عرض مشاركة واحدة
قديم 03-02-2016, 03:47 PM
المشاركة 45
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


وبئر خنيفسه ليس البئر الوحيد الذي خفته طوال حياتي الي تلك الدرجة الحادة والمروعة...بل ان هناك بئر اخر له سمات اسطورية ما ورائية طالما أرعبني وبث الخوف في فرائصي، وقد تجنبت الاقتراب الشديد منه طوال حياتي واسمه بئر النخرور...

وكنا ونحن أطفال كثيرا ما نمر الى جانب بئر النخرور هذا، وعلى مسافة بضعة أمتار فقط منه، وكان ذلك ونحن نسير في طريقنا الى بئر حارس، ذلك النبع الذي كنا نحج اليه سنويا بعد ان تتفجر الينابيع، ويمتلئ بئر حارس بالماء فيصبح كأنه بركة سباحة في وسط جنة من الأعشاب البرية وكانت قريتنا محظوظة بمثل هذه الميزة من بين القرى الاخرى...

وكنا نسير الي بئر حارس نحن الأطفال ونحن نحمل زوادتنا غالبا في مجموعات وكأننا قطعان من الغزلان او اسراب من النوارس مهاجره، وذلك إذا ما حل الموسم، وهو غالبا ما يحل في بدايات شهر اذار من كل عام، وبعد ان تبدأ غيوم الشتاء التي جاءت بالخير والمطر والتي ظلت متلبدة في السماء طوال اشهر الشتاء في التلاشي شيئا فشيئا، وتسطع على اثر ذلك شمس اذار ، وتتألق في كبد السماء، ولو على استحياء ، وتستفيق الكائنات ذات الدماء الباردة من بياتها الشتوي ومنها الحية والعقرب طبعا، وينطلق موسم التزاوج والتكاثر للعديد من الكائنات سكان تلك الأرض البرية، وفي وقت تكون الجبال والوديان قد اكتست بالخضرة وارتدت رداء سحريا ربيعيا مبهجا، من الازهار البرية متعددة الاشكال والالوان...وبدأت براعم الأشجار تنمو من جديد ففي شهر اذار موسم سعد السعود الذي تدور فيه الماء في العود كما يقول الفلاحين عندنا...

وكنا نحن الصغار نؤم ذلك البئر النبع، بئر حارس، بقصد السباحة والاستجمام...ولا اظن ان أحدا ما أبناء القرية الذكور لم يتعلم السباحة في ذلك المكان، وكان يمارسها باستمرار وعلى مدار السنين ما دام يعيش في محيط المكان...الي ان تلوث البئر بمياه المجاري لأحدى المستوطنات التي أقامها الجراد على رأس جبل قريب فصارت السباحة في ذلك البئر النبعة صوفة للموت والمرض... وأحيانا كثيرة أخرى كنت أمر الي جوار تلك الحفرة العميقة المرعبة، التي اسموها بئر النخرور، برفقة العائلة التي كانت تمتلك ارضا شاسعة على مسافة قصيرة منه، صودرت لاحقا بأمر عسكري بعد الاحتلال بسنوات قليلة، تلك الأرض التي تمتد على مساحة سفوح ثلاثة جبال متقابلة، يفصل بينها وادي تجري فيه مياه الامطار في مواسم الشتاء، او مياه النبع حينما تتشبع الأرض من ماء المطر، فيتفجر نبع بئر حارس القابع بين بئر النخرور، وبين ارضنا التي كان يحلو لابي ان يسميها بارض وادي حمد...وهو الوادي الذي يصل حينما يمتلأ بالماء والحياة الي وادي المطوي في أراضي سلفيت المجاورة، واظن ان المياه المندفعة من هناك كانت تتجه بعد ان تختلط بمياه عيون الينابيع في وادي المطوي نحو الساحل باحثة لها عن مصب على شاطئ البحر الأبيض المتوسط...

وكنا نذهب الي تلك الأرض لان ابي كان يداوم كان على زراعتها، قمحا، وشعيرا، واصناف أخرى من حبوب القطاني، وذلك قبل وصول قطعان الجراد، حيث توقفت الحياة في كثير من المرافق، ولم تعد الأرض مثل الأرض التي كنا نعرفها قبل وصول الجراد...ولم يعد الناس يلتصقون بها كما كانوا يفعلون قبل تلك النكبة المزلزلة، التي خلفت اثارا كثيرة من بينها انها زعزعت التصاق الناس بأرضهم...
ولطالما رافقت ابي وعائلتي ومن كان يشتغل معنا في اعمال الحراثة والحصاد الي هناك، حتى وانا صغير لا اقوى على المسير، وكان ذلك اثناء مواسم الخير الجميلة تلك، ومشاهد تواجدي الي جانب اغمار القمح المحصود ما تزال جلية واضحة في ذاكرتي...اولا لأنها تجربة فريدة من نوعها وجميلة وثانيا لأنها مرتبطة ال يحد كبير بمخاوف من تلك الاغمار التي كانت تتحول الي فخ حينما تختبئ اسفله الافاعي والعقارب إذا ما تركت لبعض الوقت وحتى يستكمل الحصاد...

