عرض مشاركة واحدة
قديم 01-17-2013, 09:40 AM
المشاركة 286
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ليل يمتطي جواده
(قصائد)
بول سيلان
توطئة و ترجمة:
بنعيسى بوحمالة

لن نكون متزيّدين في شيء إن نحن قلنا إنهم قليلون الشعراء الغربيون المعاصرون الذين نالوا قدرا وافرا من الاهتمام و ذلك على الغرار من الشاعر بول سيلان، ممّا تشهد عليه سلاسل الدراسات و التحقيقات و المتابعات و الاستعادات و المختارات و المقارنات و الترجمات التي تتعهّدها بالإصدار و التداول دور نشر و جامعات و مراكز بحث مرموقة في الولايات المتحدة و إنجلترا و ألمانيا و رومانيا و السويد و الدانمرك و فرنسا.. و بصدد هذه الأخيرة فليس مردّ اهتمام المحافل الأكاديمية و الأدبية و الثقافية و الإعلامية الفرنسية ببول سيلان و حدبها عليه إلى كونه شاعرا ضليعا، نابها، و كفى، بحيث يعتبر أحد أقوى الأصوات الشعرية و أبعدها ابتكارية و جذرية و شراسة تخييلية التي ستكيّف الوجدان القرائي لما بعد الحرب العالمية الثانية فانضوى، و عن استحقاق، إلى البّانثيون الذي يأوي قامات شعرية سامقة و رفيعة، من مثال الروسي بوريس بّاسترناك و السويدي توماس ترانسترومر و الفرنسي روني شار و الإيطالي جويسيبي أونغاريتي و الإسباني ميغيل هيرنانديث و اليوناني يانيس ريتسوس و الإنجليزي ويستان أودن و الإيرلندي شيموس هيني و الأمريكي ألان غينسبرغ و المكسيكي أوكتافيو باث و الأرجنتيني روبيرتو خواروث..؛ بل و لأنه ارتبط، بوجه خاص، بفرنسا من خلال وشائج متينة، من بينها حلوله بها و هو في ريعان فتوّته بقصد تهيئ شهادة الأقسام التحضيرية في الطب، في إحدى ثانويات مدينة تور، و عودته إليها، في غضون اكتهاله العمري و نضوجه الشعري في آن معا، و نسجه لعلائق ودّية وثيقة مع كثير من الأسماء الأدبية و الشعرية اللامعة، في مقدمتها الشاعر الكبير إيف بونفوا، زد على هذا انتهاله من نصوص و أعمال مفكرين و كتّاب و شعراء فرنسيين كلاسيكيين (باسكال، مونطين) و معاصرين (بّيغي، غرين، جيد)، ثم، و لربّما كان هذا هو الأكثر إثارة، بله قسوة، في صفحة هذه العلاقة المخصوصة، ذلك الحدث الجسيم، الفارق، في سيرته، نقصد توقيعه على صكّ نهايته التراجيدية و انتحاره غرقا في نهر السّين الذي يشق باريس، و ذلك أواخر شهر أبريل من عام 1970، كيما يعثر على جثته صياد نكرة، غير معنيّ بلمن تكون، ما دام لا يملك أدنى دراية بالشاعر و بقيمته الاعتبارية الاستثنائية على العكس من الضمير الثقافي الفرنسي الجمعي الذي ما كان لهذه الواقعة بالذات سوى أن تحمّله عبئا أخلاقيا إضافيا نحو الشاعر الهالك، هو الذي توخزه، أصلا، جريرة لامبالاته الباردة حيال فاجعة الإبادة التي تعرض لها اليهود في تضاعيف الحرب العالمية الثانية، و منهم أمّ بول سيلان. كلّ هذه الحيثيات كان و لابد أن تجعل منه، سيرة حياة و منجزا شعريا، محلّ انكباب مواظب ستعرب عنه كثرة الإصدارات و النّقولات التي سوف يستأثر بها، بوصفه حالة مستشكلة، عصية على الجزم، و مقضّة، بالتالي، لتفكير فرقاء الشأن الشعري و الثقافي الفرنسي، و ذلك منذ ما يناهز الأربعة عقود.
و إذن، و من هذا الضوء، ليس بالأمر المستغرب أن تظهر، تباعا، في فرنسا، مصنفات تتمحور حول الشاعر، تجسد، لا محالة، قيمة مضافة و نوعية إلى متحصّل التراث التعريفي و التحليلي الذي استفاد منه، و من آخرها المصنف الموسوم ب "بول سيلان: قصائد" (منشورات جوزي كورتي، باريس 2007)، من ترجمة و تقديم جون. إ . جاكسون، مرفقا بدراسة عن شعره، و يقع في 248 من القطع المتوسط.

