجح بالعلم والإدراك والدفاع عن العقل تعجز عن ربط حقائق بسيطة تطرحها العقول والتجارب أمامهم وهم يرون بأعينهم هذا الكون الفريد، الذي تشغل فيه شمسنا بمجموعتها حيزا أشبه بثقب إبرة في هذا الكون الفسيح الذي لا زلت أدعو القارئ للتبصر في جزء بسيط من سمائه الدنيا يبلغ اتساعه 13 مليار سنة ضوئية في أقل التقديرات العلمية
أي حاصل ضرب 13000000000 × 12 × 365 × 24 × 60 × 60 كيلومتر
وتبلغ درجة حرارة الشمس في قلبها من7 إلى 10 مليون درجة مئوية وعلى سطح الشمس تبلغ 5600 درجة تقريبا لو نقصت هذه الدرجة بمقدار محدود، فهذا معناه بدء عصر جليدي على الأرض!، ولو زادت بمقدار محدود لاحترقت الأرض بما عليها
فأين هو مثال تلك القدرة على الضبط والإحكام ؟!
هذه الشمس بكل هذا المقدار الرهيب من الحرارة لا تستطيع أن تضيء حول محيطها إلا ما مقداره 500 كيلومتر من صفحة السماء والباقي في ظلمة حالكة،
والأكثر إثارة للذهول أن هذا المقدار من الطاقة والحرارة يعتبر أشبه بقطعة الثلج أمام النجوم العملاقة التي تعتبر شمسنا أمامها من النجوم الباهتة حيث يبلغ مقدار طاقة بعض النجوم الكبري حجم كافة نجوم مجرتنا درب التبانة في الكويزرات العملاقة!
أي أن مجرتنا بكل ما تحويه من شموس عملاقة، تعادل حجم نجم واحد من النجوم الكبري في مجرات أكثر فداحة في الحجم
فتخيلوا معي مقدار الطاقة المنبعثة من كامل نجوم السماء الدنيا ؟!
وتخيلوا السماوات السبع في مجموعها بكل من فيها وما فيها عندما نستمع إلى أقوال المفسرين عن الكُرسي الذي يستقر فوقه عرش الرحمن حيث وصف دنيانا بأنها إلى جوار الكرسي ــــ لا العرش ـــ كحلقة المغفر إذا ألقيت في الصحراء وحلقة المغفر هي حلقة الحديد التي تربط بها الدواب
وهذا وفقا لحديث النبي عليه السلام:
(ما السماوات السبع في الكرسي بالنسبة لكرسي الله إلا كحلقة ملقاة في فلاة في صحراء من الأرض وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة)
هذه الحقائق لو أننا وضعنا كوكب الأرض إلى جوارها، ما الذي يمكن أن يساويه ؟!
فإذا وضعنا الإنسان إلى جوار كل هذا الهول، ما الذي يساويه ؟!
وهل يمكن بعد كل هذا أن نقبل تبجح القائلين برفض التشريع السماوي الداعين للمنهج العلماني القائم على عدم صلاحية شريعة الله عز وجل لهذا العصر المتقدم ؟!

