الموضوع: المتسول
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
13

المشاهدات
4830
 
رشيد الميموني
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


رشيد الميموني is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
597

+التقييم
0.12

تاريخ التسجيل
Dec 2010

الاقامة
تطوان / شمال المغرب

رقم العضوية
9563
02-13-2014, 05:55 PM
المشاركة 1
02-13-2014, 05:55 PM
المشاركة 1
افتراضي المتسول
[justify]المتســـــــــول

شمس الظهيرة تتوهج فوق الرؤوس ، وتسلب الأجساد ما تسرب من مسامها من عرق ، حتى تكاد الجلود تضاهي التربة القاحلة . وتمتد الطريق الإسفلتية إلى ما لا نهاية ، منحدرة تارة وصاعدة تارة أخرى ، مقفرة ، صامتة ، جامدة ، رغم ما يبدو في أفقها من رقرقة ولمعان ماء زلال .
لم يعد الغالي يسمع ، وهو ينأى عن الدور القصديرية سوى وقع خطواته على الإسفلت الرخو، أو على التربة الحمراء جانب الطريق . عيناه شاخصتان إلى الأفق البعيد حيث تصطف الدارات بحدائقها الغناء المسيجة وأشجارها السامقة . يحذوه أمل في أن يكون هذا النهار فاتحة خير ، ونهاية سعيدة لصبر طويل وإصرار مرير على بلوغ المرام ..." عسى ألا يكون ما أحسه من أمل مجرد سراب ، فتنتهي معاناتي ويسمع صوتي مدويا في كل مكان ، وأعانق المجد ، وأتخلص من روتينية المكتب ورتابة ملء الأوراق للإمضاء."
البلدية . كانت وما تزال مأواه الثاني . يقضي فيها ساعات العمل وفترات الإجازة . يعد المطبوعات والتقارير ليمضي عليها الرئيس . يقوم بخدمات أخرى لا علاقة لها بوظيفته . يجلب القهوة لرئيسه ، ويصطحب أولاده إلى المدرسة ويشتري له حاجياته من السوق ويوصلها إلى المنزل حيث تكلفه الزوجة بمهام أخرى حتى لم يعد يعرف وظيفته بالتحديد . كل شئ يمضي رتيبا ، إلى أن كان يوم الجمعة الماضي... موعد الكسكس والخروج كسائر الموظفين قبل الوقت لإدراك الصلاة ، ثم العودة أو اللاعودة ، متأخرا كما تعود الجميع بعد الغذاء . لكنه الوحيد الذي يجب عليه أن يعود رغم حاجته الماسة للقيلولة . عاد وذهنه منشغل بما ستسفر عنه ، في نهاية الأسبوع ، مباريات الكرة و " التييرسي" و "اللوطو" و اليانصيب "العوراء".. منتعشا بضربة حظ ترفعه إلى مصاف الأثرياء ، وتنتشله من حياة أشبه بالتسول .." وماله المتسول ؟.. ألسنا متسولين مثله ؟ بل وأشقى وأحط منه ؟.. لقد رأى بأم عينيه كيف استقبل رئيسه أحد الأثرياء الجدد بجلبابه البالي وحذائه الرياضي الموحل ، وكيف أفسح له المجال وحياه كالراكع في صلاته . أليس خنوعه أمام ذلك البدوي أشد ذلا من منظر هذا المتسول الذي يقبع عند باب البلدية كل صباح ويختفي عند الظهيرة ؟.. على فكرة...أين يذهب هذا ؟ ولماذا لا يعود عند العصر أو عند المساء ؟
في البداية ، كان مجرد فضول سرعان ما نما ليصبح سؤالا يقض مضجعه ، إلى أن خطرت له الفكرة الجهنمية.. لم لا يتعقبه ويكتشف أمره ؟ فحياة المتسولين ملأى بالغرائب والأسرار، ومنهم من يحترف التسول لمآرب أخرى غير الحاجة . ماذا لو حرر مقالا يكشف فيه كل هذا وبعث به لإحدى الصحف ؟.. ستكون ولا شك ضربة معلم وفرصة العمر، ولسوف يقام له ويقعد . عندئذ يساوم المحرر على ثمن المقال قبل أن تتلقفه الأيدي لتطلب المزيد وإمضاء العقود للفوز بحق النشر ، فأسلوبه – بشهادة رئيسه - على مضض وأيضا زملاءه- لا يشق له غبار. اللعنة على شقاوة و طيش الصبا والنفور من المدرسة .. لو أنه تابع دراسته لصار الآن من كبار العلماء كما قرأ في تلاوة بوكماخ . ولكن ما فات قد فات ، والعبرة بالإقدام والمغامرة وعدم الاستسلام لليأس . ثم إن الدراسة ليست كل شيء . ورب أمي ساد قومه ، وكم من جاهل تحكم في مصير الخلق .. هل كل الذين حصلوا على أعلى الشواهد فازوا ؟ .. ماذا جناه أخوه من دراسته وشواهده ؟ هاهو قابع في وسط الجبال مثل راهب ودون مستوى حياة الإنسان المتمدن . لا يكاد راتبه يسد رمقه ، بينما الألسن تلوك سيرته والأعين تكاد تلتهمه وتحصي عليه حركاته وسكناته متربصة بأقل هفوة تصدر منه ، حسدا من... ماذا ؟ " أليس أخي متسولا ، ما دام لا يمر نصف الشهر حتى يقترض ليتمم النصف الآخر بسلام ، مستعطفا ومحابيا هذا وذاك وكل من هم أقل منه مستوى في كل شيء ؟