وفي شبابي كنت اذهب الي هناك وحدي، وبتكليف من والدي، وغالبا ما كانت تلك الرحلة تتم على ظهر حمارة كنا نقتنيها لنركب عليها، ونحمل عليها اثقالنا...وكان الخيار دائما على الحمارة الانثى وليس الحمار الذكر ذلك لان الحمار الذكر شرس ومؤذي يمكن ان يؤدي بحياة الانسان خاصة ما تحركت رجولته في لحظة يرى او يشتم فيها عطر حمارة مارة في المكان...كما ان منظره وهو يمرن جهازه التناسلي الأطول على الاطلاق يخدش الحياء...وكان ابي يرفض فكرة تواجد مثل هذا الحيوان في بيت تتواجد فيه النساء...

وما كان ابي ليقبل اقتناء الخيل أيضا ابدا فقد كان يردد بأن قبر الفارس دائما مفتوح، واظنه فجع في طفولته بأحد الناس الذين سقطوا من على ظهر حصان، او شاهد ذلك بأم عينه، وربما كان هو الذي سقط عن أحدها في طفولته او شبابه ان كان والده قد اقتنى واحدا منها، او ربما اثناء مهرجانات سباق الخيل، والتي كنت انا شاهد علي بعضها في طفولتي المبكرة...واذكر انه حدثنا عن قصة طريفة ولكنها أيضا مخيفة حدثت معه في احد الأيام وهو يركب فرسه وكان اثناءها عائدا من قرية سلفيت المجاورة ووصل قريتنا متأخرا وبعد ان ارخى الليل سدوله فكان ما كان وسوف اقص عليكم تلك القصة في حينه...

وفميا يخص مهرجانات سباق الخيل، تلك المهرجانات التي كانت تقام غالبا اثناء الاعراس في ارض تقع على الجانب الغربي للقرية واسمها الخله، وقد أعطيت ذلك الاسم لوسعها، وانبساطها، فكانت المكان الأنسب لإقامة مثل تلك المناسبات الشعبية...وكان بطلها الذي لا ينازع في طفولتي احد أبناء القرية واسمه عيسى الخليل، وقد كان ذلك الشخص يبهرني بحسن اداءه ورشاقته حينما كان يميل بجسده من على ظهر الحصان ليلقط أشياء كانوا يضعونها على الأرض...ولكن وللأسف ما لبثت تلك الطقوس الجميلة ان تلاشت تماما بعد وصول الجراد الذي خطف الفرحة من العيون، وجمد الدماء في العروق والقلوب...

ولا بد ان والدي كان يشارك في تلك المهرجانات، لان ما وصلني من اخبار عنه في سنوات الشباب، انه كان يعيش حياة الفارس، المغامر، المقدام، عاش الحياة بطولها وعرضها، وكان يسير وهو يمتشق سلاحه الفردي الي جانبه، وقدت شاهدته بأم عيني يستخدم السلاح مرتين في طفولتي وفي مناسبتين مختلفتين، ولا اظنه كان سيتردد في ركوب الخيل والمشاركة في مثل تلك المهرجانات مهما كانت حدة الخطر فيها...ولا اظنه كان سيتردد حتى في ركوب موج بحر عاصف هائج مائج مهما علا وارتفع...
لكن ابي كان يرفض في طفولتي رفضا باتا اقتناء الخيول، تلك الحيوانات الاليفة الجميلة المذهلة في تكوينها وقدراتها الاعجازية، والتي كان والدي يعرف حتما بأن الخير معقود في نواصيها الي يوم القيامة... بل لقد كانت تلك الكائنات الجميلة شبه محرمه علينا...ولا اذكر انني ركبتها الا مرة واحدة في غيابه طبعا، وكانت تلك فرسا اليفا لونها احمر كان يقتنيها قريب لنا...ولكم ان تتصورا ماذا كان شعوري وانا امتطي تلك الفرس وهي تسابق الريح في ميدان واسع، فلا بد انني كنت اترقب موتي او ان يبتلعني قبري المفتوح على رأي والدي... ولم اكرر تلك التجربة بعدها ابدا، ولو ان اخي الثاني في الترتيب، وبعد ان سافر الأول الي الكويت للعمل هناك، قام على شراء فرس في أحدى السنين لاستخدامها في حراثة الأرض بدل البقر، لكنه ما لبث ان تراجع عن قراره واظنه فعل ذلك تحت وطأة ضغط والحاح والدي، فما لبث ان باع الفرس... والتي ذكرى وجودها في حياتي باهتا جدا ولا تكاد تذكر...
والصحيح ان والدي كان يفضل حراثة الأرض بواسطة البقر، ويتمسك بذلك الأسلوب التقليدي القديم كثيرا، على الرغم ان معظم الناس كانوا قد هجروه واستبدلوه بالخيل، والحمير، واستخدموا عليها معدات أكثر حداثة، واخف وزنا، ومصنوعة من الحديد، ولا تتطلب الكثير من الجهد للتعامل معها، ويمكن استخدامها باقتناء حيوان واحد بدلا من الحاجة لاثنين كما في حالة الحراثة على البقر...وهذه العدة الحديدة استبدلت بالخشبية التي كانت تستخدم مع محاريث البقر فيما عدا السكة الحديد التي كانت تركب على الخشب لشق الأرض بعمق لا يماثله محراث الحديد...

