عرض مشاركة واحدة
قديم 05-17-2013, 01:02 PM
المشاركة 44
احمد ابراهيم
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
ان ما تحتاجه البشرية اليوم ، بصورة أساسية ، هو إطار توجيه ، و نموذج إرشاد كلى و شامل ، تقيم عليه تصورها الأساسي للكون ، و للحياة ، و تسترشد به ، فى جميع نشاطاتها الفكرية و الحياتية ، وفق أهداف و غايات كلية ، تقوم على طبيعة الوجود ، و على الطبيعة البشرية ، و هذا أمر تهيأت البشرية له ، بالحاجة اليه ، و الطاقة به ، لأول مرة فى تاريخها ، بفضل الله ، ثم بفضل التطور الهائل ، الذى حققته الحضارة الغربية السائدة ..

و السمة الأساسية لإطار التوجيه المنشود ، هى (الوحدة) ، التى تعطى إطارا مشتركا لجميع الخلائق ، بله البشر ، و تجعل التمايز الفردي ممكنا ، و فعالا ، فى إثراء الحياة البشرية ، ثم هو لا يستوجب تمييزا ، لا فى اصل الطبيعة ، و لا فى إطار القانون عند البشر ..

و قد اصبح الشعور بالوحدة ، فى المجال الكوزمولوجى مشعورا به بشدة ، نتيجة للتطور العلمى ، الذى رد كل صور المادة إلى الطاقة ، و رد كل الكون المادى ، إلى بداية واحدة مشتركة ، و اصل واحد مشترك ، كما تشير إلى ذلك نظرية الانفجار العظيم ..

كما ان هنالك فى مجالات العلم المادى التجريبي ، شعور قوى ، بان هنالك قانون واحد يحكم الكون كله ، و البحث جارى عن معرفة هذا القانون ، أو النظرية التى تفسر كل شئ "نظرية كل شئ" ..

كما ان المحاولات جارية ، فى الربط و التوحيد ، بين القوى الأربعة : الجاذبية ، والكهرومغناطيسية ، و الذرية القوية ، و الذرية الضعيفة ..

اما على مستوى البشر ، فان الوحدة على مستوى الكوكب الأرضي ، قد تحققت جغرافيا ، بصورة تكاد تلغى الزمان و المكان، و هذه الوحدة تطالب بمظاهرها فى الجوانب الإنسانية المختلفة ..

و ما "العولمة" إلا استجابة الحضارة الغربية ، لمقتضيات هذه الوحدة ، و تعبر عنها فى إطار قيم هذه الحضارة، و إطار التوجيه فيها ..

و لكن "العولمة" كاستجابة لتحديات "الوحدة" ، محاولة فاشلة ، و قاصرة اشد القصور ..

لان التصور يرجع إلى طبيعة الإطار المرجعي لهذه الحضارة ، فمن المستحيل ان تفضى الحضارة الغربية إلى الوحدة المنشودة ، دون ان يكون هنالك تغيير أساسى فيها، و فى إطارها التوجيهي بالذات ..

وما نقرره هنا كقضية جوهرية، بالنسبة للخلل، فى جوهر إطار التوجيه للحضارة الغربية، هو على الرغم من ان الحضارة الغربية نفسها ، و عن طريق العلم المادى التجريبي ، توصلت إلى ان المادة ، كما تظهر لحواسنا ، ليست هى اصل الكون ، بل هى غير موجودة أساسا ، إلا بالنسبة لخداع حواسنا ، و ما هى فى الحقيقة إلا مظهر لشئ وراءها هو "الطاقة" >

على الرغم من ذلك ، لا زالت الحضارة فى جوهرها ، حضارة مادية !! هى مادية فى تصورها لطبيعة الكون ، و للإنسان ، و للحياة ..

فالمادية تشكل جوهر الإطار المرجعى لهذه الحضارة ..

و هذا إطار لم يعد يصلح لتوجيه الواقع الحضارى الجديد الذى نعيشه اليوم ، فلا بد من إطار مرجعي جديد ، يتجاوز هذا الإطار ، دون ان يلغى الجوانب الإيجابية فيه ، و ذلك بوضع المادية فى إطارها ، كمظهر ، و كوسيلة ، لما ورائها .

و اهم ما هو مطلوب ، من الإطار المرجعى الجديد ، ان يؤديه ، هو ان يعطى الوجود معنى كليا ، و يعطى الحياة معنى كليا ، و هدفا كليا ..

فغياب المعنى و الهدف الكلى ، هو أساس أزمة الحضارة القائمة ، و هو ينعكس على كل شئ فى حياة الإنسان ، و يحد من قيمة اى نشاط حياتى ، أو فكرى ..

