عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
6

المشاهدات
1412
 
عبد الكريم الزين
من آل منابر ثقافية

اوسمتي
الوسام الذهبي الألفية الرابعة الألفية الثالثة وسام الإبداع الألفية الثانية التواصل الحضور المميز الألفية الأولى 
مجموع الاوسمة: 8


عبد الكريم الزين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
14,144

+التقييم
11.18

تاريخ التسجيل
Dec 2020

الاقامة
المغرب

رقم العضوية
16516
02-06-2021, 09:21 PM
المشاركة 1
02-06-2021, 09:21 PM
المشاركة 1
افتراضي قصة قصيرة: الضياع
الضياع


الشمس الساطعة بشدة، تسخو بأشعتها الدافئة وتنبىء بيوم ممتع. تلاطف بحنان وجه نادين المتورد، ويداعب النسيم الرقيق المضمخ برائحة البحر خصلات شعرها السوداء المتسللة من غطاء رأسها الحريري الناعم.
نزلت نادين من السيارة بتمهل متأبطة حقيبتها البنفسجية، ونظرت إلى زرقة البحرالممتدة إلى السماء بلا نهاية. تنفست ملء رئتيها هواءا تدفق منعشا إحساسها المبتهج بروعة اللحظة والمكان.
أمسكت برقة يد ابنها رضوان، ثم انطلقا عبر الممشى المرتب بصفين من الحجارة المصبوغة بلون أبيض براق، تعثر الطفل في مشيته وهو يعب بنهم مشروبا غازيا. أقفل أيمن أبواب السيارة وتبعهما حاملا مظلة شمسية صفراء. غاصت أرجلهم في الرمال الساخنة، وتجاوزوا المقهى الساحلي ومركز النجدة ثم المراحيض الشاطئية.

توقفت نادين فجأة، ورمقت رضوان بنظرة توبيخ:
" رضوان. ماذا فعلت! شربت القنينة كلها، ستؤلمك بطنك ".
لكن الطفل القابض على قنينة المشروب الغازي بشدة، أصر على أن يمتص آخر قطرة منها انتزعتها منه فبدأ في البكاء. نصب أيمن المظلة الشمسية وناداه مواسيا:
" علاء، اذهب لتسبح، وعندما تعود سأشتري لك عصير ليمون".
كف علاء عن البكاء وركض إلى المياه المتموجة. فرشت نادين المناشف البحرية بتأن مخاطبة زوجها كمال:
" لقد دللته كثيرا، ستفسد تربيته"
رد بابتسامة مرحة:
" يا حياتي، الولد مازال صغيرا، لم يتجاوز السنة السادسة بعد "
استلقت على الأرض، فشعرت بحرارة الرمال الساخنة اللذيذة تسري إلى جسدها، لا فائدة من الجدال، كمال لن يغير رأيه في تربية وحيدهما، فلا داعي لإفساد بهجة اليوم.
تابعت علاء وهو يقترب من المياه المتراجعة، ثم يعدو هاربا ما إن تعود الموجة، في حين وقف كمال غير بعيد يتابع كرة يتقاذفها مجموعة من الشبان، و يختلس النظر إلى ابنه المتسابق مع الأمواج الصغيرة.

رن الهاتف المحمول بعذوبة. سحبته نادين من حقيبتها وتمعنت للحظة في اسم المتصلة، ثم انخرطت معها في حديث طويل، تخللته ضحكات حلوة.