إن الكتاب لينمّ عن جهد توثيقي و تشريحي لا يستهان به، إذ سيرتئي نظر المؤلف أنه لا إمكانية، قطعا، لسبر أغوار خبرة شعرية فذة، من طراز تلك التي اجترحها بول سيلان، دون الاستئناس بسيرة حياته المركبة، الملتبسة، و المفارقية، و أخذ البال سواء من تمفصلاتها الكبرى أو من مستدقاتها المتناثرة، من مشترط نشأته، تربيته، علاقته بأبيه و أمّه، صداقاته، غرامياته، قراءاته، اعتناقاته العقدية و الإيديولوجية، هواجسه، سفرياته.. و مراعاة سجية انتصاره للكمال في كل شيء، بحيث لم يكن ليقنع بأنصاف الحلول.. إمّا الكل أو لا شيء بالمرة.. كان مجافيا للتقاعس و التّشوه و النقص بدءا من ذاته و الحلقة الضيقة لمقرّبيه و أصدقائه فأحرى الوجود و العالم، و حتى يستجمع أوفى ما يمكن من العناصر و المعطيات المسعفة على تشخيص بورتريه مؤيقن، إن شئنا، للشاعر سوف لن يتورع عن الإفادة من جهود باحثين ثقاة في توضيب مادة هذا الكتاب، ".. مستسعفا، في هذا المضمار، أعمال كلّ من إسرائيل شالفن، جون فيلستينر، فولفغانغ إيمريش، و أيضا العمل التقديمي و التعليقي الحاسم لباربارة فيدمان، في مسعى إلى تجميع أوفى المعلومات التاريخية و العناصر السيرية اللاّمحيد عنها في مقدمتي للكتاب، و تدقيق، هذا ضمن مقالة اختتامية، مغزى قدر شاعر يهودي سيق إلى الكتابة بلغته الأصلية التي هي، في الآن نفسه، لغة أولئك الذين اغتالوا أمّه و شعبه" (ص 7 - 8). أفليس هو من قال هذين البيتين الأليمين مغتابا فيهما، عبر نبرة جريحة، الوجه المثنى، الشّقي، لأمومته، أي أمومة الدم و أمومة اللغة:
أواه أمّاه، أما زلت تتضوّرين برحاء كما عهدك في بيتنا
أنت يا قافية سلسة، ألمانية، و مريرة ؟
و إلى جانب المقدمة المكتنزة، التي جاءت في حوالي 73 صفحة، ضمّ الكتاب بعضا من كلمات بول سيلان التي ألقاها في مناسبات مختلفة، و عيّنة من مراسلاته، و طبعا منتخبات منتقاة بعناية، و مقصدية كذلك، من مجاميعه الشعرية السبع: "الخشخاش و الذاكرة" (1952)، "من عتبة لأخرى" (1955)، "مشبك الكلمة" (1959)، "وردة لا أحد" (1963)، "انثناء النفحة" (1967)، "شمس الابن (1968)، "إرغام الضوء" (1970).
للإشارة فقد ولد بول سيلان عام يوم 23 نونبر 1920 بإقليم بوكوفينيا، الإقليم الذي سيقتطع من الإمبراطورية النمساوية - الهنغارية و يلحق برومانيا عقب الحرب العالمية الأولى، و بفضل حرص أمه، المتعلمة نسبيا و الشغوفة بالشعر، سيكتسب اللغة الألمانية، نطقا و كتابة، و يقبل على قراءة العديد من الأعمال الأدبية، الشعرية في المقام الأول، في حين سيتعامل مع العبرية بغير قليل من الاستهتار. سيتأثر أكثر بفولفغانغ غوته، فريدريش هولدرلين، راينر ماريا ريلكه، جورج تراكل، فرانز كافكا، و توماس مان..؛ علاوة على ويليام شكسبير و بول فيرلين و كذا الشعراء الروس، في انتظار أن يتحول، اطرادا مع تصالب تجربته و علو كعبه الشعري، إلى أحد أقوى المؤثرين سواء في الشعرية الألمانية أو السلافية أو الأنجلو - أمريكية أو الفرنسية أو العربية (و تحديدا في المشروع الشعري لجيل الستينات العراقي)، إذ يعدّ أحد كبار أساتذة قصيدة النثر في النصف الثاني من القرن العشرين و سيكون لاستكشافاته البنائية و الأسلوبية و التخييلية آثار متعيّنة و تداعيات ملموسة في طرائق معظم مريديها بكثير من الجغرافيات الشعرية.

