الموضوع
:
كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
عرض مشاركة واحدة
05-31-2024, 10:51 PM
المشاركة
12
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 1
تاريخ الإنضمام :
Jan 2006
رقم العضوية :
780
المشاركات:
1,201
رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
ونأتي للعنصر الرابع من عناصر النجاة
.
وهو أن يُطَبّق المسلم وصايا النبي عليه السلام ووصايا الصحابة للنجاة بدينه في عصر الفتن.
وعلى عكس ما يظن البعض أن المعيشة في زمن الفتن وآخر الزمان كلها شر، فالله عز وجل خلق الحياة كلها على قاعدة (النسبية)، والدنيا كلها تعيش بِعُمْلة ذات وجهين، وجه سلبي وآخر إيجابي
وإذا كان المسلم المخلص في عصرنا الحالي يري أنه من سوء حظه أنه لم يعش زمن النبي عليه السلام مثلا، أو زمن الصحابة، فعليه أن يراجع رأيه وينظر في الدرس البليغ الذي أعطاه لنا الصحابي الجليل (المقداد بن الأسود) رضي الله عنه في عدم جواز تمني المعيشة بزمنٍ آخر.
فقد روي (جبير بن نفير) ــ وهو من التابعين ــ قصة بليغة عن (المقداد بن الأسود) فقال:
(جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما، فمر به رجل، فقال:
طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت.
فاستغضب "أي ظهر على المقداد الغضب الشديد" فجعلت أعجب، ما قال إلا خيرا، ثم أقبل إليه!
فقال المقداد:
ما يحمل الرجل على أن يتمنى مَحْضَرا غَيّبَه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كَبّهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه، ولم يصدقوه.
أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم، والله لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالٍ بعث عليها فيه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفَرّق بين الوالد وولده حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافرا، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها للتي قال الله عز وجل:
{الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين}).
صَدَق (المقداد) رضي الله عنه، وما أعظم فهمه وعبقريته، فالمقداد رضي الله عنه شرح في بساطة واختصار درسا عبقريا للمسلمين لو تدبروا فيه لسلموا بحكمة الله عز وجل الذي قال عن نفسه في القرآن:
[لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286}
فالخالق سبحانه أدرى بطاقة كل إنسان من خَلْقه، و(المقداد) عندما رأى الرجل يتمني لو كان قد حضر زمن النبي عليه السلام وفاز بصحبته، حَذّره من هذا التمني
فالرجل ــ رغم حُسن نيته ــ وقع في خطأ كبير، إذ أنه احتسب نفسه على أنه سيؤمن بالنبي عليه السلام ويتبعه حتما إن حضر زمنه
وهذا مما لا يمكن القطع بحدوثه لأن النبي عليه السلام بُعث في فَوْرة عبادة الأصنام، وحاربه قومه وفيهم الكثير من العقلاء والنابهين، ورغم ذلك عندما انتشرت الدعوة تفرقت الأسر والعائلات بين مسلم وكافر، وكان هناك الكثيرون ممن آمنوا في أعماقهم بصدق الوحي والرسالة ـــ ورغم ذلك ـــ أصروا على الكفر لأسباب مختلفة منها الكبر وكراهية شخص النبي عليه السلام نفسه،
ومنها خشية المعايرة، ومنه ــ وهذا هو الأخطر ــ الالتزام بخط الآباء والأجداد في نصرة الشرك كما فعل (أبو طالب) عم النبي عليه السلام
وبالتالي ذهب هؤلاء إلى النار لا لأنهم كانوا مكذبين حقا للرسالة، بل ذهبوا نصرة لآبائهم الذين ماتوا على الشرك أثناء حربهم مع النبي عليه الصلاة والسلام.
