عرض مشاركة واحدة
قديم 09-28-2010, 02:53 PM
المشاركة 381
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
أبو حسن صالح أبو ملح


بقلم الشيخ ابو سلمان فؤاد سويد
لم يشهد تاريخ البقيعة شخصيةً دينيةً مرموقةً قريبة إلى الله وأنبيائه، كشخصية المرحوم سيدنا الشيخ أبو حسن صالح أبو ملح (ر), وربما قصرت الكلمات عن سبر أعماق أو توضيح تلك الشخصية التوحيدية، التي خدمت وضحت، والتي وهب الله بها أبناء هذه البلدة. وعن حصر الأعمال الخيِّرة المقدسة المباركة التي أنجزها وعمل بها المرحوم سيدنا الشيخ، وكل ذلك صورة صادقة ومشرقة لروحانيته النورانية الصافية وعلو مقامه ومنزلته وشفافيته وفهمه لمذهب التوحيد. وقد غرس وترك، رحمه الله، بسيرته العطرة، كرامات لا تمحى ومناقب لا تنسى وجذور عميقة وأسس وذكريات توحيدية، يتوارثها أبناء البلد جيلاً بعد جيل، وهي محفوظة ومطبوعة في أفكارهم وقلوبهم على مر السنين، يقتدون بها ومن خلالها يتقربون إلى الله ورسله الأكرمين.

ولادته:
ولد العارف بالله الزاهد في الدنيا وحطامها، الساهر في مرضاة خالقه، الشيخ أبو حسن صالح أبو ملح، رضي الله عنه في قرية البقيعة-الجليل الأعلى. والده المرحوم الشيخ صالح عامر الملقب أبو ملح, ومنذ ذلك الوقت يُعرفون بعائلة أبو ملح. نشأ، رحمه الله، منذ صغره على الدين، قليل الكلام في غير ذكر الله، لا يرى بهجة إلا بربه، ولا يلتفت إلا لمرضاة خالقه، إذا تكلم أفاد، وإذا سكت استفاد.
توفي والده، رحمه الله وهو صغير السن، تاركا إياه مع ثلاثة أخوة غيره: يوسف, علي واحمد وأخت واحدة, فقام الشيخ صالح بأودهم وخدمتهم حتى كبروا، براءةً لذمته، ثم تركهم وتوجه إلى المحل الأزهر الشريف، البياضة في لبنان، للتعمق في كتاب الله العزيز, فختمه سريعاً ثم طرح الدنيا واشتغل بعبادة الرحمن فتفرس فيه الأعيان، وقالوا الشيخ صالح الجرماني الأول في سوريا ولبنان والشيخ صالح أبو ملح الأول في شيوخ آل أبي تراب. فعاد إلى قريته مزوداً, عالماً, معلماً ومفيداً حاذقاً، فبادر إليه المشايخ والإخوان للاستفادة. وكان، رحمه الله ذو سابق مودة مع أعيان البلاد، منهم الشيخ الجليل المرحوم أبو محمد خليل طافش من قرية كفر سميع، والشيخ الجليل المرحوم أبو قاسم محمد الفرهود من قرية الرامة، والشيخ الجليل المرحوم أبو علي محمد فارس من قرية حرفيش، وغيرهم من الأعيان. فكان رحمه الله من عظم صفاء جوهره، ونقاء سريرته وانطباع حكمة الله في قلبه، وتنوير بصيرته، يكشف الأمور ويعلمها غيباً, فكل من كان يفقد غرضاً أو يُسرق له شيء، فيقصد سيدنا الشيخ صالح للمعرفة فيدله ويقضي حاجته, وكان عنده استطلاعات ومكاشفات مستقبلية يُخبّر فيها عن الأحداث قبل وقوعها .. وكل هذا لقربه من الله وصفيه. كان سيّداً كاملاً وأديبا عاقلاً وبالحق ناطقاً وللباطل داحضاً وللمسكين أبا شفوقاً محفوظاً بالصبر ذا رأيٍ كاملٍ، قائماً بحدود الله، متجنباً لمعاصي الله يحاسب نفسه على ما فات, مستبشراً بما هو آتٍ ومراقباً لله في الخلوات.