إن جملته الشعرية، مفردات و توليفات و مجازات و ترميزات و إيهامات، الشديدة الكثافة و التّقعر و الاستنكاف الدلالي، سوف تستحصل امتياز اغتنائها و فرادتها من مخزون عقله المأساوي الباطن و من أرصدة مخيّلته القلقة، المتوثبة. حقا إن منشأ بذرة انتباهه إلى ما ينعت باللاّسامية كان في أثناء تمدرسه بثانوية مسقط الرأس، هذه البذرة التي ستنمّيها أكثر إفرازات عقدة الاضطهاد العرقي و الثقافي، مهانات الغيتو و كوابيسه، وصولا إلى قيامة أوشفيتز و هولها، التي ستثقل على كاهله ما في ذلك ريب، لكن لم تكن هذه الضغوط، على وطأتها، لتأسر ، هكذا، شاعرا إنسانيا من حجمه و حساسيته في النطاق المحصور، المتضايق، لأيّما شوفينية إثنية و عقدية، و حجة هذا، فضلا عن مضمون تجربته الشعرية، أنه رغما من الزيارة التي ستقوده إلى إسرائيل، غداة حرب الأيام الستة، و كتابته لقصيدة عنوانها "جنود مستنقعات قلعة مسادا"، مستلهما واقعة مقاومة أسلافه للرومان و تحصنّهم في تلك القلعة المحاذية للبحر الميت، فإنه لم يستشعر نفسه أبدا متحمسا لذلك التجمّع القسري، بمعنى غيتو أوسع، لأبناء جلدته في كيان أرعن، مرتج، أو، بالأصح، امتصاص شتات اليهود و اضطهادهم عبر فكرة ستعمّد بإسرائيل، لم يعن له شيئا يذكر لكونه لا يلبي نوازعه التخومية و يبقى دون سقف عاطفته الإنسانية المشبوبة و التزامه الكوني المفتوح، موقنا، أكثر، في أنه قدم إلى العالم غريبا و قدره أن يداوم اغترابه الخلاق ذاك.
الأصوب، و هو ما تشي به قصائده، أن مقتل أمه و اجتثات جزء من شعبه لن يشكّل سوى تعلّة، شائنة و رهيبة مع ذلك، كيما تستنفر الآلة التخييلية الجبارة، التي كانها، منتهى جسارتها و إقدامها و تنقاد إلى المكمن الأصلي لأكداس الآلام، الفداحات، التخرّمات، الجراحات، التي تلازم الكينونة الإنسانية في إطلاقيتها العابرة للفروقات و الاختلافات و التفاوتات، و من ثم سيتحدد مردود الشعر و جدواه الروحيان، لدى بول سيلان، في اقتداره، من عدمه، على تغوّر هذه المنطقة الوعرة، و توفّقه إلى تسمية، و لعله التعبير المحبّب عنده، الأشياء و الحيوات و الانفعالات و التّوضعات و المصائر و تعيينها حتى لا تبقى فريسة للسديمية و الخواء و اللامعنى و العماء.. للانحطاط و الخسّة و الهمجية و اللاّتسامح.. و تمكين الإنسان من أفق شفاف، مستحق، لمباشرة مروره الأخلاقي و الحضاري نحو امتلاء مرجأ أبد الدهر. إنها عين الشدّة التي أرجعها فريدريش هولدرلين إلى ما كان من انسحاب الآلهة إلى ذلك الماوراء الجليل، المقدس، ونفض يدها من قصر روح الآدميين و سفولهم الدنيوي بينما سيتمثّلها بول سيلان كفائض رعب سيخيّم على العالم و يرتد بالإنسانية إلى نقطة الصفر في مرورها ذاك. و بالمناسبة، و على سبيل الاستحضار، فإن كانت شدّة
detresse هولدرلين قد فازت بانشغال الفيلسوف الوجودي القدير مارتن هايدغر و تأمله فإن شدّه سيلان سوف لن تنال ذات الحيّز من انشغاله و تأمله، فيما خلا قصائد محدودة، بالنظر إلى انتصاب ما يشبه حلقة مفرغة من برود و تحفّظ و احتراز في علاقة الرجلين المتألقين .
