عرض مشاركة واحدة
قديم 05-18-2024, 11:18 AM
المشاركة 13
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

*الحرب العالمية الأولى وأثرها على المشروع الصهيوني.

كان الوضع العالمي في بدايات القرن العشرين وضعا شديد السخونة، نظرا لأن الوضع في أوربا كان على حواف الاشتعال رغم تأجيل الصدام الكبير لمدة طويلة.
لأن أوربا في هذا الوقت كانت تحفل بعدة أحداث تم تأجيل البت فيها أو إنهائها بشكل كامل، منها آثار (حرب السبعين) التي دارت بين ألمانيا وفرنسا وخسرتها فرنسا وانطلقت ألمانيا تحت قيادة (بسمارك) مستشارها الشهير لتصبح أحد أبرز القوى الأوربية إلى جانب القوى الغربية ودول أوربا الشرقية
وكان الصراع الطويل بين بريطانيا وفرنسا قد انتهى، وأصبح صراعا على المصالح وبالاتفاق على المفاوضات عندما أصبحت فرنسا وأوربا حلفا واحدا يمثل أوربا الغربية ضد النمسا وألمانيا وبروسيا.
وكانت هناك الخلافة العثمانية التي تقلصت مساحتها نوعا ما بعد الاحتلال البريطاني والفرنسي لأجزاء كبيرة من الشرق الأوسط.
لكن برغم ذلك كانت الدولة العثمانية –رغم ضعفها-كيانا ضخما وعملاقا وكان التخطيط الغربي لإنهاكها يتحسب لحظة انهيارها لكنه لا يستعجل هذا الانهيار قبل أن يُتِم التخطيط للسيطرة عليه وتقسيم الإرث العثماني بالشكل الذي يضمن المكاسب الغربية.
وكانت هناك الإمبراطورية الروسية بما تعانيه من أزمات كبرى تسبب فيها الحكم القيصري، والذي كان قد تلقى هزيمة غير متوقعة له من الإمبراطورية اليابانية، ويرغب في استعادة هيبته العسكرية.
بخلاف المشكلات المستعصية والأبدية في منطقة (البلقان) والتي أطلق عليها المؤرخون منطقة برميل البارود.
ورغم وجود هذا التوتر الكاسح في أوربا.
إلا أن المتفق عليه تاريخيا أن أحدا من القادة الأوربيين لم يتوقع أبدا أن تتصاعد الأحداث لحرب غير مسبوقة وعالمية للمرة الأولى على النحو الذي جرت به.
وقد لعب القدر دورا كبيرا في أن أوربا دفعت ثمن وحشيتها المطلقة في المستعمرات الآسيوية والإفريقية والأمريكية عندما انفجرت تلك الحرب العالمية ليعم الخراب على القارة الأوربية شاملا وعاتيا لأول مرة في تاريخها المعاصر.

وقد نشأت الخلاف الأوربي من واقعة إقليمية محدودة هي ثورة الصرب على الحكم النمساوي، والذي أدى فيما بعد إلى اغتيال ولي عهد النمسا (فرانز فرديناند)، وهو ما أدى لإعلان النمسا الحرب على صربيا لتقوم روسيا بإعلان الحرب النمسا باعتبار الروس حلفاء للصرب
وبعدها انضمت سائر القوى الأوربية للمعركة وتزعمت بريطانيا وفرنسا الحلف ضد ألمانيا وحلفائها.
ولا شك أن المشروع الصهيوني كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بنتيجة الحرب، فلو نجح الحلفاء في الحرب فالميدان سيكون مفتوحا على آخره أمام تثبيت المشروع، ولو فشل الحلفاء فسينهار المشروع فعليا
وثمة حَدَث آخر كان من الأهمية بمكان وهو ضرورة معرفة موقف السلطة العثمانية، فأحداث الحرب كان من الممكن أن تكون في صف العثمانيين وفرصة كبرى لهم لمحاولة الصحوة، إذا ما تمكنوا من الوقوف الحيادي في ذلك الصراع الأوربي الصرف.

