الموضوع: أنا و أختي
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
7

المشاهدات
3482
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
08-25-2013, 06:01 PM
المشاركة 1
08-25-2013, 06:01 PM
المشاركة 1
افتراضي أنا و أختي
جم غفير أمام الشباك الوحيد ، العيد المصادف لنهاية الشهر على الأبواب ، كل ينتظر دوره للاغتراف من سيولة نقدية من هذا الينبوع ليطفئ بها ظمأ الحاجة ، و يسد بها بعضا من ثقوب حياته و أسرته وأقاربه . هذا ينتظره أطفاله على عجل ليرسم البسمة على وجوههم بفساتين وبذلات جديدة ، يمسح بها اصفرارا وذبولا علا ملامحهم و هم يقتاتون على بقايا موائد الإفطار والسحور طيلة شهر كامل ، المواقد أضربت عن العمل نهارا وقد عشش اليأس والتهاون والكسل في نفوس الآباء والأمهات . هذه تنتظر حوالة من ابنها المهاجر لتعلن فرحة العيد في غيابه ، و تشارك المتسوقين نشوة التنافس و حمل القفاف الثقيلة إلى البيوت . ذلك يأمل أن يكون راتب تقاعده الهزيل مدعاة قوامة في بيت يفقد فيه هيبته مع توالي الأعوام . عيونهم راسية على الجالسة أمام الشاشة ، هي بدورها تتأمل الفوضى التي تعم المكان ، من حين لآخر تنهر الرؤوس المشرئبة نحوها مشتكية من إغلاقها لممرات نسمات الهواء التي يقذفها المكيف ، و متذمرة من غزو الزبائن لوكالتهم التي لم تستطع نجدتها بمساعد ساعة الشدائد .
أختي شابة متحمسة متهورة ، مع اكتظاظ المكان بدأت عصبيتها تغلبها ، مرة تتزاحم مع الجمع ومرة تغادر المبنى لتستنشق هواء لعله يكون منعشا ، في هذا اليوم الذي اشتعلت حرارته منذ الصباح الباكر . وضعت بطاقتي على المنضدة المرمرية الطويلة التي تصطف فيها البطائق متراصة في التواءات حية استوائية .
نظرت جهة الباب مرتقبة إطلالة أختي فلمحته واقفا بالباب يتأمل المكان كما لو أنه يستكشفه لأول مرة ، ربما أذهلته الجموع المتدافعة داخل الوكالة و الجالسة على طول حائطها الظليل خارجها ، لم تتغير صورته كثيرا رغم ترادف الأعوام بعد الأعوام ، عشرون سنة و ما يزيد على أولى لحظات الأحلام ، كلما رأيته اختلت وقفتي ومشيتي وجلستي ، كان يملأ حياتي نشوة و متعة ، يسقيني من رحيق كلامه العذب ، يراقص أحلامي و يملأ نفسي حبورا وبهجة ، أزهرت حياتي ربيعا فتانا لأعوام بين يديه ، يملكني وأملكه ، في لساني مفاتيح أحلامه ، وفي عينيه نور دروبي . تقاطعت عيناي مع عينيه فرأيت فيهما استغرابا ، أطال التحديق وتقلص بؤبؤ عينيه ، تراه فقد نظره الثاقب ، أم تراني فقدت الكثير حتى استعصى عليه تعرف حروفي . أحسست بدوخة رمضانية ، تقدمت رجلاي نحو الباب خرجت غير قادرة على رفع بصري نحوه ، تذكرت آخر ما وقع ، حاولت إصلاح ما جرى بيننا ، حاولت إعادته إلي ، كم هو قاس قلبه الذي لا يغفر .
أختي جالسة في الظل و مددت رجليها و قد تمكن منها الصوم و خدر بعضا من وعيها و أفقدتها الحرارة و طول السهر بعضا من رشدها ، تقدمت نحوها فقالت : " أما تزال تلك المغرورة تصرخ في وجه الزبائن ؟ هذا غير مقبول ! " همست لها بود : " إنها معذورة و قد طوقوها و أحكموا خنقها " فقالت أختي : " هذا عملها يجب أن تعمل في صمت "
رجعت فوجدته باق في مكانه سلمت عليه ، فرد علي التحية بأدب و سمو مبالغ فيه ، تراه يستذر عطفي وحناني ، أم يكفر عن غلظته ، أم لا يزال يستخف بمشاعري التي أحياها وأماتها و كفنها وأقبرها مرارا وتكرارا في جوفي الأبله و روحي الساذجة ، تراه حقا سعيد مع تلك التي منحته أبناء وبنات ، تراه راض عن حياته أم أنه فقط يتقن لعبة نفاق الآخر و الدنيا ، مظهرا مشية الحمام وهو في نفسه زحاف بالكاد يعرج .
وضع بطاقته في ذيل الترتيب ، وغادر المبنى ، ربما له حاجة إدارية يريد أن يقضيها ثم يعود لسحب ما يريده من الشباك ، غاب فتبعته إلى الخارج ، ما أغبى قلبي ! قد أكون في حياته حدثا تافها ثانويا ، لا يكاد يحرك قلبه المجبول على النسيان و مسح ما يوجع الذاكرة و يثقلها . وجدت هناك أختي التي قالت : " أتعرفين رأيت شابا وسيما ، عيناه تحملان شيئا غريبا ، لا أعرف لماذا أحسست بقلبي تغير إيقاعه عندما استقر نظري على نظرته الوديعة و بسمته الجميلة ." حرقت الموضوع ، أنا التي لذغت من جحور الحب و ضاع عمري سدى في بحر الهيام و الخيال قائلة : " ماذا ستشترين في العيد ؟" فقالت أختي : " أن عاد الرجل إلى المكتب سأهدي له هدية بمناسبة العيد فما رأيك ؟ " فقلت لها : " أنت مجنونة " ثم دخلت إلى المبنى وأنا أنتظر إعلان إسمي .
رجع وهو يحمل في يده كيسا ملأه أشياء تمنيت أن أعرفها ، تراه يحمل هدايا كانت ستكون من نصيبي لولا لعبة القدر ، و مشيئة خارقة تعاكس فينا الطموح ، دخلت أختي وراءه متجهة نحوي : ثم توجهت بأصبعها نحوه . " أترينه يا أختي ، إنه جذاب ، سأذهب و أسحبه خارج الوكالة ، وهناك سنضع النقاط على الحروف " كشرت في وجهها وأنا أقول : انتظري يا مجنونة ، ربما تكون ابنته في سنك فأنا أعرفه "
سمعت إسمي فسحبت نقودي و أختي خارج الوكالة ، و هربت منه ، ذهبنا نتبضع للعيد و صورته لا تزال تملأ عينيّ ، و بين الفينة والأخرى ، تقول أختي : " لعلك تكذبين ."