فإذا كانت الأهداف غير محددة تحديدا واضحا ، و لا يوجد تمييز واضح بين ما هو غاية ، و ما هو وسيلة ، لا بد للحياة البشرية ، و للفكر البشرى ، ان يكون مضطربا ، و هذا هو حال الواقع الحضارى القائم .

كل الناس يشعرون ، بمشكلة غياب المعنى ، فى حياتهم ، على تفاوت بينهم فى ذلك .. و لكن الأذكياء ، من أبناء الحضارة ، عبروا عن الأزمة ، و حدودها بوضوح ، على سبيل المثال ، يقول المحلل النفسى أريك فروم " لم يقترب الإنسان فى يوم ما من تحقيق اعز أمانيه ، مثلما اقترب اليوم .. فكشوفنا العلمية ، و إنجازاتنا التقنية ، تمكننا من ان نرى رأى العين اليوم الذى تمد فيه المائدة لكل من يشتهون الطعام ، اليوم الذى يؤلف فيه الجنس البشرى مجتمعا موحدا ، فلا نعود نعيش فى كيانات منفصلة ، و قد اقتضى الأمر آلاف السنين حتى توجت على هذا النحو ، ملكات الإنسان الذهنية ، و قدرته النامية على تنظيم المجتمع و تركيز طاقاته ، تركيزا هادفا ، و هكذا خلق الإنسان عالما جديد له قوانينه الخاصة و مصيره ، فإذا نظر إلى ما أبدعه ، حق له ان يقول ، ان هذا الذى أبدعه ، شئ حسن " ... و يواصل ليقول " ولكن ماذا يقول إذا نظر إلى نفسه ؟

هل اقترب من تحقيق حلم آخر للبشر ، هو كمال الإنسان ؟ الإنسان الذى يحب جاره ، و يحكم بالعدل ، و ينطق بالصدق ، محققا ماهيته ، اى ان يكون صورة للإله ؟ ..

إثارة السؤال تدعو للحرج ، لان الإجابة واضحة وضوحا أليما .. فبينما خلقنا أشياء رائعة ، أخفقنا فى ان نجعل انفسنا جديرين بهذا الجهد الخارق ، فحياتنا حياة لا يسودها الإخاء و السعادة ، و القناعة ، بل تجتاحها الفوضى الروحية و الضياع الذى يقترب اقترابا خطرا من حالة الجنون " ..

إلى ان يقول " و لكن هل سيسمع أطفالنا صوتا يرشدهم إلى ما يتجهون، و ما الهدف الذى يعيشون من اجله، أنهم يشعرون على نحو ما، كما يشعر الناس جميعا، انه لا بد للحياة من معنى، و لكن ما هو؟

هل يجدونه فى المتناقضات ، و فى الكلام المزدوج الدلالة ، و فى الاستسلام السافر الذى يلتقون به عند كل منعطف؟

أنهم مشوقون إلى السعادة و العدالة و الحب ، و إلى موضوع للعبادة ، فهل نحن قادرون على إشباع شوقهم ، عاجزون نحن مثلهم ، بل أننا لا نعرف الإجابة ، لأننا نسينا حتى ان نسال السؤال ، و نزعم ان حياتنا قائمة على أساس متين، و نتجاهل ظلال القلق والهم و الحيرة التى تغشانا فلا تريم " ..

و من اهم ما قاله فروم ، فى هذا الصدد، مما له علاقة بالوحدة، التى نتحدث عنها، و عن تشخيص أزمة الحضارة ، قوله " و ينشئ التنافر أو انعدام الانسجام ، فى وجود الإنسان حاجات تتجاوز حاجات اصله الحيواني تجاوزا بعيدا ..

و ينتج عن هذه الحاجات دافع قاهر لاستعادة الوحدة ، و التوازن بينه و بين بقية الطبيعة ، ويحاول استعادة هذه الوحدة و التوازن فى الفكر بادئ الأمر، و ذلك بتشييد صورة ذهنية جامعة all inclusive للعالم تكون بمثابة إطار للإشارة ، يستطيع منه ان يستمد الإجابة على السؤال الخاص بموقفه ، و ما ينبغى عليه ان يفعله ، بيد ان مثل هذه المذاهب الفكرية ليست كافية ، فلو كان الإنسان عقلا مجردا عن الجسم لبلغ غايته بمذهب فكرى شامل ..

و لكن ما دام الإنسان كيانا له جسم و عقل ، فلا مناص من ان يواجه ثنائية وجوده لا بالتفكير فحسب ، بل بعملية الحياة أيضاً ، و بمشاعره و أفعاله ، و عليه ان يسعى جاهدا إلى تجربة الاتحاد و الوحدة فى كل مجالات وجوده ، كى يصل إلى توازن جديد " ..

هذا تصور رائع ، جوهرى ، و متكامل ، لمشكلات الإنسان المعاصر ، و أشواقه ....

يتبع