لكن العثمانيين دخلوا الحرب إلى جوار الجبهة الألمانية النمساوية، نظرا لعداوتها التاريخية مع الروس، ويبدو أن العثمانيين كانوا يأملون في الانتصار بسبب ضخامة الجبهة الألمانية النمساوية وقوتها التي ضمت ألمانيا وإمبراطورية النمسا والمجر، فضلا على البلغار.
لكن الحلف الثلاثي من بريطانيا وفرنسا وروسيا كان يضم القوى الأكثر تنظيما وترتيبا واستراتيجية، والأخطر أن الحلف الثلاثي كان يسيطر بالفعل مخابراتيا على عدد من الجبهات في أوربا والشرق فضلا على توافر مستعمراته الشاسعة التي كانت تموله بالتمويل اللوجيستي بالإضافة للعون اللوجيستي الأمريكي

وثمة سبب آخر أكثر أهمية.
أن الحلف الثلاثي –عدا روسيا-كان مستقرا داخليا وخارجيا بعكس الحلف الألماني الذي كانت فيه الدولة العثمانية مخترقة من الداخل، ومهترئة من الخارج، والنمسا تحت حكم غير مستقر ويتصدع باستمرار.
وبالطبع كانت الحركة الصهيونية تقف بثقلها مع الحلف الغربي، وانتهزت الفرصة للتدريب العسكري لبعض ميلشياتها وعصابتها التي تكونت منذ ذلك الحين.
ونستطيع أن نقول بأن بريطانيا في تلك الفترة كانت هي القائد الفعلي للحرب، والمخطط الاستراتيجي الأكثر خبرة واستعدادا.
ومن هذا المنطلق كانت ترمي بعينيها على جبهة الشرق الأوسط في نفس الوقت الذي تهتم فيه بالجبهة الأوربية الرئيسية.
وفي مصر، بدأ اللورد (مكماهون) المندوب السامي البريطاني في مصر تواصله مع (الشريف حسين) الذي كان حاكم الحجاز التابع للدولة العثمانية، وجرت بينهما المراسلات التي مَهّدَها لهم رجال المخابرات البريطانية العاملين في العراق والجزيرة العربية.
وقام مكماهون بعقد اتفاق مع الشريف حسين لكي ينقلب على العثمانيين مستغلا وقوع الحرب وإطلاق ما أسماه (الثورة العربية) للاستقلال بالحجاز والشام، ووعده البريطانيون بدعمه في الاستقلال وإنشاء أول خلافة عربية مستقلة في المنطقة تضم الحجاز وبعض أجزاء الشام، فقاد الشريف حسين الثورة والانقلاب العسكري على العثمانيين وحاربهم بديلا على البريطانيين ليفتح على العثمانيين جبهة حساسة في ذروة الحرب العالمية الأولى
في نفس الوقت الذي كان فيه رجال المخابرات البريطانية يواصلون عملهم الحثيث في العراق والخليج العربي عن طريق رصد أكبر القبائل الداعمة للوجود العثماني ومحاولة إنهاء حكمها وأشهرهم (آل الرشيد)
وقام رجال المخابرات البريطانية بقبول دعم استقلال نجد بعد أن فاز بها (عبد العزيز آل سعود) بعد صراع طويل بين آل الرشيد وبين آل سعود لم يتمكن فيه السعوديون من الانتصار إلا في تلك الفترة.
ومع تصاعد الأحداث وتزايد قوة إمارة آل سعود عقب تَمَكّنه من ضم عدد كبير من المقاتلين البدو المعروفين باسم (إخوان من طاع الله)، دَعَم البريطانيون طلبه باقتحام الحجاز وغدروا بالشريف حسين وقاموا بنفيه إلى قبرص.
ولكي يضمنوا استقرار الإمارات الخليجية الجديدة بعد الحرب، قاموا بتشكيل الشام والعراق مع الفرنسيين واحتفظوا بالقدس وفلسطين، ثم أعطوا شرق الأردن لعبد الله الابن الأكبر للشريف حسين، ووضعوا فيصل شقيقه حاكما على العراق
واستمرت الحرب الدموية الأولى وانتهت بتدمير معظم أوربا لكن بريطانيا خرجت منها وهي القوة العظمى الأكبر في العالم.
وعقب انهيار الخلافة العثمانية وَهَدْمها من الداخل عن طريق جمعية الاتحاد والترقي وأنشطة (أتاتورك) تم إعلان قيام الدولة التركية العلمانية لتضمن بريطانيا وحلفاؤها بأن المشروع الصهيوني كُتِب له النجاح الأكبر بعد أن تم إنهاء دور الخلافة الجامعة للمسلمين، وتحييد الأتراك بدولة علمانية لا علاقة لها بالقدس ولا الأماكن المقدسة للمسلمين.
وأيضا بتقسيم الشام والجزيرة لدويلات وإمارات تسيطر بريطانيا وفرنسا على حكوماتها سيطرة تامة، فضلا على احتلالها السابق لمصر ثم للعراق في عام 1920م

فظهرت أنشطة تهجير اليهود ودعم الصهيونية في مصر بعد أن تم تأسيس المنظمات الصهيونية في الشرق وأولها (بركوخيا) التي أسسها (جوزيف ماركو باروخ) للعمل على تجهيز المسرح السياسي المصري لاستقطاب أنصار الصهيونية بين المثقفين والسياسيين، وتم افتتاح فروع مختلفة للجمعية في معظم المحافظات المصرية، فضلا على انطلاق عدد كبير من الصحف الصهيونية مثل (الشمس) و(إسرائيل) وغيرهما.
وفي عام 1916م تم عقد معاهدة (سايكس - بيكو) التي تمت بين بريطانيا وفرنسا عن طريق وزيري خارجيتيهما (مارك سايكس) و(جورج بيكو)، وفيها تم رسم الحدود الجغرافية لمناطق نفوذهما في الشرق، كما تم تقسيم وتسمية التقسيمات المستقلة للإمارات المجزأة في الجزيرة والشام.

