الموضوع: اغتراب
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
8

المشاهدات
4588
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.35

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
02-07-2015, 04:12 AM
المشاركة 1
02-07-2015, 04:12 AM
المشاركة 1
افتراضي اغتراب
تهرول الأمواج نحوي مبتسمة تحمل إليّ سكون الليل ، حمرة الغروب تغريني بالإبحار ، أمامي خلاء من ماء بلا نهاية قريبة ، أتأمل هبوط قرص الشمس في بحر الظلمات ، أيقنت أنها لا تزال ساطعة متوهجة هناك على الضفة الأخرى ، تمنيت مركبة تسري بي في ثوان معدودات لأقوم بنزهة مشتاق فأصعد الصروح العالية هناك عساني أطلع على مدافن التاريخ لأوقظ جذوة الفضول القابعة في أعماق أضرحته ، تهيأت لي سفينة "خشخاش البحر " تعب ألسنة الماء محملة بحلي "إلدورادو" ، طفت ببصري والليل يسدل ستائره ، تراءت لي أضواء المدينة من بضعة أميال تتلألأ كما نجمات السماء ، ما أحلى المكوث هنا بعيدا عن ضوضاء المدينة التي بات ليلها كنهارها ! غير أن قشعريرة الخوف تقضّ راحتي ، فالمكان مستوحش و أطياف السواد تجتاح جماليته ، خرير البحر استنفر شبقه و أضحت نغمته موصومة بغلظة ، أحدّق في الأمواج إن كانت لا تزال على طبيعتها ، أم أنها تعاضدت و مخاوفي مستعدة لالتهام المدينة التي بتّ أراها آمنة ساكنة ، قمت من مجلسي و تقدمت خطواتي ، طارت أوهامي و استردّت روحي عذرتها و أطلق لساني همهمة استهزاء فامتطيت فورة عزيمتي .
ركبت دراجتي بعد تحريرها من عربة سيارتي واستشرفت البحر بأنوارها ، وجدته يجنح للسلم و الهدوء ، على ظهر راحلتي بدأت أمخر عبابه في نشوة عارمة ، فعلى سرج الفرس تتفتق مواهب الفرسان ، و في بذلة الجندية تسكن روح الإقدام ، هأنذا أسير سير المغامرين و أجوب ميدان البطولة ، تأسيا بك يا ابن البوغاز حين غزوت ربوع الأرض . مرت ساعة و ساعة فثلاث غاب فيها طعم الملل و انهارت قلاع الخوف ، بزغ القمر فأرسل ضياءه الكاشفة ، و انقشعت غيوم الظلام التي كانت تحاصرني ، و راقني هذا الانبساط الهائل ، أحسست نشوة الانتصار ، أوقفت دراجتي لأستمتع بهمس الأسماك ، أتلمس فضولها المرافق لرحلتي ، تراها تعتربني غريبا اخترق حرماتها فتتلاحق لاستقصاء الأخبار مرتبة خطط هجومها ؟ أم هي راقصة طروبة مسبشرة بعودة روح الاستكشاف والمغامرة إلى الضفة النائمة منذ أجيال ؟
" ليلك مبارك أيها السندباد !"
هكذا قالت امرأة شابة رسم القمر على وجهها حروف حسن بادية ، صعدت هكذا فجأة من المحيط بلا سابق إنذار ، فخفق قلبي رهبة من هذه المباغتة ، فتمتمت بعض كلمات غير واضحة و نفسي بين حولقة و استعاذة ، فانطلق لسانها : " الملاّح لا يسكنه الفزع ، بل ينقض على غنيمته " قلت لها محاولا إظهار رباطة جأشي :" محقة أنت يا ساكنة البحر ، عفوا يا حورية " فردت :" ألا تنتشلني من هذا اليمّ ، فأطرافي تتجمد " أجبتها :" كان بودّي لكن دراجتي هذه كما ترين سرجها قصير ، بالكاد يحمل شخصين ، و لن تكون مطية مريحة لك ، فذيلك و زعنفاتك ربما ...." ضحكت فوثبت لتجلس خلفي بسرعة خاطفة . اختلست نظرة لطرفها الذي يلامس رجلي ، كانت قدما لينة مقلمة الأظافر ، همست قرب أذني :" الآن عرفت أنني لست حورية بل بنت تراب مثلك ، أنا أقدم نفسي لك هدية ، جارية..."
