عرض مشاركة واحدة
قديم 04-17-2013, 10:40 AM
المشاركة 28
احمد ابراهيم
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
العقل هو القوة الدراكة فينا .. و هو لا يختلف عن الجسد اختلاف نوع ، و إنما هو يختلف عنه اختلاف مقدار .. فالعقل هو الطرف اللطيف من الحواس .. و الحواس هى الطرف اللطيف من الجسد .. و إنما بصهر كثائف الجسد تحت قهر الإرادة الإلهية ، ظهرت لطائف الحواس ، ثم لطائف العقول ..

لقد امتازت المرحلة الثالثة من مراحل نشأة الإنسان بظهور العقل ، و لم يكن العقل غائبا عن المرحلتين الأولى و الثانية ، لكنه كان كامنا كمون النار فى الحجر ، ثم صحب بروزه من الكمون إلى حيز المحسوس ،

هذه المرحلة الثالثة .. و عن حركة بروز العقل يخبرنا تعالى بقوله ( انا خلقنا الإنسان من نطفة ، أمشاج ، نبتليه ، فجعلناه سميعا بصيرا * انا هديناه السبيل ، اما شاكرا ، و اما كفورا ) ..

قلنا ان النطفة الأمشاج ، تعنى الماء المخلوط بالطين ، ذلك عند ظهور الحياة بالمعنى الذى نعرفه ، و لا تزال الحياة فى القاعدة تستمد من هذا المصدر .. ثم أخذت الحياة تلد الحياة بطريقة أو باخرى، و ذلك فى مراحلها الدنيا، قبل ان تتطور و تتعقد، و تبرز الوظائف المختلفة للأعضاء، و للأنواع ..

و قبل ان تبرز الأنثى بشكل مستقل عن الذكر .. ثم عندما ارتقت الحياة، و توظفت الوظائف .. أصبحت الحياة تجئ من التقاء الذكر بالأنثى، و أصبحت النطفة الأمشاج تعنى ماء الفحل المختلط ببويضة الأنثى .. و السر كل السر فى عبارة " نبتليه" ، لأنها تشير إلى صهر العناصر فى الفترة التى سبقت ظهور المادة العضوية ، و تشير إلى صراع الحى مع بيئته الطبيعية .. قلنا ان ان " سميعا بصيرا " تعنى بروز الحواس فى الحى ، الواحدة تلو الأخرى ..

و نحن لطول ما ألفنا الحواس ، نتورط فى خطا تلقائي ، إذ نظن ان الأحياء قد خلقت و حواسها الخمس مكتملة .. و الحق غير ذلك .. إذ ان أدنى درجات الحياة ان يشعر الحى بوجوده .. و ليس فيما دون هذا الشعور حياة .. و يوجب هذا الشعور بالوجود إحساس الحى بالحر ، و بالبرد ، وبالألم .. و جاء من هذا الإحساس الحركة من الحر المضر ، و البرد المضر ، و من كل الم ، و إلى كل لذة ممكنة .. و بوحي من الفرار من الألم ، و السعى فى تحصيل اللذة ، جاءت القدرة على تحصيل الغذاء و الالتذاذ به ، و القدرة على التناسل و الالتذاذ به ... فى البدء كان اللمس بالجسم كله - بالجلد - ثم لما توظف الجلد فى الوقاية ، خصصت بعض الأجزاء للمس .. ثم ارتقت وظيفة الحس لما احتاج الحى للمس ، و الخطر على البعد ، فامتدت هذه الوظيفة امتدادا لطيفا ، فكان السمع ، ثم كان النظر ، ثم كان الذوق ، ثم كان الشم .. و ليس هذا ترتيب ظهور للحواس ، ولا هو ترتيب اكتمال .. فان بعض الأحياء ، يحتاج لحاسة معينة أكثر من احتياجه للاخريات ، فتقوى هذه على حساب أولئك ، مع وجود الأخريات بصوره من الصور ..

اما بروز لطيفة اللطائف - العقل - فتحكيها الآية ( انا هديناه السبيل اما شاكرا و اما كفورا ) .. " اما شاكرا و اما كفورا " تعنى انا هديناه إلى الشكر عن طريق الكفر ، أو قل إلى الصواب عن طريق الخطأ ..

و اليه أيضاً الإشارة بقوله تعالى ( الم نجعل له عينين؟ * و لسانا و شفتين ؟ * و هديناه النجدين ؟ ) .. قوله " الم نجعل له عينين" إشارة إلى الحواس جميعها " و لسانا و شفتين " إشارة إلى العقل ، فانه هنا لم يعنى باللسان مجرد الشريحة المقدودة من اللحم ، و التى يشارك الإنسان فيها الحيوان .. و إنما أشار باللسان إلى النطق باللغة ، و لذلك ذكر الشفتين لمكانهما من تكوين الأصوات المعقدة ، المختلفة، التى تقتضيها اللغة .. و اللغة ترجمان العقل و دليله ..

ثم قال " و هديناه النجدين " .. اصل النجد ما ارتفع من الأرض .. و " النجدين" الطريقين .. طريق الخطأ و طريق الصواب .. و لقد هدى الله الإنسان الطريقين .. فهو يعمل ، فيخطئ ، فيتعلم من خطئه ، و حين هدى الله الإنسان النجدين ، لم يهد الملائكة إلا نجدا واحدا ، و هو أيضاً لم يهد الشياطين إلا نجدا واحدا .. ذلك انه تبارك و تعالى ، خلق شهوة بغير عقل ، و ركبها فى الشياطين ، و من قبلهم إلى أعلى الحيوانات ، ما خلا الإنسان ، فهم يخطئون و لا يصيبون ..

و خلق عقولا بلا شهوة ، و ركبها فى الملائكة ، فهم يصيبون و لا يخطئون .. ثم جعل الإنسان برزخا تلتقى عنده النشاتان ، النشأة السفلية ، و النشأة العلوية ، فركب فيه الشهوة ، و ركب فيه العقل ، و أمره ان يسوس شهوته بعقله .. فهو فى صراع لا يهدأ بين دواعي الشر و دواعي الخير .. بين موحيات الخطأ و موجبات الصواب ..

و لمكان عزة هذه النشأة قال نبينا عليه افضل الصلاة و أتم التسليم "" ان لم تخطئوا و تستغفروا ، فسيأت الله بقوم ، يخطئون ، و يستغفرون ، فيغفر لهم "".... و عزة هذه النشأة ، فى مكان الحرية فيها .. لان حق الخطأ هو حق حرية ان تعمل ، و تخطئ ، و تتعلم من خطئك كيف تحسن التصرف فى ممارسة حريتك .. و الحرية هى روح الحياة .. فحياة بلا حرية أنما هى جسد بلا روح .. و يكفى ان نقول ان الحرية هى الفيصل بين حياة الحيوان و حياة الإنسان ...

يتبع