عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 03:55 AM
المشاركة 4
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

البداية .. عملاقة ,


كما أسلفنا ..
كانت هناك حالة ولادة عسيرة للغاية بدأت بها محاولات إنشاء جهاز المخابرات المصري فى وسط أعمال تنتظره تعد هى أول باب ظلم تم فتحه أمام الجهاز الوليد .. .
فمصر فى تلك الفترة كانت محط رجال المخابرات من شتى الأجهزة التى تنتمى للمخابرات الغربية والشرقية المعنية بالشرق الأوسط وكلها أجهزة خاضت غمار العمليات السرية على نحو جعلها أمام المخابرات المصرية أشبه بغول يتراقص أمام قط أليف

لكن وبالرغم من أن كل المقدمات تشي بنتائج غير مطمئنة إلا أن المخابرات المصرية نجحت فى صنع أول بطولاتها من خلال عدد من العمليات الناجحة كان من المستحيل تبعا للمنطق أن تكون فيها الغلبة لهذا الجهاز الوليد ..
غير أن التفسير المنطقي لهذا تبعا لما حققه مؤرخو المخابرات الغربيون تحديدا من أمثال المؤرخ السياسى ( راكواف كاروز) صاحب موسوعة " تاريخ المخابرات العربية "
والسبب كان راجعا إلا أن المخابرات المصرية تستعين على قلة الإمكانيات ببراعة الرجال وحسن تدريبهم ومواهبهم الفطرية التى تمكنت من التغلب على الخبرة ..

ولتقريب الصورة أكثر ..
فمجال المخابرات تشكل الخبرة فيها عاملا مهما دون شك لكن العامل الرئيسي للتفوق يكون للمهارة والبراعة وحسن التدريب .. مثال ذلك مجال الكمبيوتر والإنترنت فالخبرة لا تشكل عامل تفوقه الرئيسي بينما الموهبة والقدرات الشخصية هى المعيار الحقيقي فيه ولذلك نشاهد العديد من نوابغ إختراق الشبكات والتعامل التقنى بالغ الرقي مع الكمبيوتر وهم بعد أحداثا أو شبابا صغار السن

وكان نزول المخابرات المصرية للساحة عقب عملية " سوزانا " التى عرفت فيما بعد باسم فضيحة لافون واكتشفتها المباحث المصرية وكانت عاملا من أهم العوامل فى سرعة إنجاز مشروع جهاز المخابرات بعد أن ظهر للعيان مدى ما يمكن أن تحققه عمليات المخابرات من تهديد للأمن القومى تعجز عنه الحملات العسكرية ..
وفى فترة زمنية قصيرة بدأت عام 1956 تمكن جهاز المخابرات المصري من إحباط عملية مؤثرة للمخابرات الأمريكية (cia)
معروفة باسم أحد الدبلوماسيين الأمريكيين وهى عملية " بروس تايلور أوديل " وهى العملية المؤسفة التي اكتشفت فيها المخابرات المصرية أن الصحفي الشهير مصطفي أمين مؤسس دار أخبار اليوم جاسوسا أمريكيا منذ الأربعينات !
وقد حوكم وتم الإفراج عنه إفراجا صحيا في عام 1974 م ضمن دفعة من الجواسيس الأمريكيين والإسرائيليين الذين تم الإفراج عنهم بناء على مفاوضات السادات مع هنرى كيسنجر مستشار الأمن القومى الأمريكى وقتها ,
والغريب أن مصطفي أمين ادعى بعد ذلك أنه برئ وأن التهمة ملفقة رغم الإعترافات والتسجيلات ورغم صفقة الإفراج الصريحة إلا أن هذا لم يجد شيئا بعد أن نشرت المخابرات الأمريكية مؤخرا كتابها الشهير عن عمليات الشرق الأوسط التي تم التصريح بكشفها وخصصت فصلا كاملا لنقد رجل المخابرات الأمريكية بروس تايلور أوديل باعتباره أنه استهتر بأمن العميل الفذ مصطفي أمين مما تسبب في كشفهما معا