و(المقداد) رضي الله عنه، ذكر للرجل كيف أنه يرفل في نعمة كبيرة من الله إذ أنه وُلد في زمن عزة الإسلام، وخرج في أهله الذين علموه الإسلام، وهذه نعمة عظيمة إذ يُولد المرء في بيت ومجتمع مسلم فلا يضطر إلى معاداة أهله أو عشيرته للدفاع عن عقيدته
كما أن الله عافي أجيال التابعين ومن بعدهم من ابتلاء رهيب تَحَمَّله الصحابة رضوان الله عليهم إذ أن معظمهم كانوا يحبون آباءهم وكانوا يتمنون لهم الهداية، لكن آباءهم ماتوا على الشرك، ومنهم من جاء ذكره في القرآن محكوما عليه بالنار والذم، كما هو الحال مع (أبي جهل) وقد أسلم ولده (عكرمة)، و(عتبة بن ربيعة) وقد أسلم ولده (أبو حذيفة)، و(الوليد بن المغيرة) وقد أسلم ولداه (خالد) و(الوليد) وغيرهم كثير
فلنا أن نتخيل مشاعرهم وهم يتلون آيات الله التي نزلت في عذاب آبائهم؟!
ولا ينبغي للمرء أن يقول عن نفسه أنه لو حضر زمن النبي عليه السلام فلا شك أنه سيؤمن برسالته وليحمد الله على عافيته، لأن التجربة العملية تثبت النتيجة، فاليهود في مجتمع الجزيرة العربية قاطبة كانوا يعلمون بمبعث النبي عليه الصلاة والسلام بل ويعلمون بيوم ولادته أيضا بموجب ما عندهم من علوم (التوراة)،
والمفارقة الرهيبة أنهم كانوا ينتظرون ظهوره ويتمنون حضور زمنه كي يؤمنوا به وينصروه على أهل الشرك، وعندما جاء زمان بعثة النبي عليه السلام وظهر فعلا ودعا للإسلام بآيات القرآن الكريم التي تخاطب أهل الكتاب بما يعرفونه ولا يعرفه غيرهم
إذا بهم يستنكرونه وينكرونه لكونهم كانوا يتوقعون ظهوره في نسل بني إسرائيل، فلما جاء ظهوره في العرب أنكروه بل وحاربوه الحرب الشعواء!
وقد يعترض القارئ بأن هذا يجوز في عدم تمني زمن الصحابة، ولكن كيف لا يتمني المرء عدم ولادته في زمن الفتن؟!
ونقول إن الله عز وجل حكيم، وهو الأدري بقدراتنا، فلو أن المسلم الطموح اليوم وُلِد قبل مائة عام أو أكثر من زمنه الحالي حيث كان المجتمع لا زال فيه من الخير الكثير، لفات عليه أجر وجزاء بالغ الاتساع.
لأننا في عصرنا الحالي نرى أن المسلم الملتزم الذي يحسده الناس على التزامه، هو من يحافظ على الفرائض من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ويختم القرآن مرة في رمضان، ويتقي الله ما استطاع في معاملاته، فهو بذلك في عُرْف مجتمع اليوم شخص متدين بلغ الحد الأقصى من التقدير في مجتمعه لتدينه هذا
وهذا راجع بالأساس لأن الفرائض تم انتهاكها في المجتمع وتراجعت قيمتها، وبالتالي صار الملتزمون بها هم القلة القليلة التي تستحق التقدير
بينما منذ أقل من مائة عام، لو تأملنا المجتمع سنجد أن المسلم العادي الذي لا يتميز عن أقرانه بعبادة ملحوظة هو المسلم المواظب على صلاة الجماعة في المسجد في كل فرض، وهو القائم بالفرائض والسنن الرواتب والنوافل المتعارف عليها، وهو المنتظم في قراءة القرآن فيختمه مرة واحدة على الأقل كل شهر، وهو المواظب على أذكاره في الصباح والمساء والواقف عند حدود الله تعالي لا يتعداها.
فهذه الصفات كانت في ذلك الزمان صفات الفرد العادي في المجتمع، بينما المتميز العابد في هذا المجتمع كان أعلي من هذا بمراحل
فتجده حافظا لكتاب الله تعالي، دارسا للسنة والفقه ولو بالسماع، مؤديا لحق المجتمع في التكافل وحريص على البر وقضاء حوائج الناس ... إلى غير ذلك.
وبالتالي فالمسلم المتحمس في عالم اليوم، بلغ بأعماله القليلة ما لا يستطيع أن يبلغه لو وُلِد في زمنٍ آخر، لأنه بطاعته القليلة تلك، صار من العابدين في زمن الفتن
وحساب الحسنات عند الله تعالي يختلف من زمن لآخر، فأجر أداء الفراض والطاعات في زمن الفتن أضعاف مضاعفة من أجرها في أزمنة الخير وهذا ثابت في أكثر من حديث.
