الموضوع
:
الصورة الفنية والانزياح في قصيدة "سورة الماء" للشاعرة آمال القاسم، بقلم د. عبد المجيد
عرض مشاركة واحدة
11-29-2019, 08:08 AM
المشاركة
3
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 4
تاريخ الإنضمام :
Feb 2011
رقم العضوية :
9742
المشاركات:
3,710
رد: الصورة الفنية والانزياح في قصيدة "سورة الماء" للشاعرة آمال القاسم، بقلم د. عبد ال
تابع لموضوع الصورة الفنية والانزياح في قصيدة "سورة الماء" للشاعرة آمال القاسم، بقلم د. عبد المجيد عامر جابر اطميزة
وتستمر الشاعرة في نصِّها:
النوارسُ المتوجِّعةُ تئن ُّ
في مواويلِ لُماي
تشتكي منها السَّقام ..
يخبرُني وميضُكَ :
أنَّ الموجَ في بحرِكَ اللُّجِّيِّ
لا صديقَ له ..
وأنَّ الزوارقَ في بحورِك الشعريّةِ
-مذ بانَتْ عيناك - هارباتٌ ..
حملْنَ قصائدَكَ ومضيْنَ
إلى القلقِ الأزلي..
وتتابع الصور الشعرية فلِلمى الشاعرة مواويل تشتكي من سقام الغياب، وللغياب سقام، ووميض المحب كأنه صديق يخبر ويتكلم، وليس للموج العميق صديق وللشعر بحور مائية فيها زوارق تجوب عبابه، وعينا المحبوبة لها أرجل تحمل قصائد الشاعرة، والقلق الأزلي له مكان يستقر فيه... صور شعرية متتابعة، والصورة الشعرية كما يرى بريتون "الأداة الرئيسية لخلق عالم جديد نحلم به ونحله محل العالم القديم ليست شيئاً سوى ما يدعوه الشاعر بالصورة "(8)
وللصور الشعرية مزايا تُسخِّرها الشاعرة في نصِها و"إن الشعر كله يستعمل الصور ليعبر عن حالات غامضة لا يستطاع بلوغها مباشرة أو من أجل أن تنقل الدلالة الحقَّة لما يجده الشاعر" (9)
فالصورة تستطيع " بما تحمله من معانٍ مستمدة من الواقع أن تكون إحساساً نابعاً من الذات " (10).
فالشعراء المميزون –كشاعرتنا- هم الذين ينسجون الصُّور الجديدة من المعاني المُجدَّدة؛ إمَّا بإعادة صياغة التَّراكيب – مهما كانت درجتها من حيث الاعتيادية أو الرداءة - عبر تكوين علاقات غير مألوفة سلفاً، حيث إنَّ "مهمة الشاعر أن يحسن صياغتها ويخرجها في صورة جميلة. " (11)
وفي هذا المقطع تتلظى شاعرتنا سياط القلق لغياب المحبوب، ويبدو أن الغياب سيطول بل هو أزلي فقدت الشاعرة فيه أمل اللقاء الذي نعما به سابقا.