ثم اكتملت الدائرة بصدور (وعد بلفور) البريطاني، وهو الوثيقة الرسمية الأولى التي تم إعلانها للمشروع.
وهو الوعد الذي أصدره (آرثر بلفور) وزير الخارجية البريطاني بعد أن أعلنت بريطانيا الانتداب (الاحتلال) على القدس، ودخلها الجنرال البريطاني اللورد (إدموند ألنبي) والذي حرص بعد دخوله على إصدار تصريح شامت يفخر فيه بالمنجز البريطاني عندما قال:
(الآن فقط انتهت الحروب الصليبية).
وبالطبع كان يعني أن الخطة البريطانية الناجحة للمشروع الصهيوني حققت حلم الأوربيين الأزلي باحتلال الشام ومصر والسيطرة على الشرق بسيطرة كاملة تجعل من الوجود الغربي أمرا واقعا عن طريق تأسيس دولة اليهود الوظيفية، وعن طريق السيطرة الغربية على الحكومات العربية التي تم تقطيع أراضيها الموحدة لتصبح مجرد شظايا جغرافية يعادي بعضها بعضا وينافس بعضها بعضا ويحتكمون للغرب عند الخلاف بينهم!
وحرصت بريطانيا على جعل الأمر رسميا بعد تشكيل (عصبة الأمم) أول تنظيم دولي جامع أسسه الغرب لكي يكون بمثابة الجهاز التنفيذي الذي يعترف أو يؤسس الدول ويشرف على الخلافات فيسمح بظهورها أو لا يسمح.
وعقب تنفيذ الاتفاق الفرنسي الإنجليزي المنصوص عليه في (سايكس بيكو)، دخلت القوات الفرنسية إلى سوريا، وفي دمشق قام قائد القوات الفرنسية الجنرال (هنري جورو)، بالتوجه نحو ضريح صلاح الدين الأيوبي -وذلك حسبما ذكر اللواء راشد الكيلاني-في مذكراته،
وقال:
(يا صلاح الدين أنت قلت لنا إبان حروبك الصليبية: إنكم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليه، وها نحن عدنا فانهض لترانا في سوريا)
وما بين مقولة الجنرال (ألنبي) والجنرال (جورو) بدأت حكاية الأراضي العربية والشعوب العربية مع الغرب، بعد أن وصلوا لأكبر أهدافهم بإنهاء سطوة الخلافة الموحدة الجامعة، وخداع العرب بقصة التقسيمات الإقليمية، لتتكفل الحماقة العربية بعد ذلك بِجَعْل الدول العربية أشبه بمسرح للعرائس يتحر ك وفق الأصابع البريطانية – الفرنسية، ثم ورثته الأصابع الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية!
وكان انهيار الخلافة الجامعة لأول مرة وانتهاء الحكم الموحد للمسلمين والذي ضم تحته المنطقة العربية، حدثا هائلا له تأثير كاسح على معاصريه من المجتمع العربي، وتزامن هذا الحدث مع اشتداد دعاوى التغريبيين المدعومة بسلطة الاحتلال، وظهور الدعاوى القومية شديدة التحزب، التي كانت السبب الرئيسي في خلق أكبر حركة تطاحن مذهبي واختلاف سياسي بين الشعوب.
وزاد الأمر احتداما بظهور الشيوعية كنظام سياسي لأول مرة عقب انهيار حكم القياصرة من أسرة (آل رومانوف) في روسيا، ونجاح الثورة البلشفية عام 1917م على يد (أستروتسكي) و(لينين) و(ستالين)، لتدخل روسيا دوامة حرب أهلية قصيرة انتهت بتأسيس الاتحاد السوفياتي ذو العقيدة الشيوعية المادية التي اتخذت الإلحاد الصريح والعداء للرأسمالية الغربية منهجا سياسيا واقتصاديا لها، ثم أخذت تبحث لها عن دور فاعل على الساحة الدولية في ظل تعملق مكانة أوربا الغربية ممثلة في بريطانيا وفرنسا.
وسبب احتدام الصراع المذهبي العربي بظهور السوفيات أن المنهج الشيوعي وصل للشرق، ووجد له متابعون ماركسيون كثر.
وهكذا تنوعت الأفكار والمذاهب داخل مصر والشرق.
ولم يكن تنوعها بالتنوع الإيجابي بأي حال، بل كان تنوع الصدام والتشرذم الهائل، وتفرقت نُخَب الزعماء والمثقفين على المذاهب المتطاحنة، ولم يعرف الشعب من يومها تيارا واحدا مستقلا يمكن أن يعبر عن ثقافته أو تاريخه وعقيدته.
وفي ظل بدء بواكير الصراع على أرض فلسطين بين حركة الاستيطان وبين أهل الأرض نفسها، كان العرب في مصر والشرق يتطاحنون على صراعات أخرى مختلفة.