كما قامت بعمليات ذات دوى هائل ضد المخابرات الإسرائيلية وأشهرها عملية العميل الألمانى " لوتز " الذى كلفته المخابرات الإسرائيلية بالعمل على إرهاب العلماء لألمان الذين استعانت بهم مصر فى تقدمها الحربي علميا .. ومثال تلك العمليات تم تدريسه فى معهد المخابرات الدولى وكان نجوم العمليات من الرعيل الأول من منشئي جهاز المخابرات المصري
وكررت إسرائيل عملية لوتز مرة أخرى وحاولت إرهاب العملاء الألمان من الخارج عن طريق إرسال الشحنات الناسفة إلى مكتب بريد المعادى حيث يتجمع العلماء الألمان وكشفت المخابرات المصرية مصدر الرسائل بألمانيا ونجحت فى التصدى للمؤامرة كلها
كما تمكن عبد المحسن فائق من إتمام أول عملية زرع ناجحة لعميل مصري فى قلب المجتمع الإسرائيلي وهو رفعت الجمال الشهير باسم " رأفت الهجان " وهى العملية التى امتدت بنجاح كامل من عام 1956 م حتى انتهت رسميا باعتزال رفعت الجمال عام 1973 م بعد أن أدى واجبه فى حرب أكتوبر ..

وتم تسجيل إسمه فى السجل الذهبي للمخابرات عقب إعلان عمليته إعلاميا باعتبار شبكته هى الشبكة الوحيدة فى العالم حتى الآن التى نجحت نجاحا مطلقا ولم يتم كشفها نهائيا بالرغم من أن النجاح المطلق لا وجود له فى علم زرع العملاء واعترفت إسرائيل مرغمة بهذه العملية عقب إنكارها لبعض الوقت بعد أن ردت المخابرات المصرية بإعلان ملف العملية كله بأسمائه الحقيقية وبعنوان شركة سي تورز التى أسسها الجمال فى تل أبيت باسم جاك بيتون وكذلك صور الجمال مع أرفع شخصيات إسرائيل موشي ديان وجولدا مائير وإدناه مارش وغيرهم

كما تمكنت المخابرات المصرية من إحباط عدد كبير من محاولات الإغتيال للرئيس عبد الناصر أشهرها عملية " جروبي " بالإضافة إلى كشفها لعميل الموساد المميز الهولندى موريس جود الذى تم تكليفه باختراق القوات المسلحة المصرية ..
كما كان للجهاز الفضل الأول فى إحباط عدد من المؤامرات السياسية التى استهدفت سياسة المد العربي التى التزمها الرئيس عبد الناصر وتمثل دور الجهاز فى حمايته من محاولات الإغتيال التى جاءت من دول صديقة وأنظمة حليفة فضلا على قيام محمد نسيم بإنقاذ واحد من أخلص أصدقاء مصر وهو المناضل السورى عبد الحميد السراج الذى تعرض للإعتقال فى سجن المزة عقب قيام الإنقلاب العسكري الذى أطاح بالوحدة المصرية السورية وكان للسراج العديد من الخصوم داخل وخارج سوريا وعندما تمكن من الهرب بمعاونة رجاله لم يستطع تجاوز الحدود وخفت العديد من الأجهزة الأمنية خلفه فسافر محمد نسيم إلى لبنان وتابع خطة تهريبه حتى عاد به سالما إلى مصر

كما أحبطت المخابرات المصرية مؤامرة عملاقة للموساد عندما حاولت إغتيال عبد اللطيف البغدادى وكمال الدين حسين عضوى مجلس قيادة الثورة أثناء تفاقم خلافاتهما مع عبد الناصر بحيث يبدو الإغتيال كما لو كان عملية مدبرة من عبد الناصر للخلاص من زميليه وهو الأمر الذى كان سيهز النظام بأكمله مع حسن التدبير الإعلامى الذى تميزت به المخابرات الإسرائيلية فى أكثر عملياتها ضد الجانب المصري
كما أخذت المخابرات المصرية على عاتقها مهمتين بالغتى الخطورة فى السياسة المصرية عندما تم تكليف الجهاز بتنفيذ مراقبة حرب اليمن ومراقبة النشاط البريطانى بها بالإضافة للمهمة الحساسة التى قامت بها عندما اختصت وحدها بمسألة دعم الثورة الجزائرية بشحنات السلاح وتهريبها تحت أنف الأسد الفرنسي
هذا بالإضافة للدور الإقتصادى التى قامت به المخابرات المصرية أثناء أزمة القمح التى عصفت بالسوق المصري فى فترة نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات والتى تسبب فيها مصطفي أمين الذى نقل للمخابرات الأمريكية تدنى إحتياطات القمح واعتماد مصر على استيراد القمح الأمريكى فاستخدمته الولايات المتحدة كوسيلة ضغط