وتقول:
وأنا عند سقفِ الكون
أوقفتُ كلَّ تسفارٍ
لأرتحِلَ نحوَ عينيك
أبحثُ عن مرافئي في رحابِك
أستفتي رؤيا مرآتي
ففي السطر الأول عندما يسمع المتلقي كلمة "سقف" ينتظر أن تضاف إلى كلمة "البيت" مثلا، لكنه يفاجأ فيسمع كلمة "الكون"، وعندما يسمع عبارة "لأرتحل نحو" ينتظر أن يسمع كلمة "سكناك" أو "إقامتك" لكنه يتفاجأ بحصول غير المنتظر وهو كلمة "عينيك""، وعندما يسمع عبارة "أستفتي رؤيا" ينتظر أن يسمع إضافة رؤيا إلى ضمير المتكلم "الياء" "رؤياي" لكنه تفاجأ بحصول غير المنتظر وهو إضافتها لكلمة "مرآتي"...إنها انزياحات متتالية متتابعة "وفي عصرنا الحديث نظر إلى الانزياح نظرة متقدمة، تخدم التصور النقدي القائم على أساس اعتبار اللغة الشعرية لغة خرق وانتهاك للسائد والمألوف، وبقدر ما تنزاح اللغة عن الشائع والمعروف تحقق قدراً من الشعرية في رأي كوهين، كما أن رصد ظواهر الانحراف في النص يمكن أن تعين على قراءته قراءة استبطانية جوانية تبتعد عن القراءة السطحية والهامشية، وبهذا تكون ظاهرة الانحراف ذات أبعاد دلالية وإيحائية تثير الدهشة والمفاجأة، ولذلك يصبح حضوره في النص قادراً على جعل لغته لغة متوهجة ومثيرة تستطيع أن تمارس سلطةً على القارئ من خلال عنصر المفاجأة والغرابة"(12)
فالشاعرة تبحث عن محبوبها، لكن دون جدوى فتتابع شدوها:
فأسمعُ ضجيجَ أقدامِكَ في دمي ..
خطواتُكَ تنهشُ لحمي ..
عيونُكَ تُفسِّخُ الرؤى المجهضَةَ
وهنا تفشل الشاعرة بالوصول إلى من أحبَّت، وتعبَّر الشاعرة عن ذلك بصور فنية متتابعة، فللأقدام ضجيج كما الأصوات، وهي تسري في دم المحبوبة، فخطوات الحبيب كأنها وحش تنهش لحم الحبيبة، والرؤى تُجْهض كما تُجهض الحامل. ففي قولها: "الرؤى المجهضة" انزياح دلالي، وإذا كان الانزياح أو الانحراف عن المعيار من أهم الظواهر التي تميز اللغة الشعرية عن السردية مع منحها شرف الشعر وخصوصيته، فإن هذا النوع من الانزياح يتسم ببعض السمات المصاحبة له كالابتكار والجدة والنضارة والإثارة. ومن الأمثلة على الانزياح الدلالي ما يسمى بانزياح النعوت عن منعوتاتها المتعارف عليها كما في المثال السابق.
وفي غمرة غياب الحبيب تعود الشاعرة لذكرى أيامهما الجميلة هاربة من الحاضر الأليم لعلها تجد شيئا من السلوى في غابر حبهما، فتقول بأسلوب خبري لإثبات الذات بعيدا عن الابتذال، مصورة سعادتها حينها:
في حلمي ....
كانت أنواؤُكَ تعوي في فَنائي البعيد .
وكانت نسَماتُكَ تحرِّضُ العواصفَ
فتُلقِمُني أثداءَها
في خابيتين من نبيذ ..
فكم زحفتُ لبراريكَ وصحاريك ..!
أطوفُ بكَ في شوارعِ مدينتي ..
وهواجسي تبوحُ
قسماتِ وجهِكَ للحقول ..
أمدُّ لكَ بساطيَ السحريَّ ...
أصبُّ في مروجِكَ قواريرَ أنوثتي ..
أسكبُها لغةً طريةً نديةً ..
في إناءِ وجدٍ يتقطّرُ بالأرجوان..!
وكم أنهكَني وجهُكَ المتكاثرُ في عيوني ..!
وجهُكَ المتزاحمُ بالورودِ والرّعودِ
والأعذاقِ والأشواق ..
أقتفي أثرَ نكهتِكَ ،
التي تورِقُ في صدري ..
عطورًا وخمورًا وزقزقاتِ طيرٍ
في حِضنِ المغيب ..!!