فقد تشكلت في مصر المرحلة الثانية من المقاومة بعد وفاة (مصطفى كامل)، على يد (سعد زغلول) ورفاقه الذين رفعوا شعار الاستقلال لمصر بعد الحرب العالمية الأولى على أساس الوعد الذي قطعه الحلفاء على أنفسهم باستقلال البلاد المحتلة، وما تبع ذلك من مبدأ الرئيس الأمريكي (ويلسون) والمعروف بحق تقرير المصير.
ورفضت سلطات الاحتلال الإنجليزي السماح للوفد المصري الشعبي الذي يقوده سعد زغلول بالسفر على اعتبار أنهم لا يحملون تفويضا أو صفة رسمية تمثل الشعب.
واستخدم الإنجليز القوة الغاشمة باعتقال سعد زغلول ورفاقه إلا أن الثورة اندلعت في مصر بأكملها تأييدا للوفد، فتراجع الإنجليز وأفرجوا عن سعد ورفاقه.
ونجحت الحركة الوطنية في تكثيف الدعوة الشعبية لجمع التوكيلات المطلوبة لسفر الوفد المصري ونجحوا في ذلك بالفعل إلا أن الوفد لم يحقق العمل المرجو واستمرت الثورة بقيادة سعد زغلول ورموز الحركة الوطنية حتى أفرزت عن نفسها بإقرار مصر مملكة مستقلة ولكن تحت الحماية البريطانية، وتم إعلان الملك فؤاد ملكا على البلاد بعد أن أتى به الإنجليز من أوربا وعلى إثر ثورة 1919 تم اعتماد الملكية الدستورية في مصر ونجح سعد زغلول باكتساح بعد أن قام بتشكيل حزب (الوفد) وتقدم به للانتخابات العامة.
وتم إقرار أول دستور ليبرالي مصري على النظام الأوربي عام 1923م، والذي أنهى عصر السلطنة العثمانية في مصر بعد سقوطها رسميا
ولكن هذا الدستور الذي ناضل الشعب كله لأجله كان يحتوي على مادة واحدة أفرغته من مضمونه تماما، وأبطلت مفعوله ألا وهي المادة التي أعطت الملك الحق في حل البرلمان المنتخب وإقالة الحكومة.
وهو ما أدى بعد ذلك إلى أن يسيطر القصر تقريبا على الحكومات التالية ولم يستطع حزب الوفد أن يحكم حكما مستقرا قط إلا سنوات معدودة، بعد أن حكمت مصر خلال تلك الفترة حكومات الأقلية المتعاونة مع القصر.

كان هذا الصراع مع الاحتلال الإنجليزي هو أول أنواع الصراع التي استولت على اهتمام الجماهير.
أما الصراع الثاني فهو الصراع الحزبي والمذهبي الذي ازداد ضراوة بعد سقوط الخلافة، ونشأة الشيوعية.
فتزايدت الأفكار الأيديولوجية في المجتمع السياسي وتورطت فيها الطبقة المتوسطة وتعددت الأفكار بين الليبرالية واليمين واليسار والتغريب والمنادين بالاتجاه نحو أوربا ونسيان الانتماء العربي ثم المنادين بالقومية المصرية المنفردة.
حتى ازداد التطاحن بظهور لاعب جديد على الساحة كان ظهوره متوقعا وهو اتجاه (الإخوان المسلمين) الذين كَوّنهم (حسن البنا) كجمعية أو جماعة لها أفكار أيديولوجية تنتمي لأفكار التنظيمات الشيعية القديمة في التاريخ، وأولها تنظيم (حسن الصباح)
وكانت جماعة الإخوان هي رد الفعل التقليدي على سقوط الخلافة الرمزية للمسلمين وافتقاد الناس للمرجعية الدينية، فضلا على دخول المذاهب الأيدلوجية الغربية التي أرادت الحلول محل الثوابت الدينية والتاريخية للشعب المصري.
لهذا تصاعدت شعبية الإخوان سريعا لرفعها شعارات الإسلام والحكم الإسلامي، فأيدها عدد من المفكرين والشيوخ لفترة، حتى انكشف أمر العلاقة الوثيقة بين حسن البنا وبين مراجع الشيعة، واتخذت الجماعة بعد ذلك خط العنف المسلح لتحقيق أهدافها في الحكم، فتراجع مؤيدوها من الشخصيات العامة عن تأييدها وهاجموها بعد ذلك.
وكان ظهور الجماعة من بداياتها في مدينة الإسماعيلية مرصودا بالطبع من المخابرات البريطانية في مدن القناة.
ونظرا لأن البريطانيين كانوا أصحاب خبرة طويلة بالتعامل مع التيارات الدينية في شرق آسيا وفي الجزيرة العربية، فقد وجدوا في ظهور الجماعة فرصة سانحة لزيادة التفرق الشعبي وضرب شعبية حزب الوفد وموازنتها بأيديولوجية مختلفة.

