عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
0

المشاهدات
2255
 
الأمين عمر
من آل منابر ثقافية

الأمين عمر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
88

+التقييم
0.02

تاريخ التسجيل
Aug 2014

الاقامة

رقم العضوية
13153
08-13-2017, 12:03 AM
المشاركة 1
08-13-2017, 12:03 AM
المشاركة 1
افتراضي من تثقيف العسكر..الى عسكرة المثقف
مع بزوغ ثورة يوليو سادت نظرية تفضيل " أهل الثقة " على أهل العلم والكفاءة . وعلى هذا الأساس انتشر في كل ركن وموقع ثقافي وفي كل مؤسسة السادة الضباط ، بدءا من لجان النشر الصغيرة إلي وزارة الثقافة التي ترأسها لفترة طويلة ثروت عكاشة ، وفي الصحف كان أنور السادات رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية ، وخالد محيي الدين رئيسا لتحرير المساء ، وتحكم الضباط في إدارة الإذاعة والتلفزيون والاتحادات الأدبية ، وكان يوسف السباعي نموذجا لامعا في هذا المجال . وكان أولئك الضباط – القابعون في كل مستوى – يسعون لأن يصبحوا مثقفين ، وأن يقرءوا ، ويتابعوا ، ويتعلموا ، ويتصلوا بكبار الكتاب ، إلا أن طبيعة " الضابط " الكامنة فيهم كانت تظهر في أول خلاف ، كما فعل أحدهم حين حاصر دار الهلال بالدبابات .

وذات يوم أراد أحد الضباط المشرفين على الإذاعة أن يمنع كل أغاني أم كلثوم لأنها من العهد البائد إلي أن قال له عبد الناصر متهكما : الأهرامات الثلاثة هي الأخرى من العهد البائد فما رأيك في هدمها ؟. ومع ذلك كان ضباط الثكنات العسكرية يحاولون وإن بصعوبة أن يصبحوا مثقفين . لكن الزمن بين فشل نظرية " أهل الثقة " من العسكر وعرى طريقها المسدود . وبحلول عصر السادات نقلت الدولة ثقلها إلي " أهل الكفاءة " أي المثقفين ذاتهم ، وبدلا من " تثقيف العسكر " أخذت تعمل على " عسكرة المثقف " الأدرى بلغة المثقفين والأقدر على مخاطبتهم واحتوائهم وإغرائهم بذات الكلمات عن الشعر والثورة والالتزام والحرية وما شابه . وللمرة الأولى منحت الدولة الموسيقار محمد عبد الوهاب لقب لواء ، الأمر الذي أثار سخرية مريرة من السعي لعسكرة النغم ، وتقليص المبدع إلي حدود الرتبة العسكرية .

وشيئا فشيئا اتضح أن اللواء عبد الوهاب كان تجربة صغيرة ، لعسكرة الثقافة وخلق نمط جديد من المثقفين الذين يسعون لأن يكونوا عسكرا . وعمت التجربة البلدان العربية الأخرى ، فساد ذلك النمط الجديد من المثقف الضابط ، وأشهر نماذجه هو على عقلة عرسان ، الذي قضى على اتحاد الكتاب العرب ، وعلى أي دور له ، عبر ثلاثين عاما متصلة ظل فيها رئيسا للاتحاد بمعجزة غير قابلة للفهم إلا على ضوء إلحاق المثقف بالسلطة .

وشيئا فشيئا لم يعد المسئولون عن مختلف شئون الثقافة في الدولة ضباطا يتثقفون ، ولكن مثقفين ينضبطون ، ودورهم الأول والأخير احتواء الآخرين والتلويح بعقود النشر ، والتأليف ، وعضوية اللجان ، والسفر ، والمؤتمرات ، والمهرجانات الصاخبة ، فإذا لم ينفع كل ذلك ، أسدلت ستائر التجاهل الكثيفة . وهكذا شاع نمط المثقف المنضبط ، الذي إن أحسنت فهمه وجدته ناقدا ، وشاعرا ، وإن لم تفهمه كشر لك مبديا صورة أخرى . أنظر حولي في كل المواقع الثقافية الرسمية فأجد في كل مكان تقريبا هذا النمط الجديد من المثقف ، إنه صناعة محلية جديدة تجمع بين حسنات أهل الكفاءة وأهل الثقة . الضباط الذين سعوا إلي الثقافة كانوا واثقين من أن السلطة بيدهم فكانوا يحاولون تقديم وجههم الثقافي ، أما المثقفون الذين تعسكروا ، فإنهم يحاولون تقديم وجههم السلطوي بنبرات صوتهم .

وتكفي نظرة سريعة – متفحصة – على المواقع التي تتحكم في الشئون الثقافية في مصر ، لتجد هذا النوع الجديد ، المزيج من الرتبة والمعرفة ، والذي يخفي وراء ظهره سيف المعز وذهبه ، وعصا الدولة وجزرتها . والمثقفون الذين تعسكروا قادمون من كل الجهات : من الأكاديميات ، ومن رحم تاريخ سابق ، ومن جوف معرفة لم يكن لها ثمن فصارت مدفوعة الأجر ، بألقاب علمية أو من غيرها . استحكمت الشمولية فيما مضى وراء عسكر يحاولون أن يتثقفوا ، بينما تتواري الديمقراطية الآن خلف مثقفين تعسكروا . وقد حدث منذ فترة أن حضرت مؤتمرا ثقافيا بأحد الأقاليم ، وجلسنا قبل افتتاحه مع المسئول ، فأخرج بأدب جم كتابا له وأهدانا نسخا منه ، ومع افتتاح المؤتمر فوجئ المسئول – الشاعر المثقف – بأحد الكتاب المشاركين في المؤتمر يناقش علنا من عند المنصة مشكلات الديمقراطية ، وإذا بالمسئول يكشف عن وجه آخر تماما غير ذلك الذي طالعنا بأدب جم منذ ساعات قلائل متنهدا بهم وحزن الشعراء ! فقد انقض المسئول على الكاتب مهاجما بلا رحمة ، وتبدد في حديثه الشعر تماما ولاح العسكر ، وسمعت في صوته وهو يصيح نبرة قديمة لها ذكرى عندي ، فقلت لنفسي : انتقلنا من التنكيل البدني إلي التنكيل المعنوي بعد أن نجحت الدولة في خلق نوع جديد من المثقفين

لأحمد الخميسي