ولأن رب العزة لا يأخذنا بحماقاتنا فقد ترك لنا من الأدلة المبسوطة على حقارة شأن الدنيا وأهلها ـــ إلا من أدرك واعتبر ـــ عندما نلمح في أطراف الأرض نفسها ــ لا الكون بعجائبه ـــ ألغازا تتحدى قدرة العلماء من سائر أقطار العالم وهم يقفون أمامها عاجزين عن النوم وعن الحل.
والقائمة لا تؤذن بحصر حول النظام المفرط الدقة للأجرام السماوية وآثار ذلك على الأرض وما يحتشد من ألغاز علمية لا زالت رهن البحث من مئات الأعوام مثل لغز رسومات (كهوف تاسيلي) في الجزائر ومثلث (برمودا) في المحيط الأطلنطي، و(بوابة الشمس) في بيرو، وحادثة (روزرويل) وانفجار (سيبريا) العظيم، وأعماق المحيطات المليئة بالغرائب، والآثار المكتشفة لمخترعات علمية الحديثة بلغ عمرها ما يزيد عن خمسة وثلاثين ألف عام في حضارات مجهولة لنا تماما لا نعرف كم بلغ تقدمها العلمي!
هذا بالإضافة للقدرات التي تخرجها الطبيعة لنا
فإعصار واحد مثل إعصار (تورنادو) الشهير الذي يتكرر مرارا، ومع ذلك تعجز أعتى التكنولوجيا عن التصدي له لتقليل الخسائر فقط فضلا على منعها ؟!
ومن آياته أيضا أن الدواب التي تقبع بلا عقل، ومع ذلك يمكنها إدراك الكوارث الكونية والطبيعية قبلها بوقت يمتد لساعات في حين يعجز الإنسان بأجهزته ومعداته عن توقعها بنسبة صحيحة إلا فيما ندر
وهذا يؤكد على القول المأثور أن من اعتمد على عقله ضل، ولكن أين المتأملون ؟!
ولو غابوا عن تلك الحقائق كيف غابوا عن مثل هذا الوعيد في قوله تعالى:
[وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا {المزمل ـ 11 , 12}

ومن غريب الأمور أن بعض علماء الغرب الكبار وهم في الأصل أبعد ما يكون عن الدين، إلا أنهم تمكنوا بالعقل المقترن بالمنطق القلبي الحر الخالي من الغرض والهوى من ولوج باب الإيمان من أوسع أبوابه عقب التأمل في بديع صنع الله بهذا الكون ونقلت وسائل الإعلام مقولة مأثورة لأحد مشاهير العلماء في علم الفلك قال:
(إني على يقين من أن هذا المجال ـــ مجال الفلك ـــ لا يمكن لأحد أن يخوضه بعقله في غير إيمان بوجود إله أو حتما سيفقد هذا العقل)
والوصول إلى الله بطريق الإدراك العقلي السليم الممتزج بصحوة القلب يكون أفضل طرق الوصول دون شك مصداقا لقوله تعالى
[إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ] {فاطر:28}
فبلا شك أن إدراك العقل لمدى قدرة الله تعالى اللامحدودة وطلاقتها في خلقه يقود المرء ببساطة إلى أن الوقوف بالعقل أمام خالق العقل ومحاولة الاستقلال ورفض أداء العبادة والإيمان بالقرآن والسنة هو من الحماقة بمكان كبير.
هذا عن العقلاء الذين أحبوا الإنفراد بالعقل وحده طريقا دونما تهذيب لقدراته بالقلب المستعد القابل للهداية فأخذهم الكبر والغرور البشري المعهود.