ففي النص السابق نرى أن الشاعرة تتنقل بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي فتلجأ لألفاظ مستوحاة من مظاهر الطبيعة على طريقة الرومانسيين، ومن هذه الألفاظ:
أنواؤُكَ، تعوي ، العواصفَ، براريكَ، وصحاريك ،للحقول، مروجِكَ، قوارير،َ نديةً ..، بالورودِ، والرّعود، والأعذاق، تورِقُ،عطور، وخمور، وزقزقات طيرٍ..
وتتزاحم ألفاظ المضارعة لإشاعة الحيوية في النص وتصوير الواقع الأليم عن طريق المفارقة بين واقعين: الماضي الجميل والحاضر الأليم:
تعوي ، تحرِّضُ ، فتُلقِمُني ، أطوفُ ، تبوحُ، أمدُّ، أسكبُها، يتقطّرُ، أقتفي،
تورِقُ ...
وتتابع الانزياحات وتتوالى الصور الفنية في النص"
فللحبيب أنواء كالحالة الجوية، وهي تعوي كما الذئاب، ونسماته تُحرِّضُ والعواصفُ تُحَرَّض، وللعواصف أثداء تُلْقَم، وللحبيب براري وصحاري تزحف إليها المحبوبة، وللمحبوبة مدينة تكثر فيها الشوارع تطوف بها،
والهواجس تبوحُ للحقول كما الإنسان يبوح لغيره، وللعاشق مروج، ولأنوثة الشاعرة قوارير تُسكب، وما تسكبه ليس سائلا بل لغة، وللوجد والعشق إناء يتقطّر بالأرجوان...
وتستمر الشاعرة في شدوها منتقلة للأسلوب الإنشائي، فتقول:
أيا لهفةً في قاعِ الرّوحِ
تضرمُ مأتمي
فالنداء يفيد إظهار اللوعة والأسى، وتقول موظفة الاستفهام:
من يدثِّرُ رعشةً ..
تراتيلُها ابتردَتْ في فمي ..؟!
من يحملُ معي وِزْرَ عشقٍ ..
في ملكوتِ الخفقِ يدمي مِعصمي ..!؟
من يلوِّنُ الصباحَ ..
ليورقَ في أصابعي
كلما نخرَ صدُّك في أعظمي ..؟!
من يزقزقُ في أعطافِ العمرِ
كلما اشتدَّ عودُ حبِّكَ ..
وحطَّتْ ثمارُكَ على ولهي ..
وشاحت قطوفُكَ عن وحشتي وتكتُّمي ..؟!
وقد كررت الشاعرة الاستفهام ب"من" أربع مرات ويفيد في كل إظهار اللوعة والتحسر، كما يفيد التشويق، تتشوق الشاعرة إلى الحبيب ولقائه و"يعد التكرار في نظر النقاد والدارسين تقنية أسـلوبية تحـدث علـى مـستوى الـنص، فتشيع فيه حركة ملحوظة تمتاز بالعذوبة والاسـتحباب، وهـذا مـا يجعلـه يمتـاز بالفنيـة والجمالية المطلقة إذ يتجاوز بنيته اللفظية إلى إنتاج فوائـد ومرامـي جديـدة داخـل أتـون العمل الفنـي، في حـدث فيـه جلبـة وموسـيقى بواسـطة اسـتحداث عناصـر متماثلـة ومواضـع مختلفة من العمل الفني، كما يعد التكرار مرتكز الإيقـاع بجميـع صـوره ويعمـل بـصوره على توطيده وتمكينه من معمارها، فنجده ماثلا في الموسيقى يدعم تواترهـا وحركتهـا الانسابية، كما تعتمد عليه نظرية القافية بشكل أساسي في الشعر وسر نجـاح الكثيـر من المحسنات البديعية، ويظهر ذلك جليا في العكس والتفريق والجمـع مـع التفريـق ورد العجز على الصدر في علم البديع العربي" (13)
ألا يا صاحبَ الرّوح ،
هل صبَبْتَ كأسًا
من دنِّكَ العتيقِ ..
فوق ملامحي الجدباءَ ..
وصلبْتَ قصائدَكَ المتعمِّدةَ بالشّموس ..