هذا ملخص بسيط لفترة العشر سنوات التى واكبت بداية الجهاز وحمل مسئوليتها الرعيل الأول والذى تخلف بعضه عن الركب بالإنتقال لمناصب أخرى واستمر الباقون فى مناصبهم وتميز فى تلك الفترة تحديدا كل من عبد المحسن فائق وشعراوى جمعة ومحمد نسيم وصلاح نصر الذى تولى تأسيس الجهاز من جديد وتطوير أجهزته عقب الإنشاء الأول وإليه يرجع الفضل فى الهيكلة الإدارية والنظامية التى اعتمد عليها الجهاز بعد ذلك .. كما تم فى عهده إنشاء مكاتب الجهاز فى أوربا وتنسيق السبل التعاون مع الدول الصديقة

ولا نغفل أيضا أنه فى وسط الإنشغال بالمهام الجسيمة الملقاة على عاتقه ومنها مهام لا ضرورة لتوليها بمعنى وجود أجهزة بديلة فتم التقصير فى مهام من صلب مهامه يعد أخطرها حماية العلماء المصريين بالخارج المتخصصين فى الطاقة النووية والفكر وهم الزمرة التى قصدت البلاد الغربية لمواصلة أبحاثها فكان نصيبها الإغتيال على يد أجهزة الأمن الإسرائيلية والأمريكية فى غيبة من أجهزة الأمن المصرية ومن هؤلاء العلماء الأستاذة الدكتورة سميرة موسي التى تم اغتيالها فى الولايات المتحدة الأمريكية وسبقها عام 1950 م أستاذها الدكتور مصطفي مشرفة وهو كما هو ملاحظ تم اغتياله قبل الثورة فيمكننا إخراجه من مسئولية الأمن المصري
وبعد سميرة موسي التى اغتيلت عقب إعلانها العودة إلى مصر لمواصلة البحوث ودعم الأمن القومى المصري تواصلت الجهود المعادية فاغتالت أيديهم الدكتور سمير نجيب الذى صنفته جامعة " ديترويت " الأمريكية العالم الأنبغ فى اختبارها السنوى من بين مائة عالم أمريكى وبمجرد أن ختم أبحاثه وطلبته الجامعة للاستمرار فيها فرفض و تم اغتياله عن طريق حادثة سير مدبرة
وتبعتهم أيضا الدكتورة سلوى حبيب التى تم اغتيالها بطريقة بشعة فى قلب منزلها بالقاهرة عقب إعلانها عن بحثها الشهير " التغلغل الصهيونى فى إفريقيا " وهو الأمر الذى كان ينبه على خطوات إسرائيل الجادة فى إفريقيا وهى المحاولات التى تمت بالفعل وتمكنت إسرائيل من توطيد العلاقات بينها وبين الدول الإفريقية بما يخدم مصالحها .. فتم اغتيال الدكتورة سلوى حبيب ذبحا فى منزلها بشكل غامض
واستمر التقصير الأمنى مع الأسف الشديد تجاه قضية اغتيال العلماء المصريين حتى بعد تلك الفترة التى يمكن التماس العذر فيها بعدم الإنتباه لهذا الأمر وسط خضم الصراعات ..
فلم يكن هناك دور للمخابرات المصرية فى حماية الدكتور يحيي المشد الأب الروحى للمشروع النووى العراقي فى السبعينيات والذى اغتاله الموساد فى باريس بغرفة فندقه وهو فى رحلة علمية وكان مقيما بالعراق ساعتها وغفل عنه جهاز الأمن العراقي وكذلك الأمن المصري
وتم اغتيال الدكتور نبيل القلينى أحد المتفردين فى علم الذرة والذى أتم أبحاثه فى التشيك ثم تلقي مكالمة غامضة بشقته فى براغ واختفي بعدها تماما فى أحد أيام عام 1975 م
وتتابعت القائمة كذلك باغتيال العالم الفذ الأستاذ الدكتور سعيد السيد بدير الذى احتل بأبحاثه المركز الثالث عشر على مستوى العالم عقب رفضه أيضا للعروض الأمريكية ونيته فى العودة لبلاده فتم اغتياله عام 1988 م ..
وانضم إليهم المفكر المصري العملاق جمال حمدان صاحب الدراسة الخرافية عن مصر التى تم نشرها بعنوان " شخصية مصر " وهى دراسة فى عبقرية المكان الجغرافي وعلاقته بالتاريخ الذى حكم مصر فقتل بشقته فى حريق غامض فى بداية التسعينيات
وكان آخر المغتالين العالم المصري الشاب الدكتور أحمد الجمال الذى تم اغتياله فى النصف الثانى من التسعينيات بالعاصمة البريطانية لندن
وهذا الجانب .. جانب الحماية الأمنية للتقدم العلمى والعلماء المصريين بالخارج لا يزال جانبا غامضا فى مسألة عدم تدخل الأمن القومى المصري لحمايتهم مع الوضع فى الحسبان أن هناك مهمات حماية تمت بالفعل لبعض العلماء والمفكرين المصريين وإن كان لم يعلن عنها بصفة رسمية ..
ومن بين العلماء البارزين الذين أمنتهم المخابرات المصرية الدكتور عبد الوهاب المسيري صاحب موسوعة ( اليهود والصهيونية واليهودية )
كما أنه ترددت بعض الأنباء عن عملية إسرائيلية أحبطتها المخابرات المصرية وكانت تستهدف عملية إطلاق القمر الصناعى المصري الأول " نيل سات ـ 101 "
فجرى تأمينه فى سائر مراحله سواء بفرنسا حيث تم التصنيع أو بأمريكا الجنوبية حيث تم الإطلاق