أحاول ابتلاع ريقي الجاف و البحث عن رد يليق بهذا المخلوق الغريب الذي يسند ظهري ، في محاولة يائسة لإنقاذ نفسي من ورطة الرّحلات ، و طيش المغامرات ، فواصلت :" سأكون لك نعم الخادمة ، فلست بحاجة لأكثر من مكان آمن من العيون ." ازداد قلقي فكلما كشفت بعضا من غطائها تفاقمت هواجسي و سبحت روحي في بحر الشكوك ، و تضاعف يقيني أنني في لجة حقيقية . فلما تمنع علي الجواب أردفت : " تراكم لا تجيبون من استجاركم ؟ تراكم فقدتم كل القيم النبيلة ؟" تشجعت عندما استنهضت روحي الغافية : " لا لم نفقد أيا منها يا سيدتي ، لكن لست بحاجة لخادمة ، و زوجتي ستظن بي الظنون ..." فردت : " الحرص جميل ، لكن بإمكانك أن تعقد عليّ ، فتكون النهاية سعيدة " تغيرت نبرة صوتي في اعتراض : " ما هذا الكلام الجاف ، أتحسبين الزواج مجرد مزحة ، ربما جئت من زمن سحيق ، من أنت ؟" أجابت و صوتها فيه نبرة حزن : " أنا فتاة من هذه الأرض السمراء ، أينما وليت وجهي ذلت كرامتي ، فلا الغريب قدّرني ، و لا القريب اعترف بأهليتي ، يتهمونني بالجنون كلما غرد لساني ترنيمة الفطرة ، فالمصير جلد و جفاء و ترهيب لكنني صابرة على الأذى ، فربي يحميني من بطشهم ." استغربت من الفصام الذي تعيشه الصبية ، أتكون روحا فقدت السكينة في أعماق التراب و في علياء السماء فاستوطنت البحر ، تراها امرأة سقطت في عرض المحيط من قمر سيار ، عدت إليها سائلا : " لماذا يطاردونك ؟" ردت :" يستغلون جمالي و به يزينون صنعتهم ، أمنح شرعية لتسلطهم بألحاني العذبة ، يريدونني شعارا مليحا يخفي قبحهم . "
رجعت إلى الخلف و قادت الدرّاجة بسرعة جنونية حتى أخافني تهورها ، خطفت نظرة إلى شاشة دراجتي ، إنها متجهة إلى الشرق ، في لحظات وجدت نفسي بجانب سيارتي . فتحت بابها فسبقتني إلى الجلوس ، كانت خفيفة رشيقة ، أضأت المصباح لأراها عن قرب ، كانت مجرد امرأة عادية ، هممت بفتح المذياع فأغلقته ، وقالت أريد منك ردا مقنعا و إلا سلمت نفسي ، هل في هذه الأرض موطن آمن ، قلت لها و الحجرجة تعتري صوتي : " الشرطة في كل مكان " قالت :" ظننت الأمور تغيرت هنا ، أتذكر يوم أسرني ذلك الغريب ، كنا في رحلة إلى مزار الفلاح و على ضفاف نهر الحب ، تعلقت بزرقة عيونه ، فأغواني بنبله و وسامته ، بضحكته و سمو بيانه ، بعلمه و سلطانه ، تمالكني القنوط من تعافي أسرتي من جبروت الحاجة و عشيرتي من سطوة القيود فقلت ، لم لا أرحل فأرض الله واسعة ؟ هكذا ذهبت راجية ألقا ، و حبّا في تحقيق رفعة لنفسي وأهلي وعشيرتي . وصلت بلاده فافتتن بي قومه و كدت أصبح أميرة حقيقية ، أصابت الغيرة نساءهم فبدأن يحكن المؤامرات ضدي ، خوفا من فقدان أزواجهن ، عندها زهد فيّ من تعلق قلبي بهواه ، فكر في إرجاعي لأهلي بثمن باهظ ، و لما رفضني أهلي و تبرأوا مني ، أهداني صانع الأبراج إلى ابن عمه الآتي من وراء المحيط ، و كانت مهمتي استقبال الضيوف و البسمة في وجوههم ، هناك بقيت دهرا حتى سئمت من تزيين كذبهم الفاضح ، واستبدادهم الساطع ، و أغلالهم التي لا تبور فقلت أهرب ربما أجد شريفا في أرضي ، يأويني و يمنع عني قهر الغربة و عيش التسكع ."
نظرت إليها وهي تذرف دمعة ، فقلت لها : " ما بال العالم لا يرحم البسطاء ، سأتحمل كل شيء من أجلك يا فتاتي التائبة "
عند ذاك ، قامت و فتحت الباب ، قائلة : " يا سليل قومي و يا رفيق النضال ، قومي لن يغفروا زلتي ، و هؤلاء سيظلمونني أكثر و أكثر ، لكن سأتحمل ، فربما أعود يوما و قد تحسنت الأحوال بتضحيات الرجال . "
نزلت من السيارة كي أمنعها عن الرحيل ، لكنني لم أجد لها أثرا .
أوقدت سيجارتي ، جلست وراء المقود ، تفحصت مكان جلوسها ، عبقها لا يزال يداعب أنفي ، صوتها لا يزال يغرد في أذني ، لكن أين ذهبت ؟ لست أدري .

تدور العجلات و صوت رخيم ينشد " يا نسني و انت على بالي و.... " تتأرجح نفسي مع رقصات الأوتار ، شعور بين حزن و فخر و فرح و غموض يحشرني في سكرة عميقة ...
ركنت سيارتي في ساحة بيتي حين سمعت نبأ يشير إلى انقطاع التيار الكهربائي في غرب المحيط الأطلسي بعد الغروب دام ثلاثين دقيقة لأسباب مجهولة و انتشرت خلاله شائعات كثيرة ........

انتهت .