لتبعثَ في تضاريسي جنينًا ..
لا يؤلمُهُ سؤال ..؟
جنينًا .. لا يحترقُ بزمن مشلولٍ
ماضٍ إلى المحال ..
حتى يغدوَ كوّةً للبكاء .. !!!
سكرة القمر
وتكرر الشاعرة عبارة "يا صاحبَ الرّوح" في بداية المقطع الأول في القصيدة وفي بداية المقطع الأخير هنا، و"للتكرار مزايا فنية ولمسات جمالية عديدة سواء من حيث تأثيره في المعنى أم من حيث تأثيره في الموسيقى الشعرية، فضلا عن الدلالة النفسية التي يستطيع أن يضيفها على القصيدة وإلى أثره في تقوية النغم ، فالشاعر المعاصر يبتعد ما أمكن عن الوزن والقافية التقليديتين، متجها نحو التكرار وسيلة لأغناها والتجديد فيها، فالإيقاع الصوتي الذي يخلقه تكرار جرس الحروف والكلمات، تظهر القيمة الفكرية والنفسية التي يعبر عنها من خلال العناية بتكرار لفظة معينة أو مقطع معين " (14)
وتهتم شاعرتنا بصياغتها اللغوية، والمبدعون يكمن موطن إبداعهم في اللغة التي يتحدثون بها، فهي لغة تختلف عن اللغة العادية من حيث الكثافة والإيحاء والقدرة على الترميز والإثارة، فهي تمتلك شحنة من الإحساسات والعواطف ما يجعلها تقرع الصمت وتبث الحياة، و (اللغة هي التي تفتح لنا العالم، لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل... وكل ما هو كائن لا يمكن أن يكون إلا في "معبد اللغة"... اللغة تقول الوجود، كما يقول القاضي القانون. واللغة الصحيحة هي خصوصاً تلك التي ينطق بها الشاعر، بكلامه الحافل. أما الكلام الزائف، فهو كلام المحادثات اليومية. إن هذا الكلام سقوط، وانهيار."( 15).
وقد اعتنت الشاعرة بكل من الشكل والمضمون، و"إن القصيدة الحديثة لا تؤثر بمضمونها فحسب لأنها ليست بياناً سياسياً أو اجتماعياً بل تؤثر بشكلها ومضمونها معاً من حيث هي بنية لها وظيفة جمالية تشمل الفائدة والمتعة معاً. من هنا أكد رواد الشعر العربي الحر أن للشعر وظيفته المتميزة عن الوظائف التي يقدمها العلم والفلسفة والدين. إنها وظيفة جمالية تمتاز بالشمولية والبقاء، ولها تأثيرها الكبير في الذات الإنسانية. فهي وظيفة كلية تشمل السياسي والاجتماعي والفكري والنفسي. على أن السياسي أو الاجتماعي أو الفكري أو النفسي في الشعر يختلف عن الواقع. فالشعر وإن استفاد من هذه الحقائق فإنه يحولها إلى قيمة فنية. ثمَّ إن الشعر لا يقف عند ما يتوصل إليه العلم أو الفلسفة وإنما يبحث عن حقيقته الخاصة وبطريقته الخاصة أيضاً ولا يقدم معرفة جاهزة وهذه الحقيقة لا تنفصل عن النص الشعري من حيث هو شكل جمالي. إنها حقيقة ممتعة، حقيقة جمالية، ف"هي جماع كل أصناف الحقيقة لأنها مكتشفة بالشعر ومودعة فيه، لأنَّ الشعر تعبير عن جوهر الكون والطبيعة والتاريخ والإنسان والحقيقة التي تكمن في الشعر هي نموذج للحقائق الأخرى لأنها حقيقة تعبر عن تمام الإنسانية وكمالها، وعن كامل اندماجها في شرطها الإنساني." (16)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
http://odaba2.blogspot.com
رد مع الإقتباس