وكان (حسن البنا) بعد ظهور جماعته ونقلها للقاهرة قد ازداد طموحه، ونظرا لأنه لم يكن يهدف للشعبية بين الناس، وينتهج النهج البرجماتي لهذا يمم وجهه ناحية القصر الملكي والإنجليز باعتبارهم القوى الفاعلة في السلطة.
وأراد تقديم نفسه وجماعته كبديل إسلامي لشعبية حزب الوفد الذي يُنَغص على القصر الملكي حكمه، وقد بدأ التعاون بين حسن البنا وبين الإنجليز والفرنسيين في وقت مبكر حيث قَبِل منهم تبرعا ماليا سخيا لنشاط الجماعة!
وهو التبرع الذي أثار استغراب أتباعه الذين كانوا يظنون بأنهم إزاء دعوة إسلامية تعادي المحتل وتعادي القصر الحاكم على رماح الإنجليز
وانطلقت جماعة الإخوان في تحالف معلن مع القصر لتؤيد كل قراراته وتعادي القوى الوطنية في الموقف من القصر والاحتلال، ومن أشهر مواقفهم في هذا الشأن هو تأييدهم للملك ضد مظاهرات حزب الوفد التي خرجت لتقول (الشعب مع النحاس)، ليرد الإخوان بشعار (الله مع الملك)!
كما قاموا بمظاهرات مضادة للوفد لتأييد رئيس الوزراء (إسماعيل صدقي) المعروف باسم جلاد الشعب، واستخدموا آيات القرآن لتأييده بترديدهم لقوله تعالى:
(واذكر في الكتاب إسماعيل)
وكان التطور الخطير في الجماعة هو تكوينها لجناحها المسلح (التنظيم الخاص) واعتمادها على السرية التامة في عمله.
ولم يطل شهر العسل بين القصر والإخوان، فقد تعجل حسن البنا الإعلان عن قوته، واستخدم النظام الخاص لعميات اغتيال سياسي وتفجيرات تستهدف خصومه السياسيين وعلى رأسهم الحكومات المعادية له كحكومة النقراشي وأحمد ماهر.
وكان ظهور جماعة الإخوان بهذه الصورة، واحدا من أكبر أسباب انتشار الهجمات المتزايدة على الدين الإسلامي وتاريخه وحضارته حيث تعامل العلمانيون والتغريبيون مع الإخوان على أنهم الممثلون الرسميون للإسلام.
وبالتالي حملوا أخطاءهم وجرائمهم على الدين نفسه وثوابته وحضارته حتى اليوم.
وجرت الأمور في خطها المعروف بعد ذلك.

والنوع الثالث من الصراع الذي كان على الساحة العربية هو الصراع الذي نتج عن سقوط الخلافة العثمانية، عندما تطاولت أعناق حكام القصور الملكية العربية لكي يشغلوا مكان الحكم الشاغر بسقوط الحكم العثماني.
وبالطبع لم يكن هناك حاكم عربي واحد في ذلك الوقت خارج السيطرة الأوربية، لهذا كان طموحهم مرتبطا بالبريطانيين الذين يملكون القوة لتنصيب الحكام والعروش وتقسيم السلطات بين المستعمرات المختلفة.
فتنافس على الخلافة المفترضة الملك (فاروق) الذي كان يرى أنه الأحق باعتباره يشغل منصب الملك في أكبر دولة بالمنطقة.
ونافسه الأمير (عبد الله) أمير شرق الأردن الذي كان يرى أن الإنجليز قد غدروا بوالده ولم يُمَكّنوه من إنشاء خلافة عربية بديلة.
كذلك (عبد العزيز آل سعود) الذي يحكم أكبر دولة في الجزيرة العربية!
وبالطبع يحق لنا أن نبرز الدهشة العميقة من أحلام اليقظة التي كانت تراود هؤلاء الحكام حقا.
فَهُم جميعا وغيرهم من البلاد الإفريقية يعلمون تمام العلم أنهم لا يملكون فعليا، وأن عروشهم مرهونة برغبة أصغر معتمد سامي للبريطانيين في المنطقة، وأن البريطانيين يحكمون المنطقة بأكملها ويديرونها حسب مصالحهم.
ورغم ذلك فكل ما يعنيهم أن يُبْرزوا أنفسهم أيهم أحق بالدعم البريطاني لكي يُنَصّبوه خليفة مفترض لخلافة عربية تعمل بالتفويض للعرش البريطاني!

