الموضوع
:
حكايات من ضيعتنا
عرض مشاركة واحدة
08-07-2010, 08:17 PM
المشاركة
16
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
تاريخ الإنضمام :
Apr 2007
رقم العضوية :
3325
المشاركات:
853
رد: حكايات من ضيعتنا
4-
شتاء ضيعتنا
تبدأ الحكاية هذه المرة من منعرج آخر مخالف للمسلك
الأول
.
تبدأ بنهاية
الصيف
.
بشهر
آب
.
وقد تفننت الكاتبة في وصفه
,
فهو شهر "اللهاب", وكأن لهب الشمس تقوقع في أيامه ليودع صيف الضيعة. وهو " طباخ
العنب والتين", وكأن الكاتبة تنبّهنا إلى أن ضيعتها لا تقتصر على إنتاج المشمش فقط
,
بل هي جنة للفواكه والغلال, تأخذ إربها من كل فصل وتعطي حارثها إنتاجها مع كل
انقلاب صيفي أو شتوي
.
ثم تمرّ
ريم بدرالدين لتهيأنا لفصل جديد ندخله معها للضيعة, فتأخذ بأيدينا لتبعدنا عن أيام
شهر آب لنشمّ معها "روائح الشتاء "المتناثرة في هذا الشهر
.
ويبدأ فصل جديد من الحكاية
.
إنه شتاء الضيعة
.
إنه المارد الذي يهجم بجنده, فيتقوقع الجميع
.
حتى الغلال ترهب هذا الزائر فـ" يستحيل العنب خلاّ...أو
زبيبا" ويفزع التين ويتخلص من كنهه ليمسي " مربّى
".
وأجد هنا أن الكاتبة على قدر كبير من الدراية بجزئيات
الضيعة حتى أنها ستضعنا أمام معادلة رائعة نستشفّ من خلالها قدرتها على التلاعب
بالكلمة وتطويع الحرف الذي يأخذنا معه كيفما شاء
.
هذه المعادلة تبرز في إنشاء صورتين مختلفتين تماما من
حيث الكنه,ومتلازمتين من حيث حبّ الوجود والتمسك بتلابيب
الحياة
.
أتريد أن تعرف معي
ماهية هاتين الصورتين؟
تعالى
وانظر كيف راوحت ريم بدرالدين بين الموجود الذي ينتظر الوجود, وبين الموجود الذي
يسعى لتأثيث وجوده وتجديده في كل لحظة
.
فتبدأ الصورة الأولى في نقل احتضار الطبيعة في فصل
الشتاء
.
فالفاكهة التي كانت
نظرة, تتباهى بألوانها على الأغصان وتستعجل قاطفها قد انكمشت وساحت مع آخر أيام شهر
آب لترمي بجميع مفاتنها وتتخلى عن كل جميل فيها وترفع الراية البيضاء وتعلن هزيمتها
للشتاء القادم, قد انكمشت داخل القوارير واستجارت بـ " أرفف بيت المؤونة" خوفا من
هذا القادم, ومستمدة الأمان من الداخل
فاصطفت " بزهوّ
وخيلاء
".
والأشجار قد خلعت
"
ملابسها" ووقفت عارية تناجي الله أن يقوّي من ضعفها وتسترحمه أن يهبها " الماء
الزلال" لتغسل بقاياها وتنام تحت وطأة تهديد الشتاء بعد أن تختزن جذورها ما يكفيها
للحياة حتى ربيع آخر
.
أما
الصورة الثانية, وهي الأهم, فهي النقلة النوعية التي أوجدتها الكاتبة لتحمينا نحن
كذلك من مارد الشتاء وتحملنا إلى الداخل, إلى ماوراء الجدران, لنكتشف عالما جديدا
لم نره, بل لم نكتشفه في صيف الضيعة
.
من هنا, من داخل البيوت تنشر الكاتبة صورا جديدة لحياة
جديدة
.
وقبل الاستقبال " تبدأ
النساء بإعداد البيوت" استعدادا لاستقبال الزائر الثقيل
.
نعم. زائر ثقيل
.
فالزائر المرحّب به يدقّ الباب, وهذا القادم " يقرع الأبوابّ, وكأنه
يقتحم المكان عنوة, شاء من شاء وأبى من أبى
.
