الموضوع: كشكول منابر
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-01-2016, 09:39 PM
المشاركة 1937
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
شجرة الخُلد !
قال عمرُ المختار قبل لحظاتٍ من إعدامه من قبل المحتلين الإيطاليين : " يستطيعُ المدفعُ أن يُسكتَ صوتي ولكنّه لا يستطيعُ أن يُلغي حقّي ، والشيءُ الوحيدُ المؤكد لديّ الآن أنّ حياتي ستكون أطول من حياة شانقي " !
ونبقى مع الإيطاليين ولكن بعيداً عن حبال المشانق، قال الرّوائيّ والفيلسوف الإيطاليّ أمبرتو إيكو : " للاستمرارِ في هذا العالمِ الرّهيبِ يجب أن تنجحَ في شيئين اثنين على الأقل: أن تكتبَ كتابًا، أو أن تُنجب طفلاً " ! عموماً مات إيكو منذ أيام، وقد أحرزَ نجاحاً كبيراً في هذين الأمرين ، فقد كتبَ وأنجبَ ولكنّه لم يستطع الاستمرار !
ليستُ هنا لأنعى إيكو، ولكنّ الشيء بالشّيء يُذكر، لطالما كان الموتُ أكثر ما يشغل الإنسان، وبعيداً عن الموت أو قريباً منه ، شغلت فكرة الخلود البشر حتى قبل وجودهم على هذه الأرض، وكان مما أغرى به إبليسُ آدمَ وهو يُزيّن له شجرة المعصية " هل أدلكَ على شجرة الخُلد وملكٍ لا يبلى "!
وبعد النّزول إلى الأرض استمات البشرُ بحثاً عن حياة أبدية، وأفنى الكيميائيون أعمارهم لإيجاد إكسير الحياة أو ماء الخلود ، ولم يحدث أن جاء زمنٌ لم يحلم الناس فيه أن يعيشوا إلى الأبد ! لهذا جاب الملك السّومريّ جلجامش الأرض بحثاً عن نبتة الخلود بعد وفاة صديقه أنكيدو ، وتقول أسطورة البابليين هذه أنّه لمّا عثر عليها سبقته أفعى إليها وبقي البشر محكومون بالموت ! يبدو من كلّ ما سبق أن فكرة المكوث على ظهر هذا الكوكب هي فكرة جذابة للكثيرين، رغم أني أميلُ إلى رأي الجاهليّ الجميل زهير بن أبي سلمى في مطلع معلقته حين قال :
سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعشْ
ثمانينَ حولاً لا أبا لكَ يسأمِ
لا مناص من الموت إذاً، وستبقى فكرةُ الخلود تدغدغُ أحلام البشر دون جدوى، لأنهم يفهون أنّ الخلود في أن تكون الحياة طويلة، رغم أنّي أرى الخلود في أن تكون الحياة عريضة !
كلّ الذين خلّدهم التاريخ كانوا قد عاشوا لفكرة ما، آمنوا بها حدّ اليقين، لهذا لم يستطع الموت أن يُغيّبهم، كل ما فعله أنه أغتال أجسادهم فقط، أما أرواحهم فما زالت تخفقُ حتى اللحظة أقوى من أرواح كثير من الأحياء! ويبدو لي أنّه ليس من المهم كيف يموتُ الإنسان وإنما كيف يحيا ! أبو بكر مات على فراشه، وعمر وعليّ ماتا مطعونين في صلاة الفجر، وعثمان مذبوحاً على المصحف، وعمر بن عبد العزيز مات مسموماً، وابن تيمية مات مسجونا في قلعة دمشق فوق كتاب الفتاوى، وسيّد مات مشنوقاً في السّجن الحربيّ على مقربة من ظلال القرآن ! كلّ واحد منهم مات بطريقة، ولكنّهم جميعاً عاشوا لله لهذا تخلّدوا !
لا يمكن الخلود دون فكرة ، نبيلة كانت أم وضيعة، وكلّ إنسان قد تخلّد اختار فكرة على شاكلته، وأفنى حياته في سبيلها، قارون عاش لأجل المال، والنمرود عاش لأجل المُلك، وفرعون عاش لأجل
الجاه، وأبو لهب وأبو جهل وعتبة وأمية عاشوا لأجل دين آبائهم، هؤلاء أيضا تخلّدوا لكن هناك فرق بين من يُكتب اسمه في أنصع صفحات التّاريخ، وبين من يُذهبُ به إلى مزبلته !
شجرة الخُلد لا يمكن أن تكون إلا في فكرة، فإذا أردتَ أن تأكل من ثمرها فآمن بفكرة حتى اليقين، عِشْ لها، واعمل بها حتى آخر رمق. لا فكاك من الموت، ولا سبيل للحفاظ على الأجساد، والكائن الوحيد الذي ظل جسده خالداً حتى اللحظة هو إبليس، وتلك لم تكن جائزة بل عقاباً !
أدهم شرقاوي / صحيفة الوطن القطريّة