تأهُّله:
فلما أمده الله تعالى من نوره وأفاضه عليه من حكمته، صار مرجعاً للقاصد، وعنواناً للآيِب وبيته مركزاً للإخوان, فعلم أن لا بد له من زوجة تعينه وتقوم بأود ضيوفه. فتأهل رحمه الله في حياته ثلاث مرات زواج نظري وليس من اجل التناسل .
الزواج الأول: من أخت تدعى حِسِن مهنا ولم تكن على خاطره في تصرفاتها فطلقها.
الزواج الثاني: من أخت تدعى فاخرة زين الدين فكانت تطالبه بإنجاب أولاد مع الاتفاق الذي كان بينهم, فلما يئس منها طلقها ثم ذهب إلى أخيها محمد علي زين الدين وقال له: "لقد حصل فراق بيني وبين أختك فاخرة, فتفضل خذ نصف الأغراض ..", فلما شاهد أخيها هذا المسلك الدقيق قال:"إني سامحتك ولا أريد شيئاً ويوجد عندي أختي ندى وابنتي نفجَّة التي تريدها تكون حليلتك", فاختار الست ندى لتكون الزوجة الثالثة فكانت نِعم الزوجة ونِعم القرينة حيث خدمت سيدنا الشيخ حتى آخر عمره.

كراماتُهُ:
فمن مبتدى عمره بانت وأشرقت منه رحمه الله الفضائل العفية والكرامات الفيضية, ولو جئنا نحصي كل ما سمعناه سابقاً ولاحقاً من المشايخ الثقات لضاق بنا الوقت، فاقتصرنا على بعض ما سمعناه ووعيناه, فمن كراماته رحمه الله يُروى:"أن ابنة عمه حِسِن وجدت في فصل الشتاء (كانون الثاني) كوز صبر رجعي جنب احمر وجنب اخضر فنظفته واتت به إلى سيدنا الشيخ لتختبره وأخفته وراء ظهرها, وقالت له: إذا عرفت ما بيدي تأخذه..فقال رحمه الله: جئتِ تختبريني بكوز صبر جنب اخضر وجنب احمر".
وكان رحمه الله يتعبد في مغارة على سفح الجبل, وكان الشيخ علي زين الدين رحمه الله يحضر له الطعام, فقال له سيدنا الشيخ: يا علي انظر إلى هذه الصخور العظيمة سيأتي زمن تباع هذه الصخور بأموال هائلة ويأتي زمن تمشي آلات حديدية فوق البلد..فكان مثل ما تفضل الشيخ بأن قاموا ببناء محجر بجانب المغارة التي كان يتعبد بها , ثم بيعت الصخور بأموال باهظة ثم انشق شارع فوق البلد حيث انه لم يزل حتى يومنا هذا معبراً للسيارات.
من مناقبه الحميدة انه قال في احد الأيام لابنة عمه ندى: قومي اغسلي البلاطة عشان ناكل كبة حجل, مبعوث لنا ديك حجل من قرية يانوح.. فما أتمت التحضير إلا والرسول يطرق الباب وديك الحجل بيده فتحقق ما قاله سيدنا الشيخ.
ومن كراماته أيضاً: أراد ذات يوم إعداد فحم للوقود في ارض الجبل, فحضر الحطب وأشعله ثم نام قريباً منه حرصاً على المشحرة, استأنس به نمر ونام بجانب المكان فقام بعض البدو من قبيلة المواسي المجاورة للبلد بسرقة قمح من قمح سيدنا الشيخ فذهب النمر وافترس بقرة من قطيعهم, في اليوم الثاني سرقوا وفي اليوم الثالث كذلك.. فكلما سرقوا يقتل لهم النمر بقرة فعرفوا أن ذلك نتيجة سرقتهم لقمح الشيخ. فعادوا إلى الشيخ واسترضوه وطلبوا أن يبعد نمره عنهم معتقدين أن ذلك النمر ملكه, لكنهم بقوا على حقدهم وعقدوا نيتهم على خراب المشحرة فعلم النمر بذلك وتبعهم إلى أن ولوا هاربين, أما المرحوم فأمر النمر بان لا يقتل لهم بقراً لأنهم تأسفوا منه وطلبوا المعذرة.

