عرض مشاركة واحدة
قديم 01-15-2013, 04:03 PM
المشاركة 266
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تتداخل الاصوات عبر السرد وتعود الذاكرة تقهقراً ، تُبرز صوراً وحوارات ثم تتخللها تداعيات . ففي الوقت الذي يبتدىء فيه الراوية بصوت المتكلّم " خوان بريثيادو " نرى بعد عدَّة صفحاتالصوت الغائب يمسك زمام السرد ليحدثنا عن بيدرو بارامو ، حيث يتداخل أيضاً الحديث عنه . فمرةً صبيّاً تعنفه أمّه لعدم مساعدته جدّته بحوار تبدو عليه لمسات الغباء . يخترق الحوار تداعٍ يتكلم فيه بيدرو وهو رجل مسن عبر تذكره لسوزانا ، الفتاة التي أحبَّها بعمقٍ لكنَّها ماتت .. ثم يعود السرد بلسان الصوت الثالث يواصل الإخبار عن بيدرو الصبي . ومن داخل السرد يتعالى التداعي بسوزانا " كنت أنظر إلى القطرات التي التمعت في ضوء البرق وهي تسقط وأتنهّد كلما تنفستُ وكنتُ كلّماافكِّر ، افكر فيكِ أنتِ يا سوزانا ." ص74
ويعود " خوان بريثيادو " الذي استهل الدخول إلى الرواية عبر زيارة قرية ( كومالا ) بناءً على وصية أمّه التي ماتت قبل أيام لأخذ حقّه من أبيه بيدرو بارامو والتي يصلها فيلتقي بـ " دولوريس " التي تخبره أنها صديقة أمّه ، وأنهما عاشا سويةً لكنَّ أمّه تزوجت بيدرو ولم ينصفها ... يعود بريثيادو يتحدث عن " دونيا ايدوفكس " التي تحدثه عن أمه وكيف أنَّ عرّاب بيدرو نصحها أن لا تضاجع بيدرو تلك الليلة . فطلبت من دونيا ايدوفكس " أن تذهب بدلها ؛ وفعلت المرأة . ونعرف أنَّ بريثيادو جاء ولداً لـ" دولوريس " . لكن هذا التعرَّف سرعان ما يُبطل فعله فنكتشف أن " دونيا ايدوفيكس " كانت تهذي بهذا الكلام وأنها ساعة التحدث كانت من عداد الأموات وما هذا الكلام الذي سمعه سوى محض وهم انبثق في خيال " بريثيادو " نفسه على لسان " دونيا " . وحتى الشخوص الذين التقاهم بريثيادو منذ بدء الرواية هم أموات ابتداءً من الحوذي الذي ظنّه حيّاً واكتشف في ما بعد أنه ميت من خلال أخبار " دونيا ايدوفيكس "
إن ميزة هذه الرواية المثيرة أنها تجعلك تعيش المتخيَّل كما لو كان واقعاً رغم صبغته السريالية الي تطلي حركية الشخوص وتمثُّلَهمحيث تتمظهر المرأة التي يقابلها نساءً عديدات . ففي المرّة الأولى التي منها سمع الكلام ودخل في حوارٍ معها كانت " دونيا أيدوفيكس " . ودونيا هذه سرعان ما استحالت " داميانا " تلك المرأة التي لا تقطن قرية " كومالا " بلقرية " ميديا لونا " المجاورة والتي عرفها بريثيادو على أنها التي اعتنت به وربّته في صغره . ولم تعترض " داميانا " على الكلام بل وافقته وهو يخبرها أنَّ حديثاً طويلاً جرى بينه وبين " دونيا " . والغريب أن كل من التقاها وحدثته عمّن جاءت في سياق الكلام كانت حياتها غميرة المأساة ومليئة بالخطايا . الخطايا التي لا نجد له وجوداً كبيراً . فقط ما أوحى به صانع الخطاب؛ لأنَّ خطايا يرتكبها أناس بسطاء لا يمكن أن تكون مهولة إلى درجة تؤدي إلى الفناء ، وليس العذاب الذي تلاقيه هذه النفوس في مضمار موتها يقارن بكبار الخطايا . إنَّ صانع الخطاب يقسو بثقلٍ مريع على شخوص روايته حتى وإن رأيناهم أناساً عاديّين :
_ "
ألا ترى الخطيئة فيَّ إلا ترى هذه البقع الداكنةكأنها طفح ينتشر فيَّ من قمّة رأسي إلى أخمص قدمي . هذا هو الجزء الظاهر فقط ، أما داخلي فهو بحر من وحل . "
_
ومن براك إذا كان لا يوجد أحد هنا ؟ لقد طفتُ أرجاء المدينة ولم أشاهد أحداً ؟ "
_
هذا ما تعتقده أنت ، ولكن ما زال بعضهم موجوداً . قل لي إذا ما كان فيلومينو أو دوروتيا أو بردمثيو العجوز أو سوستينس ليسوا أحياء ؟ ولكن ما يحدث انهم يقضون وقتهم سجناء . لست أدري ما الذي يفعلونه في أثناء النهار ؛ أما الليل فيقضونه في حبسهم . إن هذه الساعات مليئة بالرعب . ليتك ترى زحمة الأرواح التي تمرح طليقة في الشارع . فحالما يبدأ الظلام تأخذ بالخروج . لا أحد يرغب في رؤيتها أنها كثيرة ونحن قلة . ولا تفيد معها حتى صلواتنا لانها تخرج بسبب آلامها ." ص119 هذا التصوير المهول الذي يصوره خوان رولفو لسكان " كومالا " يمثلمرتبة عالية من القسوة . وحتى " خوان بريثيادو " الراوي لم يفعِّله بل تركه يتعذب وهو يخطو على أديم طرقات القرية ويدخل بيوتاتها الذاويةثم يُدخِلهُ حلبةَ الهذيان والموت . ويظل رولفو ينشر قسوته حتى على الثورة التي تندلع على الأوضاع المتردية في الجنبات المكسيكية ويأتي لهب الثورة إلى " كومالا " فيعدها من الحركات التي تحمل بذرة وأدها . ومن هنا لا يعطي أي منفذ لخلاص " كومالا " من عزلتها ، ولا يمنح أيّة بادرة أمل لحياة جديدة ما يدفعها إلى الموت المحتَّم فيحكم عليها بالفناء .