ولكن ماذا عن العقلاء الراغبين الذين قادهم نفس العقل الراغب للهداية إلى التيه بدلا من الهداية؟!
هؤلاء هم للهداية طارقو أبواب، فوقعوا في الإفراط كما وقع غيرهم في التفريط، لكنهم عجزوا عن إدراك أن هذا الطَـــرْق لا يفيد حيث أن الأبواب مفتوحة على الدوام ومع ذلك يصرون إصرارا غريبا على طرقها وسماع الإذن بالدخول أولا قبل أن يدخلوها!
مع أن الإذن ممنوح لهم ولكافة المخلوقات منذ خلق الله الدنيا، وقد جاء في صريح القرآن هذا المعني.
[قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53}
هؤلاء الذين لم يدركوا مدى العظمة التي يمثلها كبرياء الخالق
ونعني بهم المبالغين في اليأس، المستسلمين له، الواقفين عند أخطائهم وذنوبهم بغير الشكل الذي أراده الله من الإنسان.
أولئك المؤنبين ضمائرهم بأخطائهم السابقة بشكل يجاوز الحد، بل ويمتد بهم العصف النفسي إلى ما هو أخطر إلى درجة ترك أعمال الخير مخافة الرياء وإلى حمل الهم النفسي والقنوط من رحمة الله تعالى تحت تأثير الخوف المرضي من الخطأ أو الذنب
وهؤلاء لم يدركوا حكمة الإسلام العريقة التي تقول بالوسطية دوما، لأن مبالغتهم في الخوف من الذنوب أوقعتهم فيما هو أشد ألف مرة إلا وهو القنوط واليأس
فإن كان مفروضا علينا إدراك عاقبة الذنوب والندم والتوبة، فالأشد فرضا من هذا عدم اليأس من مغفرة الله
قال تعالي:
[وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ]
{يوسف:87}
وهؤلاء لا يدركون حقيقة بسيطة للغاية تبسط نفسها أمام كل مبصر وهي أن الإنسان مخلوق على طريق الخطأ بطبيعته وليس مطلوبا من أي إنسان ألا يذنب بل المطلوب منه فقط ألا يُصِر على ذنب وإن أصر فلا يمل من التوبة ولو تكرر الذنب منه آلاف المرات.
وبإجماع العلماء بناء على نصوص القرآن والسنة فإن العبد المكرر للذنب لو كرر التوبة فهو في الأوابين أي الراجعين للحق دوما، والأوابون صفة من صفات الأنبياء أنفسهم يحبها الله تعالي في عباده
فيقول عز وجل:
[رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا] {الإسراء:25}
وقد امتدح الله نبيه داوود بهذا الوصف فقال:
[اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ] {ص:17}
فقط مطلوب من المسلم ألا يصر على الذنب اتكالا على التوبة فيستهين بذلك وينتوى مسبقا أن يستمر في الذنب وبخلاف هذا وطالما أنه لم ينتو مسبقا فالتوبة مقبولة حتما
وليس في العبادة ـــ كما قلنا ــ مطلوب منا عدم الخطأ أو العصمة
فلو أن الإنسان مطلوب وواجب عليه ألا يخطئ لما دخل الجنة أحد قط حتى الأنبياء والرسل والملائكة، والله عز وجل خلقنا لنعبده ونذنب فنتوب فيتوب علينا،
وفى هذا ورد حديث المصطفي صلي الله عليه وسلم قائلا:
(والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم.)
ولو أن طبيعة خَلْقْ الإنسان كان فيه الإلزام بالعمل الصارم بلا خطأ لكان معناه أن البشر تدخل الجنة بعملها وتدخل النار بتقصيرها وهو ما يُعَد أمرا مفروغا من نفيه.
بل حتى الملائكة وهم خلق لا يعصون الله ما أمرهم لا يدخلون بهذا العمل وقد ورد في التفاسير أن هناك من الملائكة من هو ساجد لا يقوم وراكع لا يرفع وتقوم الساعة عليهم وهم على هذه الحالة قائلين:
(ما عبدناك حق عبادتك)

فما أعجب المتنطعين الراغبين في تعذيب أنفسهم بما لم يرتكبوه بعد وكأن الله تعالى لم يقل في كتابه العزيز:
[مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] {النساء:147}
فالله أكبر من هذا وأعظم وأَجَل من أن يقف بالحساب أو يبالي، وكما أن الله تعالي لا يقبل التفريط، فهو أيضا لا يقبل الإفراط
والمطلوب من المسلم ألا يطمئن ويغتر بعمل صالح وفقه الله إليه، وفي نفس الوقت مطلوب منه ألا ييأس من رحمة الله على ذنب وقع منه.
فليس على المسلم إلا إخلاص النية وعدم الشرك بالله والإيمان التام الخالص لوجهه وبعدها ليس مطلوبا منه إلا السير بطريق الإخلاص في النية وهي أخطر ما يطلبه الله عز وجل حيث أن الإخلاص جعله الله سرا مخفيا حتى عن الملائكة والشياطين وجعله الطريق الوحيد للنجاة.
أما الأخطاء والذنوب فهي عوارض الحياة اللازمة لها مهما فعلنا وما علينا إلا تفادى العمد فيها وحسب.