أحس بالتعب ، فاقتعد أحد الكلمترات المهترئة ، وأسدل طربوشه على جبهته حتى كاد يحجب عينيه. نظر إلى سرواله المغبر وحك ذقنه فوجده غير حليق . تمر بعض السيارات الفارهة وتتناهى إليه ضحكات فتيات في عمر الزهور وهن يحطن بكهل غزا الشيب رأسه .. من أين التقطهن ؟... طبعا من أمام إحدى الثانويات ، ما دمن يرتدين الزى المدرسي . " الله يلعن والديكم ، أولاد الحرام ورهط..." يخيل إليه أنه يعرف السائق.. وجهه مألوف لديه.. أين رآه ؟... ليعرض عن هذا وليركز اهتمامه على ذلك الشبح المهرول نحو الدارات لا يلوي على شيء ، فهو هدفه أولا وأخيرا .. هل ينتظر عودته ليعرف أين يذهب ؟ .. وإذا لم يعد ؟
لمح كوكبة من الغيد مقبلة في انشراح . لا يكاد يسترهن شيء... يا للهول.. هذه زوجة رئيسه . ماذا تفعل هنا ؟ ومن أين أتت بهذه الثلة اليانعة ؟ .. أحنى رأسه خشية أن تقع عيناها عليه . اقتربت منه ودست قطعة نقدية ، فحذت الأخريات حذوها ثم انصرفن وهن يعلقن مازحات:
- متسول جديد ، لكنه وسخ .
- أليس خيرا من ذلك العجوز الهرم الذي يعذبنا بشذوذه ؟.. أظن أن "دوشا" واحدا يكفي لجعله يلمع .. ألم تري منكبيه العريضين و.. فحولته ؟
ضجت الفتيات بالضحك ، فتابعهن بنظره إلى أن اختفين ، ثم فتح راحته متأملا القطع النقدية . وفي عملية حسابية سريعة كشف مخه ما قد يجلبه النهارله من رزق وفير مع احتساب متصدقين آخرين . غلبه الضحك ولم يستطع كبته ، رغم مرور البعض راكبين أو مترجلين ، غير عابئ بما يضعونه في يده المبسوطة من قطع وأوراق نقدية .
يتهادى المساء بنسمات البحر ، وينتبه الغالي لنفسه وينظر إلى الدارات . أيكون المتسول مر من أمامه دون أن يشعر به ؟ هل ذهبت مجهوداته سدى ؟.. يجب الانصراف قبل حلول الظلام .. أحس بحركة وراءه ، فالتفت ليجد الرجل واقفا كالصنم ينظر إليه.. المتسول .. كيف لم يشعر به يقترب ؟ وما له يحدجه بهذه النظرات الجامدة ؟.. هل تعرف عليه ؟.. لا يبدوعليه ذلك .. يطول الصمت ، ولا يشق السكون سوى هدير السيارات المارقة بسرعة جنونية .
- اسمع.. مكانك ليس هنا.. هذه منطقتي . ابحث لك عن مجال آخر .. أنصحك بالضاحية الجنوبية ، فهي لا زالت خالية . ثم إن التصاميم ستجعل المنطقة أكثر اتساعا و ازدهارا في المستقبل.. فز بها قبل أن يفوز بها الآخرون .
قال المتسول ذلك وانصرف نحو المدينة التي بدأت أنوارها تتوهج . حاول اقتفاء أثره ، لكن قدماه تسمرتا عند الكيلومتر المهترئ . عليه أن يعود قبل أن يضل الطريق ويتأخر فتقلق الزوجة ويفتقده الرئيس .. ضحك في سره متذكرا الحديث عن التصاميم .. ترى أيهما الرئيس ؟.. ذاك القابع في مكتبه الفخم أم هذا المنزوي دوما عند باب البلدية ؟.. الرئيس ؟ اللعنة . ذاك السائق الكهل صحبة التلميذات .. هو بعينه .. هل يلتقي بزوجته فتحدث الكارثة أم...؟ " ما هذا الذي يجري ياربي ؟"
وصل إلى المنزل منهكا و اندس في الفراش بملابسه ، فأقبلت الزوجة بالشاي و"الحرشة".
- اخرجي إلى السوق غدا واشتري ما يلزم... خذي .
- بسم الله... من أين لك هذا ؟
ضحك في إعياء وقال وهو يرقد على جنبه الأيمن :
-- هذا سؤال خطير، خصوصا في هذا الزمن .. لكني سأشبع فضولك.. لقد كوفئت على جديتي و إخلاصي .
- الحمد لله... ولكن ، أ لن تأكل شيئا ؟
- لا – قال متثائبا- لقد أخذت "مرييندا" في المكتب .
قال ذلك و استسلم للنوم . طار فوق المدينة وحط بضاحيتها الجنوبية و التقى بزوجة رئيسه وهي بنفس الملابس الداخلية التي تستقبله بها حين يناولها حاجيات المنزل من السوق ، ويعينها على وضعها في الثلاجة . لكنها الآن أكثر بشاشة ورقة وقد زال عبوسها . أما الزوج- الرئيس - فها هو ينظر إليهما في توادهما . يبدو له كقرد نتن وهو ينط بين الفتيات منتقيا أجملهن قائلا :
- سيكون الغول مسرورا اليوم ، وسيرضى عنا كل الرضا .
لم ير الغول ، ولكنه سمع زعيقه يدوي في الخلاء ، ونهش أسنانه للحم الحسناوات الغض . هم بالفرار ، لكنه وجد نفسه جالسا في فراشه وقد اشتدت دقات قلبه . تمتم بالبسملة وعاد للنوم .
في الصباح ، انطلق متحاشيا البلدية ، متجها صوب الضاحية الجنوبية . [/justify]