ومنها حديث النبي عليه السلام:
(إِنَّ مِنْ ورائِكُم زمانُ صبرٍ، لِلْمُتَمَسِّكِ فيه أجرُ خمسينَ شهيدًا منكم)
والحديث في منتهي الخطورة، ويحمل بشارة عظيمة جدا لكل مسلم في عالمنا اليوم،
فالنبي عليه السلام يوضح للصحابة كيف سيكون عليه حال الناس في أزمنة الفتن، وكيف أن القابض على دينه في هذا الزمان المتمسك بالسُنة سيكون له أجر خمسين شهيدا ــــ ليسوا من زمنه ــــ بل أجر خمسين شهيدا من الصحابة أنفسهم!
وأنا لا أعلم أجرا وجزاء ورد في شريعة الإسلام يعادل الأجر الوارد في هذا الحديث الشريف.
لأنه من المعلوم والثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الصحابة لهم مكانة عند الله لن يبلغها سواهم ممن سيأتي بعدهم من الأجيال مهما بلغت طاعتهم وعطاؤهم في الإسلام، وذلك بموجب حديث النبي عليه السلام:
(لا تَسبُّوا أصحابي فوالَّذي نَفسي بيدِهِ لَو أنَّ أحدَكُم أنفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما أدرَكَ مُدَّ أحدِهِم ولا نصيفَهُ)
ورغم هذا.
فإن العابد المتمسك بدينه في أزمنة الفتن سيكون له استثناء غير تقليدي بأن يبلغ أجر خمسين صحابيا دفعة واحدة بكل ما يشتمله هذا الأجر من مزايا لا تخطر على بال
وذلك لأن العبادة والطاعة والتمسك بالدين في زمن الفتن هو بطبيعته من أصعب الأمور على النفس، لا سيما في ظل انتشار الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف بعد انقلاب الأخلاق والمُسَلّمات، وبالتالي أصبح الملتزم بالطاعة يجد من معايرة المجتمع وحربه عليه، ما كان يجده العصاة وأصحاب الفواحش في الزمان القديم.
وهذا من علامات الساعة الصغرى حيث جاء عن أهل العلم مقولة معبرة تصف هذا الأمر وهي:
(ليأتين على الناس زمان يُعَيَّر المؤمن بإيمانه كما يُعير اليومَ الفاجر بفجوره حتى يقال للرجل إنك مؤمن فقيه)
وقد حدث هذا بالفعل!
وبالتالي يجب علي المسلم المحافظ على الحد الأدنى من العبادة، أن يستبشر بهذه الطاعة لأن جزاءها لا يفوقه جزاء أي جيل من أجيال الأمة.
بل إن الجزاء لا يقتصر على أن أجر العابد سيكون مساويا لأجر خمسين من الصحابة، بل جاء عن النبي عليه السلام ما هو أعز وأكرم حيث قال عليه الصلاة والسلام:
(الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ.)
وهذا جزاء بالغ العظمة، لأن الله عز وجل جعل من هجرة الصحابة إلي النبي عليه السلام قبل فتح مكة أجر أعلي ومكانة أقيم بكثير ممن أسلم بعد الفتح، وقد جعل الله ترتيب الأفضلية في الصحابة على ثلاث مستويات، فأعلاها وأعظمها هو مستوي (المهاجرين)، لأنهم تركوا أموالهم وديارهم وهاجروا وجاهدوا مع النبي عليه السلام في زمن حربه مع قريش.
والمستوي الثاني جعله الله تعالي في (الأنصار) باعتبارهم الذين آووا ونصروا المهاجرين وقاسموهم أموالهم وديارهم وتجارتهم، والمستوي الثالث والأخير وهم (مُسْلِمة الفتح)، والذين أسلموا عند فتح مكة وعفا عنهم النبي عليه الصلاة والسلام فانضموا لمفهوم (الصحابة) في المجمل.
وهذا الترتيب هو الذي ورد في آيات القرآن الكريم في قوله تعالي:
[وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحديد:10}
وأيضا في قوله تعالي:
[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ(9)]. {الحشر}.
