عرض مشاركة واحدة
قديم 02-27-2014, 10:29 PM
المشاركة 2
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي




كانت ليلة شبه مظلمة فى أواخر الشهر العربى, وقد جلست وحيداً لليوم الثانى على التوالى فى إنتظار زميلي المنوط حضوره الأمس , وكان لابد لي من الإبلاغ عنه اليوم, لكنى تريثت حتى الصباح, الجيش قاسى وهو يرفع مبدأ حكم النفس و ما أدراكم ما هو حكم النفس. إلا أن الأمر ليس شاقاً لمجند عسكرى مثلى, يعتبر نفسه محظوظاً لتأديته الخدمة العسكرية بعيداً عن جو المعسكرات الشاق فى أحدى محطات تموين الوقود الوطنية التى تقع بين مفارق طرق سفر...فى منطقة صحراواية مهجورة لا تكاد تلمح فيها
سوى معسكرات الجيش المغلقة خلف الجبل الصامت وكثير من المقابر على الجهة الأخرى.
جلست فى مقعدي البالي وقد داعب النوم السارق جفوني بحدة حتى أني لم أنتبه للخطوات الرتيبة على الإسفلت تقترب منى .... أيقظنى صوته البارد كبرد هذه الليلة "ايه يا دفعة"
استرعى انتباهى الفتى الأسمر الصعيدي النحيل فى زيه العسكرى المليء بالثقوب وذقنه الغير حليقة وعينيه الحمرواين كأنما مرت عليه ألف ليلة ساهراً، فركت عينيى بأرهاق مستغرباً و قد جلس بجانبى - لاأعرف من أين أتى بالكرسى الذى يجلس عليه-.... وقبل أن أتفوه بكلمة بدد حيرتى:
-أنا زميلك المفروض أن يتسلم مكانه معك منذ يومين.
نظرت إليه وأنا أتثاءب ولم أعلق وإن شعرت بالأرتياح لمن يؤنس وحدتى في هذا المكان المقفر سألته:
- "تشرب شاي؟ ...."
أومأ فى راحة فأعطيته كوب شاي نصف دافئ من "الترمس" خاصتي شمّه بأنفه دون أن يرتشفه :
- تحبونه خفيفا أيها القاهريون ككل أشيائكم المترفة والناعمة .
تجاهلت عبارته وأنا أرتشف قليلاً من الشاي وقد شعر هو بجفائى من طريقته الجافة حتى وهو يسألنى عن أسمى .
أجبته:"عاصم" فضحك ببرود و الآخر كان اسمه "هيثم" ثم أكمل فى سخرية أننا لا نسمي مثل هذه الأسماء للفتيات ، عندئذ تملكنى الغيظ من الفتى الحاقد على سكان القاهرة المغموسون فى زخام التلوث ، فسألته بدورى : " ما أسمك؟"
ـ حجاج من الآقصر.
ضحكت فى خفة أغاظته...كل سكان الأقصر لا يخرجون عن حجاج أو حجيج أو أبي الحجاج
نظرلي بنصف عين مغمضة:
-صحيح رفيق هيثم كان يدعى صلاحا أبي الحجاج ، كان من الفقر حيث أن هبات هيثم القليلة كانت ثروة الدنيا بالنسبة له مقابل أن يحل محل الاخ هيثم الذي يعود لبيته وينام قرير العين فى فراشه الدافئ بينما صاحبنا سعيدا بوحدته و ندرة السيارات فى الليل لكن البائس كان مخطئاً ..كان مخطئاً للغاية ...ثم صمت وعاد لتشمم الشاي الساخن وهو يتصاعد بخاره من بين يديه .. وحينما طال صمته، قلت دون أن أعلق على ثرثرته :
-يبدو أنها ليلة طويلة باردة.
لم يلتفت لي بل رنا ببصره إلى الطريق المواجه للمحطة حيث المقابر المظلمة التائهة تحت نور القمر الخافت و ثمة ريح تعبث بالتراب حولها فتثيره غباراً أهوج . أثارت الرجفة فى أوصالى بينما الجالس بجانبى يأتى صوته عميقاً سحيقا:
