الموضوع: صفحتي الهادئة
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-10-2013, 09:32 PM
المشاركة 16
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


عالم مختلف عن المسجد الذي تعودت عليه ، حيث الفقيه يتوسط كوكبة من التلاميذ الذين يضج بهم المكان ، هذا بصوته الغليظ و ذاك بصوت طفولي والآخر بنغمة أنفية لا تميز تقاسيم كلماته ، وذلك سريع في تلاوته و الآخر لا يزال يفك شفرات الحروف ، فيخفت صوتهم شيئا فشيئا ويبدأ الصغار في الكلام والمزاح و الكبار في الغمز و الحركات البهلوانية لينخرط الصغار في قهقهات توقظ الفقيه من استراحته فينهر الجميع ليتعالى الصوت من جديد في صخب ممزوجا بصيحات و بكاء من وصلت إليه عصا الفقيه الطويلة التي لا يكاد يسلم منها الصغير الكبير رغم أن الكل يحتمي بلوحته الخشبية كما يحتمي الفارس من السيف بذرعه . الفقيه ذلك الشبح الذي يرتسم في ذهن كل أطفال القرية ، أبي كان يجبرني على أخذ السجاد لأستعمله اتقاء البرد لكن خوفي من الفقيه أعظم ، فكل التلاميذ لا يفترشون غير الأرض الجرداء ، يستقبل المسجد التلاميذ مع الخيوط الأولى للفجر فتسمع همس الأطفال وهم يرتدون جلابيبهم الصوفية و يتخلص من أحذيته قبل دخوله لرحبة الدرس ، فيعانق لوحه المعلق على مسمار في غرفة اسودت جدرانها وسقفها بدخان ينبعث من حفرة تتوسطها تستعمل كموقد يعلوه إناء من الماء الدافئ معلق بقضيب معدني مثبت في سقف الغرفة . هذه الغرفة هي مجمع ومجلس شباب القرية يستدفئون بموقدها و فيها تلقى نشرات أحداث الدوار والقرى المجاورة وكذا السوق الأسبوعي ، فهذا يتحدث عن ثمن الغلال و وذاك عن مرض فلان والآخر عن عرس مرتقب وهم ينتظرون صلاة العشاء أو موعد النوم . كل أسرة تتكفل بإيقاد الموقد يوم تطعم فيه الفقيه الذي يتنقل عبر البيوت حسب عدد الأسر في تتابع وتوال محكم ، الفقيه هبته كبيرة ، و موضعه أعظم ، فهو الحكم والقاضي و المشرع والفيصل في المنازعات وهو الطبيب المداوي لكل العلل ومن يحضر الغائب و قارئ الرسائل و العقود و كاتبها .
قبل أن يعم الصباح يكون الأطفال قد استكملوا حلقتهم و راجعوا ألواحهم فيتقدمون واحدا تلو الآخر للاستظهار و كل تلعتم تسبقه صفعة الفقيه و ركلاته و كلما عجز المتقدم عن الاستظهار تأخر عن غسل لوحته و وضعها أمام أشعة الشمس الأولى لتنشفها استعدادا لكتابة الجزء الموالي من النص القرآني عن طريق الإملاء فترى الفقيه موسوعة قرآنية تملي الجمل حسب الطلب وعند استكمال الإملاء يأتي دور الفقيه لتصحيح أخطاء الكتابة ، فالويل كل الويل لمن فاتته قاعدة إملائية على هدى الرسم العثماني من ألف محذوفة أو مثبتة أو مد ، أو وقف وغيرها ، فكلما تقدمت في السن و الحفظ كلما كانت انتظارات الفقيه كبيرة ، كل من كتب لوحته وصححها يمكنه الذهاب إلى منزله لتناول طعام الإفطار ليعود ويحفظ ليستظهر جزءه قبل الظهيرة .
المدرسة مختلفة ، المعلمة بصوتها الرقيق الذي يداعب مسامعنا برفق ، تكتب الحرف ثم تكرره مرات و مرات عديدة ، تأمرنا بالنظافة وارتداء الملابس الجديدة و النظيفة ، تعلمنا الجلوس و القراءة و توقظ فينا المنافسة ، تعلمنا الحساب والألوان والرسم ، تعلمنا الإنشاد والقرآن ، ما إن اعتدنا على المدرسة حتى بدأنا نفر من المسجد و بعد أعوام بدأنا نعصي أوامر الفقيه ونستشعر قصوره أمام القدوة الجديدة في حياتنا .
قضينا سنتين مع المعلمة كانت أما رؤوما ، هي من غرست فينا حب المدرسة والتعلم ن كانت كتلك الشمعة الوهاجة تحترق لتضيء لغيرها ، تركت بصمات لا تمحى في ذاكرتنا ، أذكر كيف شخصت العذراء وهي تحمل المسيح إلى قومها ، و كيف شخصت دور المسيح ذلك الوليد الذي تكلم بصوت طفولي ينساب من حلق المعلمة كما لوكانت هي نفسها المسيح والعذراء ،. حضرنا مجلس الرسول عندما جاءه جبريل يعلمنا الإسلام والإيمان والإحسان والساعة ، رأيناه بجماله الملائكي ، كانت تشرح لنا الشيء فتجعلنا نراه رأي العين ، إنه كلام نابع من القلب فتتلقفه القلوب الصغيرة بحب وقبول .