وبفتح مكة انتهي مفهوم (الهجرة) تماما، ولم يتجدد فتح هذا المفهوم مرة أخري إلا للمسلمين في زمن الفتنة وفق نص الحديث الشريف
(العبادة في الهَرْج، كهجرة إليّ)
والهَرْجْ هو انتشار فتن القتل والهلاك العام، وانتشار الفرقة والتناحر وسفك الدماء، ولا شك أننا نشاهد في عالمنا اليوم آلاف الضحايا ممن لا يدرون فيم قتلوا وبأي مبرر؟!
وحولنا أوطان كاملة تحولت إلى يُبَاب وخراب، ولا يوجد مبرر منطقي لحدوث هذا إلا الفتن العمياء والتجارة بالدين والتجارة بالأوطان!
وعليه.
فالمعيشة في زمن الفتن في ظل التمسك بالحد الأدنى من التقوى هي كرامة عظيمة لمن وفقه الله تعالى للانتباه لها والعمل على الدخول في بشارتها النبوية.
ولكن هذا مع الضابط الهام الذي ينبغي للعاقل أن يضعه نصب عينيه، وهو الحرص التام في عدم التورط بلسانه أو بفعله في الموبقات التي تنسف جزاء طاعته، وتبطل عمله.
كذلك من أهم وصايا النبي عليه الصلاة والسلام في زمن الفتن، هي الاعتزال الإيجابي أولا، فإن لم يستطع فعليه بالاعتزال السلبي
وقد سبق أن أوردنا هذه الوصية في حديث النبي عليه السلام لحذيفة بن اليمان أن يعتزل بدينه عن كافة الفرق، وضرب له المثل بأن يفعل ذلك ولو اضطر إلى أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت.
ولا شك أن هذه الوصية وردت بهذا التشديد في زمن (الفرقة) لكثرة انتشار الصراعات على الباطل، وانعدام الحق بين سائر الفرق المتناحرة.
وقد يعترض البعض بأن فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هي فريضة واجبة على الأمة، وجعلها الله تعالي في القرآن الكريم أهم أسباب خَيْرِيتها وتميزها على بقية الأمم وذلك بموجب قوله تعالي:
[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}
فنقول بأن هذه القاعدة هي الفرض المفروض في الأحوال العادية على الأمة، أما في أزمنة الفتن فهي حالات استثنائية عالجها القرآن وعالجتها السُنة المشرفة بنصوص خاصة بها.
فالله عز وجل قال أيضا في كتابه:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {المائدة:105}
وقد قال (ابن كثير) في تفسيره كلاما نفيسا يشرح الفارق بين الأحوال العادية للأمة والتي يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبيا، وبين أحوال الفتن وتفرق الجماعة والتي تنطبق فيها قاعدة (عليكم أنفسكم) فجاء في التفسير عن هذه الآية الكريمة ما نصه:
(وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله
} يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم {
فقال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة. ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا -أو قال: فلا يقبل منكم – فحينئذ" عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل"
ورواه أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله:
} يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم {الآية ،
قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله:
ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول:
} يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم {الآية.
قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مه، لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي -صلى الله عليه وسلم -بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا، ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه،)
وحديث (ابن مسعود) رضي الله عنه واضح تام الوضوح في إبراز وجوب الاعتزال عندما يحين زمانه وتحين علاماته وهي اختلاف القلوب والأهواء والتفرق والتشرذم والصراعات بين المسلمين وبعضهم البعض وانعدام اجتماع كلمتهم على أمر واحد.
ويُسْتثني من حالة الاعتزال التام أهل العلم، والذين يكون من واجبهم إظهار الحق، ودفع الشبهات، وتعليم الناس الأصول الصحيحة للدين، فهؤلاء لا يجوز لهم الاعتزال لأنهم هُدَاة المجتمع.
ولكن وفقا لحديث (ابن مسعود) فإنه حتى العلماء يجوز لهم الاعتزال أيضا والسكوت في حالة واحدة وهي أن يتم الرد عليهم برفض سماعهم، ورفض إرشادهم، ومنعهم من البيان، عندئذ يطبقون نص الآية ويكتفون بإصلاح أنفسهم وإصلاح من يستمع منهم أو يقبل، أما غير ذلك فلا يحملون أنفسهم ما لا يطيقون طالما واجهوا حالة من الرفض العام في المجتمع.
