عرض مشاركة واحدة
قديم 03-30-2013, 07:33 PM
المشاركة 3
عبدالله باسودان
أديـب وشاعـر

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي الشعر بيت التلوث والفقدان
تابع حول " الشعر بين التلوث والفقدان

وإذا كان الشعر والنثر جميعًا من عمل العقل فمن المستحيل أن نميز الشعر من النثر إلا بالوزن العروضي فقط، إذ إن الفرق بينه وبين النثر ما هو إلا الموسيقى، وعلى هذا الأساس نقول أن الشعر عند المقلدين ما هو إلا صناعة، والصناعة لا تأتي إلا عن طريق العقل. وصدق قدامة بن جعفر وأبو هلال العسكري (في كتابيهما"نقد الشعر"و "كتاب الصناعتين) .
فمثلاً عندما يخاطبنا شوقي ببيته الشهير
وما نيل المطالب بالتمني *** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
نجد أن كل عصب في البيت مزدحم بكل ما هو فكري فلو قال ناثر : ليس نيل المطالب هو أن نتمنى وإنما هو أن تؤخذ الدنيا غلابا ، نجد أن لا فرق بين قول الناثر وبيت شوقي إلا في الوزن والقافية فقط فأين الشعر هنا في قول شوقي ، أو قول العقاد في البيت الآتي :
يا جوهر الحسن لا تضعني *** لديك بالموضع المهان

فبيته ما هو إلا خطاب اعتيادي بمقدور أي ناثر عادي أن يقوله لأن روح الأصالة الشعرية الحقة ذات الأبعاد النافذة إلى أعماق اللامادي منعدمة كليًا من كل أعصاب هذا البيت ولأن لا فرق بين قول أي ناثر عادي في مخاطبته لنا بمعنى هذا البيت إلا في الوزن العروضي فقط لأن كلمات البيت ليست متدفقة بأية رؤيا. وكذلك إذا قرأنا قول نزار قباني نجد المعقولية – التي من اختصاص النثر – تنخر أقبية شعره ، فعندما يقول :
حبيبتي لدي شيء كثير أقوله لدي شيء كثير
من أين يا غاليتي أبتدئ وكل ما فيك أمير أمير
نجد العصب الموسيقي البسيط مرتبطًا – أيضًا – بأحابيل العقل الواعي الذي هو من عمل النثر كما أننا نجد ذلك في بقية أبياته الأخرى التي يعتبرها متحررة، فالتحرر في الشعر ليس هو أن نطلق القوافي ونهدم الوزن وإنما هو أن نتحرر من كل ما هو محدود من كل ما تكتنفه المادة بجميع إشكالياتها المحيطة بذاتنا. ،
إن التحرر بمعناه الشعري هو خلق لغة وعوالم جديدة غريبة عن عوالمنا العادية المكبلة بأغلال المادة ، لأن كل عمل نثري جبار يعتبر ماديًا حالمًا يقذف به العقل إلى الخارج ، وأما كل عمل شعري فيعتبر روحيًا حتى في حالة توجدنه لأن الرؤيا هي أشياء لا محسوسة أبدًا ، ولماذا قيل إذن هذا شعر وذلك نثر وذلك لأن الفرق ما بين الاثنين شاسع ولن يلتقيا إلا بالتقاء المادة والروح ، إن الأشياء التي هي من صنع العقل باستطاعتنا أن نقيمها بحجج ودلائل وأما التي هي من صنع الروح فليس بمقدورنا ذلك .
والرؤيا هي خلاف الخيال الذي يهتم به شعراؤنا اليوم وقديمًا لأنها في الواقع حصيلة تصادم ثقافي وتأزمات وجودية ميتافيزيقية تجعل من الشاعر أو الفنان يتلقف ما لا يوجد في عالمنا المحسوس من عوالم وأبعاد حاطمة لأفكارنا، والشاعر الحديث - كما قلنا في مقال سابق لنا – ليصبح ذا رؤية عميقة يجب أن يتشبع بثقافات عميقة ، إذ إنه يجب أن يكون ذلك المثقف الحالم على حد تعبير سيجمون فرويد ، وذلك طبعًا ليدرك واقعه الحضاري الوجودي من جميع الأبعاد ، فالشاعر الكبير هو صاحب الرؤيا الكبيرة ، لأن الإيقاعات المصيرية تتطلب حتمًا لكشفها ثقافات عميقة تنبثق من كل الرؤى المرهصة والمعرية لتحركاتنا الثقافية ، وكل الرؤى الحقة لا تنبثق إلا من خلال إخلاص الذات الشاعرة المثقفة الواعية لواقعها القومي والوجودي الذي تعيشه ، لأن التأزمات الداخلية ما هي إلا ردود فعل لتأزمات خارجية عاشها الشاعر في كل لحظة من لحظات حياته المتلفعة بضباب الإيقاعات المصيرية الغامضة المعرية لذاته المعرشة في أقبية تصوره الذاتي اللامنكشف له إلا من خلال الرؤيا العميقة التي تنبع من خلال واقع الذات الوجودي. فالرؤيا هي بمثابة اكتشاف وخلق جديد للأشياء. ونحب أن توضح للقارئ أن كلمة الوجودية الواردة في بحثنا ليست وجودية سارتر أو كامو وغيرهم بل هي اللحظة التي يعيشها الشاعر.

و أخيراً نحب أن نؤكد أن الشعر العربي القديم، شعراً في غاية الروعة والجمال بالنسبة لزمانه ومكانه ، وهو كذلك تاريخنا يجب علينا أن نعتزبه. ونتخذه كمادة تاريخية لا غنى عنها، لكن لا أن نجتره ونقلده، وإلا فماذا يتبقى للشاعرالمقلد للشعر القديم من إبداع. كذلك هناك قصائد ذات وزن وقافيه لبعض شعرائنا فيها من الإبداع الشىء الكثير لأنها متشبعة بالرؤيا، كقصائد بدر شاكر السياب ونازك الملأئكة، وفدوى طوقان، وكثيرون غيرهم.