وكانت حجة والدي غير القابلة للنقاش انها أقدر على قلب الأرض، وجعل سافلها عاليها، وباطنها على ظهرها...واظنه كان محقا في ذلك فقد تدهور انتاج أشجار الزيتون لدينا بشكل كبير بعد ان هجرنا حراثة الأرض بواسطة البقر بسنوات قليلة، ثم استبدلنا الحراثة وجريا على متطلبات العصر البائسة، وربما بمخطط مدروس جرى تسويقه للناس بوسائل خبيثة، فاستبدل الناس حراثة الأرض برش الأعشاب بالمبيدات السامة نظرا لارتفاع تكاليف كلفة الأرض وحراثتها...فارتفعت مع الأيام نسبة الامراض السرطانية الخبيثة بين الناس...ولا بد ان هذا كان واحدا من الأسباب العديدة الأخرى التي جاء بها الجراد ملك الموت...وتسببت بأمراض لا حصر لها لم تكن معروفة قبل ان هجر الناس الأرض وتبدلت اطباعهم، ومأكلهم ومشربهم واساليب حياتهم..

وكنت اذهب الي تلك الأرض البعيدة تنفيذا لأمره وحبا مني في المغامرة، وبهدف قطف بعضا من ثمار أشجار الخروب التي كانت منتشرة في ارضنا بشكل ملفت ونجني منها اطنانا من الثمار التي تأتي على شكل قرون تصنع منها حلوى الخبيصة ايضا...ولم يعد لها هذه الأيام وجود ابدا في ارض واد حمد وكأن تلك الأرض أصبحت قطعة من الصحراء القاحلة لولا ان الأعشاب الشوكية فيها ترفض ان تموت، وما لبثت ان انتشرت في كل مكان، وتغولت بشكل أصبح من الصعب القضاء عليها...

واعود لاستكمل حديثي لكم عن ذلك البئر المرعب والذي اسمه بئر النخرور، وطبعا لا احد يعرف اصل التسمية الغرائبية تلك، وتتعدد الروايات في الذاكرة الشعبية عن أصل هذا البئر...فمن الناس من يعتقد ان الجن هي التي حفرته، ومنهم من يعتقد ان جنود سيدنا سليمان هم الذين حفروه، والبعض الاخر يعتقد ان الذي حفره لا بد ان يكون هو الذي حفر بئر حارس وبئر مردة القريبة منه والذي هو نسخة طبق الأصل عنه، لكنه أهمل بئر النخرور بعد ان فشل في الوصول الى الماء، وانتقل الي حفر بئر اخر لا يبعد عنه الا مسافة قليلة، وفي ارض أكثر انخفاضا...ويرجح أصحاب هذا الرأي ان قائدا عسكريا من قادة الجيوش الغازية الكثيرة التي سبق ان غزت فلسطين هو الذي حفرها ليسقي جيشه...واظن شخصيا بان هذه الحفرة البئر ربما تسبب بها نيزك سقط على الأرض منذ ملايين السنين الغابرة...او ربما هي مجرد ظاهرة جيولوجية تشكلت هناك بعوامل طبيعية، ولا دخل لأيدي الانسان بصناعتها...فما كان لكائن ارضي ان يستطيع انجاز مثل تلك المهمة...

المهم ان هذا البئر الذي لا أحد يعرف عمقه ولا أحد يعرف ما بداخله سوى الخفافيش التي تسمع أصواتها وتشاهد اثارها، إضافة الي الافاعي والحشرات الأخرى...ولا اظن ان أحدا تجرأ للنزول فيه خاصة ان فتحة بابه صغيرة ولا تكاد تتسع لجسم انسان بالغ ممتلئ...لكنهم يلقون فيه الحجارة ويطرقون اذانهم ليستمعوا متى يصل الحجر لكن صوت الوصول لا يأتي ابدا...

في كل الأحوال ظل هذا البئر، الذي مثل مصدرا للخوف بالنسبة لي وحتى اسمه، النخرور، له رنة مرعبة، اظن ان ما ان يسمعه الانسان حتى تخترق تردداته اللحم، وتصل الى العظم، ومن ثم تسافر عبر النخاع الشوكي الى كل خلية من خلايا الجسد، فيحدث فيه زلزالا ترتجف على أثره القلوب، ذلك البئر ظل مصدر خوف شديد بالنسبة لي طوال حياتي، واظن انني لو عشت مئة سنه أخرى سأظل اخشاه ولن أقترب منه ابدا...
تابع ...