فكيف يجابهه أهل الضيعة؟
إن حاولوا طرده فهذا هو المستحيل, وإن هربوا فتلك قمة
الاستسلام
.
ولم يدم التساؤل
كثيرا فقد أخذت عنا الكاتبة المبادرة - وهي العليمة بأهل الضيعة - وأراحتنا من
السؤال
.
لقد جابهوا الشتاء
بثروة الغابة بـ "الحطب", وبالمدفأة التي صارت عزيزة في هذا الوقت بعد أن أهملت
"
لشهور في عتمة السقيفة
".
ما
أقساك يا إنسان
.
ولتزيد الكاتبة
من شدنا إلى ضيعتها والسؤال عن أهلها تذكرنا أن " فصل الشتاء قارس جدا", حتى أن
الجبل المشرف على القرية لقّبوه " بجبل الشيخ" لأن الثلج يغطي قممه فيجعله كشيخ
أسطوري تمتد لحيته البيضاء لتزيده وقارا, وتجعل منه حكيم القرية وحاميها, وباعث
الاطمئنان في نفوس السكان
.
وأمام هذا الزخم المتراكم من سواد الشتاء وصلصلة سيوفه وشراسة جنوده
وحمحمة خيوله تغلق الأبواب وترتفع الأسوار ويهدأ أهل الضيعة من وراء
الأبواب
.
ولِمَ لا؟ "ومدفأة
الحطب يبدأ أوارها مع أول مطرة ويظهر فوقها إبريق شاي واحد لإعداد الشاي والآخر
للتزود بالماء الساخن طيلة النهار
".
الله..الله
..
ما
أحلى هذه الحياة وسط الدفء وبين الأهل,وبعيدا عن التعب
.
ولكن
...
إلى متى؟
يوم..يومان
...
إنه الشتاء يا صديقي
.
وقد تنبّهت الكاتبة لهذه النقطة فقالت
:
"
الملل يفرد قلوعه
".
لماذا؟
لأن من ولد بين الزرع والحرث والحصاد, وبين البذر والتقليم والتهيئة
والقطاف, لايقدر مع هذا الوقت الفارغ المتراكم على الصدور
.
إنه إنسان..ليس شجرا
.
الشجر قد نام ينتظر الربيع
.
وإنسان الضيعة إلى متى ينام؟
غنه عرق نابض بالنشاط, بالحياة. ومتى خبا هذا النبض
يموت إنسان الضيعة
.
وحتى لو
"
ذخر بيت المؤونة بأنواع مختلفة من المربيات...وكل أنواع الزيتون, والأجبان
والقمح
....".
وحتى لو ادخرت
النساء " الحكايا لترويها في الأمسيات لتزيح بعضا من
الرتابة
".
إنه الإنسان يا
صديقي
.
وإنسان
من؟
إنسان الضيعة الذي إن توقّف
مات
.
وقد أبدعت ريم بدرالدين في
آخر القصة عندما فطنت بفطرة الكاتب المحترف إلى أنها لابد أن تعطي متنفسا لهذا
الإنسان كي يجدد حياته من جديد, أن يتحرك مرة أخرى ليسري دم الحياة في
عروقه
.
فأوجدت له مخرجا من
منفاه لما " تتوقف الأمطار أو الثلوج ليوم أو يومين" فـ " يسارع الرجال إلى
الحقول...لاخذ طاقة من حرية" و " تأخذ النساء فرصة" لـ " يتزودن بالحكايا والقصص
لأيام احتباس مقبلة
".
ألم أقل
لك أنه الإنسان؟
ألم أخبرك أن
الكاتبة أنشأت صورتين مختلفتين تماما؟
ألم تر معي كيف استكانت الأشجار وسلّمت بقدرها ونامت, ورفض الإنسان
جبروت الطاغية - الشتاء - ولم يستسلم,وبقي يتحيّن الفرصة ليجدد حياته في كل
لحظة
.
ألم أخبرك أن ريم
بدرالدين تمتلك الأدوات اللازمة لتجعل منا متقبّلين من الدرجة
الأولى
.
وإلى حين " بزوغ الشمس
في الأفق الشرقي من القرية" في " صباحات ضيعتنا" ننسحب بكل هدوء لينعم أهل الضيعة
بمدفأة الحطب وينتظرون صباحا يجددون من خلاله
حياتهم
.
رد مع الإقتباس