وهذا حدث ويحدث في المجتمعات الإسلامية بمختلف أقطارها بأساليب مختلفة، حيث أصبح المنادون بالاستقلال المعرفي والداعين للالتزام بالقرآن والسنة غرباء عن مجتمعاتهم، معتكفون في مكتباتهم وبين كتبهم يعانون الرفض والإهمال، وإذا تكلموا واجهوهم بالسب والطعن والاتهام.
ولهذا انطبق عليهم وصف (الغرباء) الذي وصفهم به النبي عليه السلام بقوله:
(بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)
وفي رواية أخرى:
(قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟
قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)
ومفهوم (الغربة) هنا أتي من مفهوم (الاعتزال)، والذي يجعل من الإنسان الملتزم، إنسانا منعزلا وغريبا عن الطبائع العامة في مجتمعه، وهذا ما يعانيه وسيعانيه كل من حضر وعاش في زمان الفرقة والفتن.
وقد يعترض البعض أيضا بحديث النبي عليه السلام:
(المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ ويَصبِرُ على أذاهُمْ، أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبرُ على أذاهُمْ)
وبالمثل.
فالحديث ينطبق نصه على الأحوال العادية التي تكون فيها الأمة متفقة الكلمة بشكل عام، أو حتى بشكل جزئي، أما عندما تنقسم إلى عدد لا نهائي من الأهواء والفرق والجماعات والحكومات، ويصبح من المستحيل أن تجد أسرة واحدة يتفق أهلها علي أمر واحد دون اختلاف، فلا شك أن هذا الزمان هو زمان فُرْقة ينطبق عليه الاستثناء الذي يكون له تطبيق آخر وهو نص حديث (حذيفة ابن اليمان) السابق الإشارة إليه.
والأذى المحتمل المشار إليه في الحديث، هو كل أذى يلاقيه المؤمن في غير العقيدة، أما الأذى الذي يفتن الناس عن دينهم ويشككهم في عقيدتهم فليس للمؤمن فيه أن يخالط من يرتكبونه أو يتحمل أذاهم، بل المفروض هو العكس، اعتزالهم وهجرهم وفق أمر الله تعالى في كتابه العزيز:
[وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا] {النساء:140}
كذلك من أهم الوصايا التي وردت إلينا عن طريق الصحابة والأئمة والعلماء، هي ضرورة أن يتميز المسلم بالذكاء الإيماني.
والذكاء الإيماني معناه في أصل الحرص على معرفة وتطبيق أبسط الأعمال الصالحة جُهدا، وأعظمها أجرا.
وأيضا معناه إدراك واستغلال الموهبة والميزة أو النعمة التي عندك في نفع الناس، فالمجتمع يوجد به أُناسٌ عاديون، وآخرون مميزون بميزة خلقها الله تعالي فيهم في موهبة يجيدونها، أو نعمة يمتازون بها عن غيرهم.
وبالتالي فإن الذكاء الإيماني يقتضي أن يُركز في استغلال هذه الموهبة أو النعمة لخدمة الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لأن الله عز وجل جعله مميزا بها لهذا الغرض أصلا.
وبالتالي فليس عليه أن يغرق في نوافل العبادات ويهمل استغلال ما أنعم الله به عليه من تحقيق مصالح المجتمع.
فإن الذي يتعبد إلى الله بخدمة عموم الناس، أفضل بمراحل من المتعبد بالنوافل والعبادات الخاصة الذي تعود بالنفع عليه وحده لا المجتمع، ومعروف بالطبع أن التعبد بنفع المجتمع أفضل كثيرا من التعبد بالنوافل.
وقد جاء في كتاب (إحياء علوم الدين)، للإمام (الغزالي):
(
قيل لبشر الحافي:
إن فلاناً ــــ الغني ـــ كثير الصوم والصلاة،
فقال: المسكين ترك حاله، ودخل في حال غيره! وإنما حال هذا: هو إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه، ومن صلاته لنفسه، ومن جمعه للدنيا، ومنعه للفقراء !!