و من مصادفات حياته القصيرة، المصطخبة، و المؤسية، أن آخر سفرية له، قبيل مصرعه، كانت صوب ألمانيا، إلى مدينة ستوتغارت في البداية و ذلك استجابة منه لدعوة من جمعية الدراسات الهولدرلينية بحيث سيحضر فعاليات الذكرى الاستعادية لهولدرلين، ثم نحو مدينة فريبورغ التي سيقدم بها قراءات شعرية سوف يتابعها مارتن هايدغر، و لكأنما هذه المصادفة نوع من تشييع رمزي له، بما هو نتاج اللغة الألمانية و ضحية للغطرسة الألمانية دفعة واحدة، من لدن علامتين ثقافيتين وازنتين أنجبتهما ألمانيا. لقد كان بول سيلان رهيفا، هشّا، موسوسا، يقيم وجوديا، مذ وعى، عند حافّة الموت، لذا فسوف ".. لن يتنازل لقوى الموت سوى عن جسده الذي خرّت قواه. و إذا كان قد تمنى، انطلاقا من ديوانه الأول، أن "يتم عدّه من بين حبّات اللّوز"، أي في عداد موتى اليهود، فإنه لن يذخر، بإزاء هذه الأمنية، وسعا في الإلحاح على لغته لكي تنجيه من مغبّة هذا المصير، أن تمتّعه بإقامة مجازية في رحابها، و ما هي إلاّ نهاية شهر أبريل من عام 1970 حتى غدا المجاز واقعا حرفيا، و الأمنية التي نهضت بها القصيدة الأخيرة من ديوان "الخشخاش و الذاكرة" حالفها التحقق. بول سيلان غدا إذن حبّة لوز" (ص 84)، منسحبا، عن سبق إصرار، من حفلة الوجود المضجرة، المزرية، إلى هناك.. إلى حيث يلقى حضن أمه الرؤوم، تلك المرأة التي لم تشأ أن تسبقه إلى الماوراء إلاّ و كانت قد ورّطته لمرتين اثنتين، أولاهما في غواية القافية الألمانية العذبة، الرخيمة.. قافية من سيصيرون إلى جلاّدي شعبه، و هو لمّا يزل صبيّا طريّ العود، أمّا الثانية، و كان أوانها قد عركته بأساء الزمن و ضرّاء التاريخ، ففي جرح مماتها النازف، المروّع.. و فيما يلي نخبة من القصائد التي يضمها الكتاب.

*********************
في الثناء على المتنائي
في ينبوع عينيك
تأخذ بأسباب حياتها شباكات صيادي بحر المتاه
في ينبوع عينيك ذاك
لن يخلف البحر وعده
هنا ألقي
بقلب يا ما أقام في ثنايا الأيام
بينما ثيابي تتنصّل مني و ألق قسم بالسماء لا يني يبزغ
في غمرة الأسود لا يلبث عرائي أن يفاقم سوادي
و بقدر ما أنا جاحد يمعن إيماني في الازدياد
أكون أنت حالما أكونني
في ينبوع عينيك
يحدث أن أزيغ عن السبل كلها حالما بشيء قابل للانتزاع
شباك يغنم آخر
ثم نغادر بعضنا متضامّين
في ينبوع عينيك
أرمق مدانا بالإعدام يخنق حبلا.

كورونا
بيديّ هاتين قضم الخريف ورقته: ها نحن إذن
بمثابة أصدقاء
ها نحن نجرد الزمن من قشرته و نطرحه خارج النّويات ملقّنين إياه
كيف يباشر ممشاه
و ها هو ذا يلج إلى القشرة
و لأن اليوم القابع في المرآة أحد الآحاد
تركنا لنفسنا أن نغطّ في سنة من حلم
و ألجمنا الفم عن أن ينطق بهتانا
عيناي تتدحرجان حتى جنس المحبوبة
فنحدّق في بعضنا البعض
نلهج بمفردات معتمة
نتعشّق بعضنا شبيه الخشخاش و الذاكرة
ريثما نخلد للنوم مثل خمرة في اللبّ من محارة
مثل البحر في سنا دم القمر
لكن مالهم ينظرون نحونا، أولئك، من الشارع و نحن متعانقان عند النافذة
لعله أوان أن نأخذ بالنا !
ميقات أن يذعن الحجر
للإزهار
أن يخفق قلب من فرط الهلع
أن يرتدي الوقت معنى الوقت
لعله ميقات و كفى.

عدّ حبّات اللّوز
صاح، عدّ ما كان مريرا و لا ينقطع عن شدّك إلى قبضة يد اليقظة
عدّني ضمن العدد
أنا من تحرّى عن عينيك ساعة انفتاحهما و حيث لم يفز أحد بعد
برؤيتك
و إذ أرخيت الحبل السري طويلا
حدّ النّداوة التي تسّاقط من بنات أفكارك
لم يلبث أن تزحلق جهة الأباريق
التي ستغيثها فقط حكمة ما وقعت على فؤاد امرئ ما
هل تراك ستستجلبه للاسم الذي هو لك
فتنال حظ تلك الخطوة الواثقة نحو ذاتك
ها المطارق ترنّ طليقة في برج
صمتك
في حين تلطمك كلمات مسبلة
يحبكك ما هو في عداد الميّتين
قبل أن تخوضوا ثلاثتكم في المسير
اجعلني إذن مريرا
عدّني من بين حبّات اللّوز.