الموضوع: الحديقة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
7

المشاهدات
3134
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
06-05-2013, 06:08 PM
المشاركة 1
06-05-2013, 06:08 PM
المشاركة 1
افتراضي الحديقة
فقد برنامج يومه ، يرتشف من كوب فطوره المتأخر على غير عادته ، يقضم من كسرة خبز بعد دهنها بزيت الزيتزن ، عيناه على الساعة التي تجاوزت عقاربها العاشرة ، بدل ملابسه وباله مشغول بسجارته متى يلقمها وقد ألزم نفسه التدخين خارج البيت ، وجد نفسه يبتعد عن منزله في دروب ضيقة بخطوات ثقيلة ، ينفث دخان التبغ في الهواء كقاطرة بخارية ، الحركة عادية والبقالون يشرون النعناع و السكر والخبز لزبنائهم ، يتزاحم الصغار أمام الدكاكين وهم يقتنون الحلويات ، بائع السمك يدفع عربته المكدسة بصناديق الحوت مطلقا صيحات مميزة تتلقفها أذان الأطفال مرددينها كالصدى ، التقطه الشارع فرمى عقب سجارته التي تتعبه ماشيا في وعاء قمامة أفرغه عمال النظافة للتو ، أخذ يستكشف المكان كغريب عن الديار ، السيارات بين غدو ورواح متواصل ، الحافلات ينقلن المصطفين في المحطات ، المقاهي رصت كراسيها و شاشاتها تنقل آخر الأخبار ، مر بجانب الكشك فتسللت أصابعه إلى جيبه دافعا ثمن جريدته ، لفها مواصلا سيره وهو على ثقة أن أحد المقاهي هو من سيستر تشرده ، متجر بجانب متجر لم تغره يوما لمعرفة محتوياتها ، هذا للأدوات الكهرباية والآخر للألبسة بينهما مستودع للتجهيزات المنزلية ، صيدلية و محل تجميل ، حلاق فبائع أشرطة ، كلما تقدمت خطواته تغيرت وظائف الدكاكين فانشغل بالمارة ، هذه عجوز تتحدى ثقل السنين ، وهذا حرفي يحمل بعض سلع ، وتلك شابة تتلاحق أقدامها بخفة ورشاقة وهي تميط شعرها المنسدل على كتفيها عن عينيها ، هذا شاب يحمل ملفا وحذاؤه يصفع الرصيف المبلط بثبات ، نسوة يحملن قفافا و ولدان ينطون حولهن ، أحس عجرا عن مجاراة كل هؤلاء ، فواصل مشيه بدون اكتراث ، مر أمام السينما والمسرح البلدي و دار الثقافة ليصل أخيرا إلى باب الحديقة التي ستريحه من تعب نال منه و من أشعة شمس بدأت تؤرقه ، هي من ستؤنس وحشته بازهارها المنعشة وطيورها المغردة و ظلال أشجارها الوارفة و اخضرار أعشابها المهذبة .
رمى جثته على أحد المقاعد متصفحا عناوين جريدته ، حروب مستعرة ، انتفاضات متوالية ، تعسفات مسؤولين تظلمات مواطنين ، فسحة أدبية ففنية و صفحات رياضة ، أخذ قلمه هاما بملء شبكة الكلمات المسهمة حين استوت يافعة بالطرف الآخر من المقعد الطويل الذي يأويه ، افترست مقلتاه الحديقة بلمحة سريعة فوجد الكراسي أغلبها شاغرة ، تساءل في نفسه إن كان بلده تجاوز عقدة الاختلاط ، نظر إليها بزاوية عينيه فوجدها منغمسة في كتاب لم يتسن له معرفة فصيلته ، فجالت في ذهنه أفكار سريعة ، أفاتحها ، أتجاهلها ، ربما ترغب بشيء ... رجع بذهنه إلى شبكته ينسج فيها حروفا متناغمة و هاتف الفتاة لا تكاد تهدأ رناته ، دغدغه هذا الأسلوب العجيب في التواصل ، رنة برنة ، وتساءل كم تحمل هذه الرنة التي يستصغرها بين نوتاتها من تعابير و أساليب و مواويل لا يفقهها من أوتي جوامع الكلم و سحر الخطاب .
ـ عذرا هل أعينك على تعبئتها ؟
ـ طبعا من دواعي سروري .
ـ هيا اقترب .
صافحها وقدم لها القلم واكتفت بالإملاء عليه ، بينما تتصفح الجداول راصدة ما كتبه و مستكشفة ألغازها انساق إلى عطرها الفواح و عيناه تموضعتا على خاتم يسرج بنصرها الطويل مشكلا نواة لوحة فنية رسمها رسام في لحظة إلهام نادرة ، تذكر ليونة ملمسها فلم تسحب يدها من المصافحة إلا حين اكتشف أن قبضته دامت أكثر من اللازم ، كل جزء فيها يشده إليها شدا ، قطعت عليه حلمه الجميل حين انطلق لسانها بنغمته الفريدة الملامسة للأسنان :" أنت بارع ، لم يتبق غير بعض كلمات ربما وجدت واحدة ، لاحظ هذه حديقة " فرد عليها : " أنت ذكية جدا هذه الكلمة هي مفتاح الباقي " فقالت : " أعرف ،فواصلت ، هل أنت من رواد الحديقة ؟" فأجابها : " كنت من سكانها في زمان ما " فواصلت :" أنا مغرمة بها ، لا يمر يوم دون أن أطمئن عليها " فوافقها : " كنت أيضا مولعا بها " فتذاكت عليه : " أتقصد أني يوما سأتركها " فأكد : " ربما كلنا نتغير " .
تتناسل الأسئلة من فمها و عيناها تحملان بريقا لم يره منذ أمد بعيد ، تحاول سبر ما يختلج في دواخله ، و فضح ما يجوب خواطره ، فيجيب إجابات تجعلها تائهة في بحر السؤال لتخلص في الأخير بحزم : " ألا أعجبك ؟" ابتلع ما جاد به فمه من ريق و صارحها : " ماذا أقول ، أنت ملاك يا صبية ، أوتيت الحسن والذكاء والرقة والبشارة ، كل شيء فيك يمزق رصانتي لكن أرجوك لا تكثري علي ، فأنا لا أملك مما ترينه أمامك شيئا ، اليوم غادرت لتزور أهلها وليتها ما فعلت " أحست بما يجترح قلبه فطمأنته : " طوبى لها ، فقد اختارت من يحفظ عهدها و يكبر بحبها فسلاما أخي سلاما ".
غادرت الحديقة ولم تلتفت ، وصاحبنا ينتظر غيابها ، فهرول إلى بيته وهو يسترجع شريط الصباح الذي كاد يذكي في نفسه أشجانا حسبها لن تعود وقد نال التي يبغي .