-فى ليلة مثل هذه كان صلاح وحيداً تماماً فى أخر ساعات الليل... يدندن بلحن شهير راج أيام التسعينات لمنير"بندهك يا طير مهاجر يرجع الصبح المسافر" و بينما هو فى حالة من الارتخاء اذا بخطوات غير منتظمة قوية تجعله ينتبه بشدة حينما جال ببصره لم يجد شيئاً يذكر فعاد للغناء مرة أخرى :"بندهك صانع و تاجر بندهك فلاح و بنا" و لكن الخطوات عادت مرة أخرى أكثر ارتفاعاً ....فزاغ بصر صاحبناً وأنتفض ، التفت يميناً و يساراً و هو يحملق فى الطرقات الخالية حوله دون جدوى.. ثم ربتت يد باردة بخفة على ظهره فانتفض بعنف و..... عند هذه الجزء أرتعشت و توترت . ... بينما حجاج يبتسم أبتسامة واسعة مقيتة أظهرت السنة الفضية فى أسنانه وهي تلمع بشدة.
تنهدت :
ـ كفى لا أريد المزيد ....لكنه أكمل متجاهلاً خوفى ، كانت صاحبة اليد فتاة شابة فى أوائل العشرينات , نحيفة للغاية ذات شعر قصير ناعم ترتدى بذلة جلدية سوداء لامعة ، تكلمت بصوت واهن:
ـ سيارتى نفذ منها الوقود هل تسطيع مساعدتى؟؟؟
كان الفتى من الشهامة بأن يتبعها بكل همة وهى تخبره أن السيارة على الجانب الآخر ، تبعها حتى السيارة الصغيرة البيضاء القابعة على وسط الطريق بجانب المقابر و قد توقفت الفتاة بجانبها ثم عبرتها لتغوص فى قلب المقابر المظلم وصاحبنا يناديها:
- إلى أين؟ توقفي وقف محتاراً فيما يفعله.. فأتجه للسيارة عله ينير أنوارها لترشده و ما إن اقترب من السيارة حتى غاص قلبه بين ضلوعه فقد كانت هناك سألته في خوف :"من التى كانت هناك ؟"
ضحك فى غموض ، من تظن الفتاة بالطبع , و قد تمزق جسدها على نحو بشع نتيجة الحادث و قد امتدت يدها مرتجفة دامية و..... زفرت و نهضت فى ضيق :
-قصة سخيفة .
همس فى غموض :
ـ لم تكن هذه نهاية القصة.
ـ كفى لا أريد...
أكمل بكل سماجة:
ـ طار صاحبنا كالمجنون عبر الطريق ولم ينتبه للناقلة الضخمة التى دهستة ومضت , تمزق المسكين لاشلاء هنا ...
أشار لموضع أمام المحطة... خيل لي أنى أرى الأشلاء تنزف بشدة والرياح تقذفها بعنف فذهلت لوهلة ..إلا أن سيارة دخلت فى هذه اللحظة للتموين فقلت للرفيق اللزج حان وقت العمل وأنا أسير نحوها بكل همة.
كانت سيارة من النوع الرياضى وبها رجل فى أوائل الأربعينات بعد أن دفع مبلغ تموين الوقود .. سألنى عن مياه خضراء لمبرد السيارة لأن سفره طويل.
ناديت حجاج كي يأتينى بالمياه من الداخل و لكنه اختفى وتلاشى تاركاً خلفه كوب الشاي الساخن... حانت منى إلتفاتة جهة المقابر فلم أجد سوى الظلام يلفها و ثمة سنة فضية تلمع بشدة وضحكة عابثة تدوى فى خفوت. كان صاحب السيارة قد مل من الانتظار فأدار المحرك و ابتعد و صارت سيارته كنقطة صغيرة مضيئة على الطريق ثم ما لبثت أن زوت تاركة إياى والخوف والضحكة الخافتة الشامتة و ذلك الصوت العابث الأتى من بعيد يدندن:
طقطة فرن الخبيز
صلصة جرس المعيز
يرجع الصبح المسافر
ثمة خطوات تقترب وتقترب ويد باردة توضع على كتفى ...نظرت بارتياع إليها وقد وقف شعر راسى وهى ببدلتها السوداء الللامعة تهمس بصوت كالفحيح:
- نفذ الوقود من سيارتى وهى على جانب الطريق فهل تسطيع مساعدتى و؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
---------------------------------------

نشرت ضمن كتاب صانع الذهب مع اخرون ويعد واحد من افضل 5 كتب عربية فى ادب الرعب فى الفترة من 2008 الى 2013



نص جميل و لو أنه في حاجة إلى بعض المراجعة سواء في بعض مقاطعه التعبيرية أو في الإعراب

تقديري للأستاذة روان عبد الكريم .

و ننتظر المزيد .