والشيء الملحوظ في كل تلك الصراعات.
وهو الأمر الذي نؤكد عليه في هذا الكتاب كفكرة رئيسية يجب أن تظل في ذهن كل قارئ.
هذا الأمر هو أن الشعوب العربية كانت منفصلة تماما عن السلطات الحاكمة، وعن النخب الظاهرة في نفس الوقت.
بمعنى أن التيارات المتصارعة ومعاركها الضيقة سواء كانت صراعات طبقة الحكومات التابعة للاحتلال، أو صراعات النُخَب من الأحزاب والأيديولوجيات المختلفة لم يكن فيها من يعبر عن الشعوب تعبيرا كاملا، أو يحقق طموحاتها.
عدا استثناءات بسيطة مثل حزب الوفد في مصر في فترة سعد زغلول، وهو الأمر التي تراجع كثيرا في عهد (مصطفى النحاس) الذي تولى قيادة الوفد بعده وكثرت الانشقاقات في عهده، بعد انشقاق وكيل الحزب (مكرم عبيد) وتراجعت شعبية الوفد كثيرا مع الدكتاتورية التي كان يحكم بها النحاس حتى على رفاقه ورموز الحزب
فالقصد.
أن الشعوب العربية تحديدا لم تجد من يعبر عنها وكانت –منذ ذلك العهد-تتحرك بانفصال تام عن صراعات النخب والحكم وتبحث باستمرار عن قائد وقيادة تحقق طموحها في تحقيق الاستقلال والاهتمام المجرد بالمصلحة الوطنية
ومن الجدير بالذكر أن الحكومات والنخب المختلفة لم تكن تبدي اهتماما بطموحات الشعوب أيضا.
فالحكام سواء كانوا من الملوك والأمراء أو الوزارات كانت طموحاتهم كلها تتركز على المكاسب السياسية وَتُوَلي اهتمامها إلى سلطات الاحتلال الذي يملك فعليا حق المنح والمنع فيما يخص السلطة.
وهذا أمر طبيعي لأنه منذ سيطرة الإنجليز والفرنسيين على مقدرات منطقة الشرق الأوسط وتقسيمها لم تصبح مشروعية الحكومات الموجودة مستندة إلى أي شرعية شعبية من أي نوع، بل كانت شرعيتها الوحيدة هي القوة المستندة إلى سلطة الاحتلال.


أما النخب المتصارعة حول الأفكار الأيديولوجية المختلفة فهذه لم تكن تنتمي للشعوب بل تنتمي لمصدر تلك الأفكار سواء من الشرق أو الغرب، فالشيوعية تيمم وجهها للاتحاد السوفياتي، واليمينية توجه وجهها للغرب، والتغريبيون ولاؤهم المطلق لسلطة الاحتلال ... الخ تلك الصراعات.
وبالتالي.
فإن الفصل بين رغبات الشعوب ومنهجها وطموحاتها وبين النخب والحكومات، ليس ميزة معاصرة تخص واقعنا العربي اليوم أو حتى في الماضي القريب.
بل الانفصال بين الطرفين واقع وحادث منذ بدايات القرن العشرين عدا فترات بسيطة للغاية كانت الشعوب فيها متماهية مع سُلْطتها.
والأنكى من هذا.
أن هذا الانفصال أدى للظاهرة العجيبة الموجودة حتى اليوم وهي أن الفئة التي تحتل أماكن النخبة سواء في الحكم أو الإعلام دائما ما تكون هي الأقل كفاءة، والأشد ابتعادا عن ثوابت الشعوب التي من المفترض أنها تعبر عنها.
ومن يتأمل الحال اليوم في مواقف المسئولين السياسيين، وفي شاشات الإعلام يدرك ببساطة أن ما يُقَال من هذه النخب عبارة عن تعبير وترجمة حقيقية لمواقف الغرب لا مواقف الشرق، بينما الشعوب في واد آخر تماما.