وعودة إلى الترتيب الزمنى لتاريخ المخابرات المصري فقد أظهرنا المهمات التى تولتها فى العشرة أعوام الأولى لإنشائها وكانت فترة ذهبية تمكن فيها اللواء صلاح نصر من بناء الجهاز على أساس علمى متقدم

أما أبرز إنجازات المخابرات المصرية على الإطلاق وهو الإنجاز الذى وضعها فى زمرة أرقي أجهزة المخابرات فهو نجاحها فى عملية الخداع والتمويه الناجحة لحرب أكتوبر وتمكنت من إحكام قبضتها على الإستعدادات العسكرية بخطة طويلة المدى رغم الإمكانيات الهائلة التى يتمتع بها جهاز المخابرات الإسرئيلية والأمريكية والأقمار الصناعية التى ترقب كل شاردة وواردة ,
ومع ذلك وقع كلاهما فى الفخ وكان آخر تقرير بعثت به الموساد لجولدا مائير ـ قبيل الحرب بساعات ـ أن الحرب الشاملة غير متوقعة إطلاقا وجزم بذلك إيلي زاعيرا مدير الموساد وقتها , ولم تمض ساعات حتى كانت الطائرات المصرية تدك حصون العدو فى سيناء لينتهى مصير جيل كامل من أجيال الموساد بإحالته للتقاعد
وبالمثل طلب هنرى كيسنجر تقريرا فى الخامس من أكتوبر ـ قبل الحرب بيوم ـ من المخابرات المركزية عن إحتمالية الحرب فجاء رد المخابرات بالنفي المطلق
!!

ويراجع الإعتراف العلنى بالهزيمة من الجهازين فى مذكرات إيلي زاعيرا المنشورة باسم ( حرب يوم الغفران ) , وكذلك مذكرات هنرى كيسنجر المنشورة بعنوان ( سنوات القلاقل )
وأيضا تقرير لجنة أجرانات المنشور باسم ( المحدال ) أو ( التقصير ) وهو التقرير الذى أصدرته لجنة التحقيق المشكلة من الكنيست مع قادة أسرائيل ,
ومن الملاحظ بالطبع أن الظلم الأول الذى تعرض له جهاز المخابرات فى بدايته تمثل فى أنه لم يواجه ظروف عادية فى بداية تكوينه بالإضافة إلى أنه تعرض لظلم المواجهة عندما نزل للساحة دون أى وقت كاف للتدريب بالرغم من مواجهته لعمالقة الأجهزة العالمية فى التخابر فى ظل نظام سياسي تحيط به العواصف ويواجه تحديات خارجية وداخلية تعجز أمامها أجهزة الدولة التقليدية ..
ومع ذلك كانت نسبة نجاحه فائقة ..