رحيله إلى بلدة كسرى المجاورة :
لقد نشأ رحمه الله بمسلك دقيق فشيد أركان الدين ورفع منار التوحيد، فأمسى علماً هادياً ومذكراً آمراً ناهياً وبالحق صادعاً يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر, فلم تجْرِ الأمور على خاطره من حيث مسلكه الدقيق فانتقل ليكمل رسالته في بلدة كسرى ويسكن فيها, فالتف حوله الإخوان من كل مكان وصار فيها ملجأ القاصدين وكهف الواردين. وكان رحمه الله ينسخ المصحف الشريف ويبيعه وينجد الفراش لكسب لقمة الحلال, وكان خطيباً ماهراً في تعليم الأولاد وابنة عمه ندى تسهر على خدمته وخدمة ضيوفه فهذا كان مصدر معيشته.

خبر وفاته:
مما رواه بعض الثقات الشيخ أبو حسين فندي مهنا نقلاً عن المرحوم الشيخ أبو علي فارس عبد الله (من قرية كسرى) :" قبل وفاته بثلاثة أيام زاره الشيخ أبو علي فارس، فوجده يمشي في الخلوة وينشد شعر فراقي, فسأله عن غير عادة انك تنشد شعراً حزيناً فأجابه رحمه الله: بعد ثلاثة أيام سأفارق هذه الدنيا الفانية وتكون وفاتي. لأنه قال من كان قلبه وفكره مع الله دلّه الله على كل شيء, فكان سيدنا الشيخ يعلم من الله بالأمور قبل أن تحدث حتى ساعة وفاته.
فكان الأمر كما قال في اليوم الثالث كانت وفاته حيث نقله الله إلى جواره العزيز سنة 1324 ه, فنزل خبر وفاته كالصاعقة على الناس حيث توافدت الوفود من كل البلاد للمشاركة بذلك اليوم المشهود وحضور جنازة الشيخ الطاهر العفيف الديّان المتبتل, وعندما حان موعد دفنه طالب بدفنه أهل قرية كسرى في بلدهم وتحيزت معهم بعض القرى بحجة انه عاش آخر عمره في كسرى وتوفي فيها, فما كان من المرحوم الشيخ أبو نايف خير الصالح خير من قرية البقيعة حيث تقدم وقال: المرحوم الشيخ أوصاني وأمنني أن ادفنه على ابني نايف في مسقط رأسه البقيعة.
فلما سمع المشايخ أعيان البلاد حديث الشيخ خير رحمه الله بالنسبة للوصية، استجابوا لكلامه وما قاله, وقد تم الاتفاق بان ينقل الجثمان الطاهر المبارك إلى قرية البقيعة مسقط رأسه، ويدفن بجانب أقاربه وقد روى بعض الثقات انه عندما رفعت الجنازة لينقلوها فقد غصت الأرض بالازدحام من حضور المشيّعين الأفاضل وكان ذاك الوقت الطقس حاراً جداً وسيتم نقل الجنازة سيراً على الأقدام. فقد حصلت كرامة تليق بذلك الجسد الطاهر الشريف الذي طالما صام وصلّى وسجد وركع وتضرع وبكى إلى الله وأنبيائه حيث أظلت وغطّت ذلك الموكب الرهيب سحابة لتمنع عنهم الشمس الحارة فرافقتهم وهي فوق رؤوسهم من بلدة كسرى إلى بلدة البقيعة موقع دفن الجثمان الطاهر.
وقد تم دفنه على تلميذه المرحوم الشيخ نايف خير احتراماً وتقديرًا للوصية وقبولاً لخاطر أعيان البلاد, وقد أقاموا له حجرةً تليق بمقامه الرفيع. وكثيراً ما وفد إليه أصحاب هموم ومشاكل والذين خصّهم الله بأمراض, فينتفعون جميعاً من زيارته والتبرّك بلثم ضريحه فنسأل الله بخير رسول وأفضل مبعوث أن ينفعنا ببركاته ويمدنا بصالح دعواته..آمين.