ومن خلال التأمل في خلق الكون وطبيعته يلفت نظرنا أن طبيعة الكون نفسه تحمل هذا المعني.
فعلماء الفلكيون قرروا أن الكون ــ خارج حدود الأرض ــ لا يعرف الخط المستقيم قط،
بل كل ما فيه عبارة عن منحنيات حتى الأجسام التي تطرق الفضاء يُجْبرها الفضاء الكوني أن تستسلم لسلوك المسار المنحنى أو الدائري أو الأسطواني ولهذا أيضا وصف القرآن الصعود في السماء دائما بلفظ (العروج) ولم يصفه بلفظ (الصعود) قط
لأن العروج معناه المسار الدائري أثناء الارتفاع إلى أعلي، بينما الصعود معناه الارتفاع بخط مستقيم، لهذا جاء وصف الارتفاع إلى السماء بلفظ العروج وحده ومن ذلك قوله تعالي:
[تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ] {المعارج:4}
وقال أيضا:
[وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ] {الحجر:14}

ولهذا قال العلماء عبارتهم السابقة أن الكون لا يعرف في هندسته الخطوط (المستقيمة)،
ومن باب الفائدة اللغوية نقول إن لفظ (الاستقامة) محل نظر وتعديل، لأن العلماء أرادوا بها وصف (الخط المباشر) غير المنحنى أو المنكسر ووصف (المباشر) في اللغة العربية، يختلف جذريا عن (المستقيم) لأن الاستقامة معناها الانتظام في المسار بغض النظر عن شكل المسار مباشرا أو منحنيا، والمباشر معناها السير في خط ممتد إلى الإمام لا ينكسر.

فالأرض مثلا تدور في فلك منتظم مستقيم لا يختل في مساره شبه الدائري حول الشمس، وكذلك سائر الأجرام السماوية، ومسارها مستقيم ــــ أي منتظم ــــ رغم أنه ليس مسارا مباشرا على خط واحد
وهذا يقودنا للربط بين التعبير الفلكي، والحقيقة التي نحن بصددها أن الاستقامة المطلوبة من البشر ليست معناها السير في خط مباشر لا يختل يمينا أو شمالا لأن هذا ضد طبيعة الخلق الإنساني القائم على الخطأ والسهو والكبر والنسيان
فضلا على أن الاستقامة المطلوبة من البشر لو أنها تعنى السير المباشر لكان معنى هذا دخول الناس للجنة بأعمالها كجزاء طبيعي لعدم انحناء المسار في انتظامه على الحسنات وحدها، وهو ما يعد غير متحقق بشكل قاطع كما رأينا في أدلة القرآن والسُنة
وبهذا الشكل فحتما هناك مقصود ومدلول مختلف لمعنى الاستقامة في القرآن الكريم في قوله تعالى:
[فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] {الشُّورى:15}
فالاستقامة هنا معناها الالتزام بأوامر الله بعد الإيمان والتوكل عليه في الحساب، لأن المسار بطبيعته للإنسان لا يمثله الخط المباشر بل الاستقامة فيه هي المسار المنحنى بلا خلاف والفارق يكمن في الطاعة بحسب انتظام هذا المسار المنحنى ذاته
فليس مهما أن تُزايد على نفسك بالطاعة والحذر بقدر ما هو أهم أن تنتبه لحقيقتين وهما
الأولي: أن تسلك طريقك مخلصا النية في عدم الوقوع في الخطأ،
والثانية: أن توقن تمام اليقين أن كل ما فعلته وما ستفعله هو لا شيء أمام نعمة الله تعالى لأن الغرور بالنعمة أو العمل أو العلم هو طريق إلى جهنم بلا جواز سفر
لذلك على الذي يرهق نفسه بالخشية من الخطأ أن يجعل تلك الخشية قاصرة على ما هو أولى ألا وهو الخشية منه جل وعلا ألا يقبلنا يوم الحساب، والله عز وجل ذو رحمة وفضل لا ينفذ قط ولا يمل الله حتى تملوا.
وإنه من المثير للدهشة أن الإنسان يمل والخير أمامه أضعاف الشر وسبل النجاة عديدة وسبيل الهلاك واحد فقط.
بينما الشيطان لا يمل قط ولا ييأس ويبذل الجهد أعواما لينال من الإنسان عثرة واحدة، وبعد كل هذا الجهد المضنى قد يعود الإنسان إلى رشده فيستغفر الله فيضيع عمل الشيطان كله بضربة واحدة.
ومع ذلك لا يمل ولا يكل!
فهلا عدنا لأنفسنا في لحظة صافية، لنتعلم كيف نعود لله عودة شافية

تم بحمد الله