وهذا يقودنا إلى حقيقة بالغة الأهمية.
أن أسلوب التعامل بين الجماهير العربية يحتاج فكرا واعيا يدرك هذا الفارق الكبير بين الحكومات والشعوب.
فالحكومات دوما ما تلجأ لاستفزاز عصبية وتعصب الجماهير ضد من يكتب عن سياسات الحكومات، بالذات إن كان المتكلم من جنسية عربية أخرى.
وبدلا من مناقشة حقائق الواقع والتاريخ تظهر دعوات العداوة الإقليمية الضيقة لتتهم التونسي بأنه يسب العراق إذا تحدث عن شأن عراقي، وتتهم الكويتي إذا تحدث عن السياسة المصرية، وتتهم المصري إذا تحدث عن السياسة الخليجية .... وهلم جرا.
بينما الفكرة الأصلح والأكثر استقلالا هو ما ينادي به دوما المفكر الكويتي عبد الله النفيسي، ومن قَبْلِه هيكل وعبد الوهاب المسيري وجمال حمدان ومحمود السعدني، من أن القوميات الضيقة والتشبث باعتبار الحاكم أنه رمز بلاده وأن انتقاده هو انتقاد للبلد ذاتها، هي أفكار انتهت من العالم منذ قرون.
فالسلطة السياسية لأي بلد أيا كان، لا علاقة لها بهذا البلد ولا موقف شعبها، والدليل على ذلك أن الحالة السياسية متفقة بين معظم أقطار الوطن العربي، حيث تعاني الكفاءات من الإهمال والتغييب، بينما يحظى المنتفعون بمراكز القيادة

وهذه الحقيقة أدركها الشعب الفلسطيني منذ وقت مبكر
فالشام كلها كانت تحت الاحتلال الإنجليزي الفرنسي، وسلطة الانتداب الإنجليزية حكمت القدس فعلا، وانتشرت المستوطنات اليهودية بسلاحها وجبروتها وأعلنت نواياها بالفعل
ولأول مرة يظهر أصحاب الأرض في الصورة، حيث كانت الثورة الفلسطينية والانتباه لما يجري في فلسطين قد اندلع بشدة عقب إعلان وعد بلفور، ولم ينتظر الفلسطينيون موقفا من حكومات البلاد الواقعين تحت سلطة الاحتلال، ولا حتى من البلاد العربية المحتلة بنفس السلطة.
لذلك قام الشعب الفلسطيني بالدعوة للمقاومة عبر الرموز الشعبية التي أفرزتها أرض الواقع أثناء المواجهة، وكان منهم الحاج (أمين الحسيني) مفتي القدس، والشيخ (عز الدين القسام) والشيخ (عبد القادر الحسيني) والشيخ (فرحان السعدي) وغيرهم من رموز المقاومة التي تشكلت بعد صدور وعد بلفور ودخول الإنجليز للقدس
والشيخ أمين الحسيني تم تعيينه في مكان الإفتاء من سلطة الاحتلال باعتبار تلك السلطة هي سلطة الحكم المباشر على القدس بعد قرار الانتداب.
وفور تقليده مكان الإفتاء أصدر فتواه بعدم جواز تقديم تنازلات لسلطة الاحتلال في قضية التوطين، كما تزعم أول منظمة شعبية تكافح الوجود اليهودي وهي منظمة (المنتدى العربي).
وأصدر الحسيني أيضا الفتوى الشهيرة له، التي اعتبرت من يبيعون أرضهم لليهود والسماسرة الذين يسهلون هذه العملية خارجين عن الإسلام ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، كما نشط في شراء الأراضي المهددة بالانتقال إلى أيدي اليهود وضمها إلى الأوقاف الإسلامي.

ومن الجدير بالذكر أن الصهيونية مارست حربا نفسية موسعة في هذا الجانب، عندما أطلقت خرافة أن الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم لليهود، وأنهم تخلوا عن المساحات الشاسعة التي استولى عليها المستوطنون.
ولا شك أن هذه خرافة تهدف للترويج لنظرية خبيثة للغاية مضمونها أنه لا ينبغي على العرب الاهتمام بالقضية الفلسطينية، طالما أنهم قد تخلوا عن أرضهم طواعية!
ويتناسى هؤلاء أن الفلسطينيين كانوا هم أول من بدأ المقاومة ودفعوا الشق الأكبر من التضحيات المستمرة منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم.
أما الأراضي التي استولى عليها الاحتلال فقد تمت أولا بالصفقات التي تم عقدها بين مليارديرات اليهود وبين السلطنة العثمانية في بداية مشروع التهجير.
وبعدها بدأ الاستيلاء القهري على المزارع والمساحات الشاسعة تحت رعاية الاحتلال البريطاني، ومن تعانوا معه من طبقة الإقطاع في الأراضي العربية، هذه الطبقة التي كان يوجد مثلها في كل الأقطار التي وقعت تحت الاحتلال.
ولم يكن الشعب الفلسطيني –قبل إعلان هدف الصهيونية-مشاركا أو عالما بما يجري فلما تصاعدت وتيرة الأحداث انطلقت المقاومة والحرب بينهم وبين الاحتلال وقوى الاستيطان.