لا تدري كم من الوقت كان قد مضى حين التفتت بوجهها فلم تبصر زوجها، بحتث أيضا عن رضوان بعينين قلقتين، اختفى هو أيضا.
طمأنت نفسها، لا بد أنه برفقة أيمن، لكن القلق يتسرب قطرات إلى قلبها. أنهت المكالمة. تمعنت في وجوه الأطفال المتواثبين بين الأمواج، وضاعت عيناها بين الأجساد العارية المتشابهة، لماذا لا يأتيان الآن ليقطعا وساوس تنساب بين جوانحها، ما أقسى مرارة الانتظار. انتصبت واقفة ورأسها يتحرك بعصبية ظاهرة في كل الاتجاهات. لم تعد تطيق. لماذا يتأخران كل هذا الوقت؟ نظرت إلى الساعة في هاتفها المحمول. عشر دقائق مرت منذ أن لاحظت غيابهما. ما أطولها كأنها دهر بأكمله.
ارتعشت أطرافها و حدقت بشدة في أيمن القادم من جهة المقهى، أسرعت نحوه و سألته بلهفة:
"أين رضوان؟"
نظر إليها بتوجس و قال:
"تركته قربك يسابق الموج، وذهبت لشرب كأس من القهوة"
ارتجفت رجلاها و تهاوت على ركبتيها صارخة:
"رضوان اختفى يا أيمن "
ركض نحو الأمواج، جال ببصره يمينا ويسارا، سأل الواقفين و الجالسين... طفل في الخامسة من العمر، يرتدي بدلة سباحة زرقاء، شعره ناعم طويل.
لحقت به نادين بوجه شاحب وعينين محمرتين. أين أنت يا ولدي ؟ صرخت والدموع تخنق صوتها المتحجرش. قبض على ساعدها. ذرعا شاطئ البحر جيئة و ذهابا. لا أثر للطفل. تضمخ وجهها بالعرق و الدموع، تعثرت قدماها بالرمال الرطبة أكثر من مرة. شفتاها تلهجان بدعاء مسموع:
"يا رب يا مجيب الدعوات أعد لي ابني رضوان سالما".
تاه بصرها بين آلاف الأجساد المتحركة، وذاب أملها فوق ذرات الرمل الحارقة.
نظر إليها أيمن وقال:
"لا نستطيع البحث لوحدنا، الشاطئ مكتظ. لنطلب المساعدة".
هرعا إلى مركز النجدة، حارس الشاطئ الجالس على كرسي عند المدخل وقف منتصبا لما رآهما، انتحبت نادين و صرخ أيمن:
"ابننا اختفى في الشاطئ".
نظر إليهما الحارس مشفقا:
"هدئا من روعكما، سنجده قريبا. كل يوم يضيع أطفال في الشاطئ و يُسلَّمون إلى المركز".
نظرت إليه بعينين زائغتين :
"كان يطارد الأمواج واختفى فجأة".
"اطمئني يا سيدتي، لم نبلغ لحد الساعة عن أي طفل غريق"
أحس أيمن بقلبه يهتز وبركبتيه تخوران، وعضت نادين على شفتيها ودخلت في نوبة من البكاء، ما تهربا من التفكير به طيلة بحثهما المحموم، قذف به الحارس دون قصد بغتة في وجهيهما.
ترددت نظرات أيمن بين أمواج البحر وعيني زوجته المبتلتين، وازدرد ريقه وقال:
" رضوان كان يسابق الأمواج. لم يكن يسبح"
هز الحارس رأسه موافقا، لم تصدقه نادين، صرخت في أعماق قلبها: يحاول طمأنتنا فقط. أمواج البحر غادرة لا ترحم.
انهالت على ذاكرتها قصص الأطفال الغرقى، صبيان في مثل سن ابنها بل و أصغر، اختطفتهم مخالب البحر في غفلة من آبائهم، ما كان ينبغي لها أن تغفل عنه رمشة عين ولن تسامح نفسها أبدا لو حدث له مكروه.
تصاعد نشيجها فأمسك أيمن بذراعها و همس لها برفق:
" لنواصل البحث وسنجده إن شاء الله"
مشت مستندة إلى صدره بخطى متثاقلة، عادا إلى مكانهما الأول.
صوت طفولي ممتزج بالبكاء ينتشلهما من غياهب الضياع:
"ماما. ماما"
رضوان واقف على المنشفة، يشير إليهما ويصرخ بفرح.
انفرجت أسارير أيمن وتنفس ملء صدره، وهرولت نادين تحتضن ابنها، بللت وجهه بدموعها وبريق شفتيها:
" حبيبي أين كنت؟"
لم تترك له فرصة للرد، قلبها مازال يرتجف بشدة، تهمس في أذنه:
" لقد كاد قلب ماما يتوقف من الخوف"
رفع عينيه البريئتين إليها وقال:
" لقد آلمني بطني، فذهبت إلى المرحاض، وعندما عدت لم أجدكما ".
همست في أعماقها بارتياح :الحمد لك يارب على رحمتك. ثم تساءلت تعاتب نفسها: لماذا نتوقع الأسوأ
دوما!