الموضوع: التهويدة
عرض مشاركة واحدة
قديم 10-31-2017, 11:55 AM
المشاركة 33
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
اقتباس من الجزء الثالث "
حينما وصلتُ للمكان, وكان ورائي جمع يتبعني، وأمامي يقف المنفيين الى ذاكرتي. اولئك الغرباء المجهولين الذين رأيتهم في الطرقات والامكنة البعيدة.. ذوي الملامح الممسوحة، محبوسين هناك للأبد.. فقط هم ولا أحد غيرهم.

بعد ذلك لم أتذكر سوى ذلك القرصان الأحول، وبيده بندقية في يوم صباح غائم، وهو يحاول إطلاق النار على طفل يقف بجانبي. وحينها استيقظت على صوت غناء أمي الهامس، وهي تمسح بيدها برفق على شعري المقسوم نصفين من جانبه، ونافذة مرصعة بالنجوم تهب منها نسمة حركت الستائر وأطفأت المصباح."


ونستمر في قراءة هذا الجزء الثالث ..حينما وصلت الى المكان؟! طبعا الحديث هنا لبطل النص وهو يقول انه عندما وصل الى المكان، ولا بد ان المكان المقصود في حديثه هنا هو مكان وردة النار، عندما وصل الى هناك وجد وراءه جمع من الناس يتبعه، بينما كان يقف امامه حشد من المنفيين في ذاكرته، وهذا ما يؤشر الى اننا بصدد حلم رأه بطل النص، خاصة ان هذا الحشد ممسوحين الملامح، ومثل هؤلاء لا نجدهم في عالم الواقع وانما في عالم الخيال وعالم الاحلام. والقاص هنا يؤكد على انهم ليسوا اشخاص حققين ولكنهم ملامح لاناس مجهولين الهوية كان بطل النص قد شاهدهم في الطرقات والامكنة البعيدة وقد كانوا محبوسين في ذاكرته ربما الى الابد لكنهم في تلك اللحظة تجسدوا امام ناظريه كجزء من حلم قطاف وردة النار. ومن بين هذه الحشود التي وجدها البطل امامه وخلفه في الحلم طبعا لم يتذكر سوى شخص واحد، وكان ذلك الشخص قرصانا احولا، وكان يحمل بندقية في صباح يوم غائم ويصوب بندقيته تجاه طفل كان يقف الى جانب بطل النص.

ولا بد ان مثل هذا المشهد مفزع للغاية ان شاهده الانسان في حلمه، ولهذا السبب استيقظ بطل النص لكن كيف كان استيقاظه؟

استيقظ على صوت غناء امه الهامس، وهي تمسح بيدها برفق على شعره المقسوم نصفين من جانبه، ونافذة مرصعة بالنجوم تهب منها نسمة حركت الستائر وأطفأت المصباح.... ولا بد ان بطل النص يشير في هذه الفقرة الى النافذة التي فتحها العملاق عند سكة القطار، ودليل ذلك انها مرصعة بالنجوم وتهب منها نسمة حركت الستائر واطفئت المصباح، وهذا مؤشر ان استيقاظه هنا هو ايضا جزء من الحلم ولم يكن واقعيا.
اما مغزى هذا المشهد فهو غاية في الاهمية...ذلك لانه تعبير واضح عن مدى الشعور بالفقد لدى بطل النص حتى انه حينما يفزع من مشاهد حلم شاهده لا يجد من يسري عليه الا امه وتهويدتها الهامسة!!

ولا شك ان تركيبة النص تشي ببراعة القاص، ففي عتبة النص يخبرنا البطل ان امه رحلت، ولا بد ان رحيلها كان بسبب الموت، بدليل ان تهويدتها انقطعت ثم ما تلى ذلك من احداث، وتلك الاحداث لم تكن واقعية، بل سيناريوهات لاحلام ثلاثة شاهدها البطل، كونه كان يعاني من الفقد ومن شدة شوقه وهو اليتيم لوالدته تفتق دماغه عن هذه الاحلام:

الاول وقد جاءه عملاق النسمات ورافقه الى بوابة السسماء حيث كانت تسكن امه بعد رحيلها وهناك سمع تهويدتها بعد انقطاع ولا بد ان مغزى ذلك شوق البطل لامه عبر عنه بالحلم.

والثاني ولو انه بدى على شكل فقد لحبيبة او زوجة لكنه ايضا تعبير عن الفقد وما فعل ذلك الفقد بالبطل الذي ذوى من شدة الشوق.

والثالث ويمثل حالة اضطراب قاسية ناتجة عن شدة الشوق ومشاعر الفقد وجاءت على شكل كابوس ابطاله، شخصيات ليس لها ملامح سوى واحد منهم فقط جعله القاص اعورا ويحمل بندقية ويصوب نحو طفل يقف الى جانب بطل النص ...ليكون خلاص البطل من هذاالموقف الرهيب بغناء امه وصوتها الهامس، ويدها تمسح على شعره المقسوم من جانبه ونافذة السماء مفتوحة تهب منها نسمة فينطفيء المصباح...

والصحيح ان في استيقاظ بطل النص من حلمه، حل للعقدة التي بناها القاص اثناء السرد باحتراف ، حيث جعل النص غامضا وقابل لعدة تاويلات لكنه وضع في هذا الجزء ما يكفي من مؤشرات واضحة بان مشاهده ما هي الا جزء من حلم شاهده البطل ويستيقظ في نهايته فزعا من مشهد مرعب ليجد والدته الي جانبه.

وهذا الحلم يؤكد دون مواربة بأن ما كان يعصف ببطل النص هو شوق وفقد لوالدته التي ماتت وهو صغير فانقطعت تهويدتها.

وبحل العقدة يتضح ان هذا النص البديع والمكتوب باحتراف انما هو قائم من فهم ومعرفة بعلم النفس من قبل القاص فقد جعل بطل النص يتيما يعاني من الشعور بالفقد والشوق لوالدته، وعبر عن ذلك الشعور الذي كان يعصف بالبطل بالاحلام التي يقول علم النفس انها تعبير عما يجول في خاطرنا وذهننا من مشاعر مكبوته، ليجعل البطل يلبي رغباته الدفينة في مشاهدته امه وسماع صوتها الهامس واغنيتها في نهاية النص، فتنحل العقدة ونحصل نحن كمتلقين على نص بديع في موضوعه وفكرته وتركيبه ووحدته ولغتة وما ساقه القاص من محسنات بدعية واسلوب سردي معقد لكنه جميل وبديع جعل النص ذي قيمة عالية ربما ندر مثلها في ادبنا العربي.

وفي هذا الجزء استخدم القاص محسنات بديعية سنشير اليها عن عودتنا ان شاء الله.

يتبع...