وعودة إلى سياق الأحداث
حيث مارس (أمين الحسيني) دوره في المقاومة من الجانب السياسي فكان المدافع الرسمي عن الحقوق الفلسطينية تجاه سلطة الاحتلال.
بينما قام الشيخ (عز الدين القسام)، والشيخ (عبد القادر الحسيني) بالدور العسكري وتزعم فصائل المقاومة المسلحة وعملياتها ضد الاحتلال الإنجليزي واليهود على حد سواء.

ودور الحاج الحسيني بدأ عند بدء الاحتلال البريطاني لفلسطين، حيث عُيّن سنة 1918 مرافقاً خاصاً للحاكم البريطاني العسكري، ولم يلبث أن استقال من منصبه احتجاجاً على سياسة بريطانيا المؤيدة للصهيونية ومارس التعليم في كلية المعارف في القدس.
وحكمت السلطات البريطانية سنة 1920 عليه بالسجن غيابياً لتزعمه المظاهرات التي جرت في هذا العام. فهرب إلى الكرك ومنها إلى دمشق خلال عهد الملك (فيصل)
وعاد إلى القدس سنة 1920 بعد أن عفا عنه المندوب السامي (هربرت صموئيل) المعيّن حديثاً، وفاز بمنصب الإفتاء في مايو سنة 1921 خلفاً لأخيه الأكبر كامل بعد وفاة الأخير. ثم عُيّن رئيسا لـ "المجلس الإسلامي الأعلى" الذي استحدثه صموئيل، فشغل الحاج أمين هذين المنصبين الهامين-إلى حين مغادرته فلسطين مكرهاً سنة 1937-بهمة ونشاط عظيمين، فضلاً عن قيادته الحركة الوطنيّة خفية حذراً من الحكومة البريطانية.
فغدا أبرز زعماء البلد العرب وأوسعهم نفوذاً في فلسطين وخارجها
ثم قام بدور سياسي محترف عندما أدرك أن قضية الصهيونية يجب أن يتم تدويلها نظرا لأن القدس تخص المسلمين كافة، ولا ينبغي أن يتم التعامل معها على أنها قضية إقليمية تخص منطقتها فحسب كما هو الحال مع الاحتلال في كل بلد
لهذا أشرف سنة 1931 على عقد (المؤتمر الإسلامي العام) في القدس، آملاً بحشد طاقات العالم الإسلامي في مواجهة الصهيونية مقابل الطاقات العالمية التي كانت قد حشدتها هذه الأخيرة.
وكان من نتائج المؤتمر أن توطّدت سمعة الحاج أمين عربياً وإسلامياً. وقام سنة 1933 بجولة في عدد من الدول العربية في العراق والكويت والمملكة السعودية، للحض على دعم القضية الفلسطينية، وتولي مهمة الوساطة بين السعودية واليمن سنة 1933 لإنهاء ما نشأ بينهما من نزاع واقتتال.
ثم ترأس سنة 1936 "اللجنة العربية العليا" التي ضمت زعماء الأحزاب الفلسطينية كافة والتي قادت "الإضراب العام" سنة 1936 و"الثورة الفلسطينية الكبرى" سنة 1937-1939 ضد مشروع تقسيم البلاد الذي أوصت به "اللجنة الملكية البريطانية" برئاسة (اللورد بيل) وهي الثورة الفريدة التي سنتعرض لتفاصيلها باعتبارها الحدث الأيقوني في تاريخ المقاومة الفلسطينية.
وعندما نفذت المقاومة ضربتها باغتيال حاكم منطقة الجليل (لويس أندروز) في 1937- بعد صدور مشروع التقسيم – عزلت الحكومة البريطانية الحاج أمين من رئاسة المجلس الإسلامي وقررت إلقاء القبض على أعضاء اللجنة العربية العليا بكامل تشكيها، فلجأ الأخير إلى الحرم الشريف ومنه سراً إلى يافا ثم لبنان حيث أقام، ليدير الثورة من منفاه إلى حين اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، الأمر الذي اضطره إلى الخروج من لبنان واللجوء إلى العراق، هرباً من الاعتقال من قبل السلطة الفرنسية الانتدابية, حيث كانت فرنسا تسيطر على لبنان وسوريا ضمن التقسيم المتفق عليه بينها وبين بريطانيا.