وقال ابن مسعود:
في آخر الزمان يكثر الحج بلا سبب، يهون عليهم السفرُ، ويُبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوي أحدهم بعيره بين الرمال والقفار، وجاره مأسور لا يواسيه
)
فإن العابد الغني لا ينبغي أن ينشغل بالنوافل وحدها، ويترك الوظيفة الأهم التي خلقه الله تعالى لها ألا وهي السعي في إعالة المحتاج وتفريج أزمة المكروب بماله.
وبالمثل فإن المسلم الذي رزقه الله نفوذا ومكانة في المجتمع، فهذا قد يَسّر الله له سهولة قضاء حوائج الناس بأكثر مما يستطيع غيره، وبالتالي فإن جعل سعيه في ذلك كان له أفضل أجرا من العبادة الشخصية بالنوافل.
وأيضا المسلم الذي رزقه الله العلم الصحيح، والفهم والأسلوب في نشر المعرفة الصحيحة في الدين، فهذا قد رزقه الله بأفضل النعم، فلو أنه انشغل بهذا العلم وجعله في رد الشبهات عن الدين، وتعليمه للناس وإرشادهم، فإن الأجر الذي سيلقاه عند الله ــــ ليس أعظم من العابدين المحافظين على النوافل ـــ بل أعظم حتى من المجاهدين أنفسهم والذين يبذلون الدماء للدفاع عن أوطانهم.
لأن الجهاد يكون نفع الناس فيه على مقدار المعركة أو القتال، بينما نفع نشر العلم والدفاع عن السُنة هو جهاد عام يبقي أثره على امتداد الزمان على عموم الناس.
وليس معنى هذا الكلام أن يكف المرء عن النوافل من الزيادة في الصلاة والحج والعمرة، ولكن المطلوب منه أن يُوّظف نفسه توظيفا يليق بالموهبة التي وهبها الله له.
وقد سبق أن ذكرنا حديث النبي عليه الصلاة والسلام في ذكر أفضلية السعي في قضاء مصالح الناس وكيف فَضّلها النبي عليه السلام على الاعتكاف في المسجد النبوي شهرا!
والوصايا السابقة كلها إنما ينجح في تطبيقها من وفقه الله تعالى إلى ذلك بصدق النية، مصداقا لقوله تعالى:
[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] {العنكبوت:69}
لأن نية النجاة هي التي تحكم رغبة المرء حقا، فليس كل من عَبّرَ بلسانه عن رغبة النجاة بطالبٍ لها أو ساعٍ إليها إن لم تكن رغبته تلك أقرب إليه من حبل الوريد، فلا رغبة ولا نية.
كُلنا قائلٌ برغبته، معبرٌ عنها، لكن هل تعمقنا في أنفسنا فأدركنا هدفنا حقا، أم أن الأمر لا يعدو إلا كونه محاولة لإرضاء الضمير وفقط؟
تلك هي المعضلة الحقة إخلاص النية وإدراك معية الله وقربه تعالى منا إلى أقصي درجات القرب.
وأهم ما فيها هو تنفيذ المسلم لأهم شرط في الإيمان عند أداء الفرائض وعند الالتزام بالنواهي، هذا الشرط هو (تعظيم أمر الله)
وهو ليس أمرا هينا، بل أمر وجوبي ووجودي في الدين، فتعظيم أمر الله معناه تقديس الأمر والنهي الإلهي وتعظيمه حتى لو كان هناك تقصير منك في أداء الأمر أو الامتناع بالنهي، فلا تدع تقصيرك دافعا للاستهانة بالأمر والنهي بل يجب إنزالهما في قلبك منازل الخشية مصداقا لقول الله تعالي في وصف المؤمنين.
[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] {الأنفال:2}
وبعدها، لا خشية كما أسلفنا القول، ولا خوف، وكُن كيف شئت طالما أنك أدركت منزلة الخشية لله حقا، وهذا يقودنا إلى إدراك واحدة من أكبر الكوارث التي تحيق بالمجمعات الإسلامية وهي أزمة اليقين المفقود
الصفحة الشخصية بموقع فيس بوك
القناة الخاصة بيوتيوب
رد مع الإقتباس