عرض مشاركة واحدة
قديم 01-13-2013, 02:58 PM
المشاركة 226
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
أمّا نوسترومو (1904)، وهي تحفة روائية، فهي صورة الاستعمار البشعة التي تنطبق صورتها (من الناحية الجغرافية على الأقل) على أمريكا اللاتينية، وفيها نبوءة لم يسبق لها مثيل، إذ تنبأ كونراد في بداية القرن العشرين أنّ أمريكا ستكون صاحبة ذلك النظام العالمي الذي يعطيها السيادة على المعمورة. يقول هولرويد، المستثمر الأمريكي، وهو شخصية رئيسية في نوسترومو: "سيكون لدينا متّسع من الوقت نستولي فيه على جزر وقارات المعمورة. سندير أعمال العالم قاطبة سواء رضي العالم أم غضب. لن يكون للعالم خيار في ذلك، وأعتقد أنّه لن يكون لنا الخيار أيضاً."(ص77).
لا أعرف روائياً غربيّاً يمكن مقارنة عبد الرحمن منيف به أكثر من كونراد. فعلى الرغم من أنّ عبد الرحمن منيف لا يعالج قضية الاستعمار مباشرة لأنّها تقع خارج مجال المحلية التي ينطلق منها عبد الرحمن منيف، فإنّ عبد الرحمن منيف يتّفق مع كونراد الذي يعالج قضية الجشع المادي وتأثيره في إنسانية الفرد، فالجشع المادي وتأثيره في بني البشر، ليس مرهوناً بالاستعمار، بالرغم من أنّ الاستعمار يعرف به وغالباً ما يعرَّف به.
أقرأ عبد الرحمن منيف فأتذكّر نوسترومو على الرغم من كلّ ما في الرواية من أبعاد تاريخية للاستعمار، لا توجد عند عبد الرحمن منيف طبعاً. فافتتاحية نوسترومو التي تقدّم وصفاً جماليّاً للمكان يُعدُّ أنموذجاً في بعث الحياة الأسطورية من جديد في مكان الرواية، ليجعلنا نتمثّل روحها الصامتة المتحفّزة وكأنّها بركان أسطوري ساكن يحذّر بني البشر من العبث به أو الاقتراب منه تجنّباً لوقوع الطوفان مثلاً. هذه سولاكو، مسرح أحداث الرواية في جمهورية كوستجوانا (وهي أسماء خياليّة لا يمكن مطابقة مكانها إلاّ بأمريكا اللاتينية) تقع بين السهل والجبال المحاذية على مسافة بسيطة من الخليج وليست متّصلة اتصالاً مباشراً بالبحر. أمّا الجزر الثلاث التي تقع على مدخل الخليج الذي تقع عليه سولاكو فتحتفظ بأسرار كونية والجزر هي: أزابيلا الكبيرة، والأزابيلا الصغيرة وهيرموزا الصغرى. ويتناقل الناس أساطيرها على الدوام، وعلى مرّ العصور.
تبدأ الأخدود بوصف موران الذي يذكّرنا سكونها الحذر المخادع بسولاكو وجزرها وأخدودها السحيق الذي يظنّه الناس مكاناً اندفنت فيه الفضّة منذ زمن بعيد، وكل من حاول الاقتراب منه حلّت عليه اللعنة. هذا هو الوصف التمهيدي لمدينة موران:
"بدت موران في تلك الأيام المبكّرة في فصل الربيع غارقة في الصمت والتأمل، وكأنّها لا تنتظر شيئاً، لكن العين النافذة المدقّقة ترى في صمتها انتظاراً أو بقية من ترقّب، وترى في هذا السكون حذراً مخادعاً، إذ لابدّ أن ينتهي فجأة كأنّه لم يكن، ولذلك، ودون اتّفاق أو تدبير، شارك الجميع في هذا الصمت، وجعلوا لحركتهم البطيئة الموزونة طابعاً في الخفاء المشوب بالتآمر، وبالغوا في ذلك أ شد المبالغة؛ لأنّ خطأ أيّاً كان سببه أو مصدره، لابدّ أن يعكر الكثير، وقد يخلق صعوبات ليس من السهل معالجتها"(منيف، ص5).
==
كونراد(جوزيف ـ)
(1857ـ 1924)

جوزيف كونراد Joseph Conrad، روائي وكاتب قصة قصيرة، بولوني المولد إنكليزي الجنسية، يُعَدُّ واحداً من أكبر الكتّاب المحدثين. استكشف في أعماله أغوار الضعف والاضطراب الأخلاقي الكامنين في النفس البشرية، وصوَّر الخطر الكامن في مظاهر الطبيعة من بحار وعواصف وأدغال، وكفاح الإنسان في مواجهتها، فضلاً عن اهتمامه بقضايا التفرقة العنصرية والاستعمار.
ولد كونراد في بيرديشيف Berdichiv (التي كانت آنذاك تابعة لبولونيا (بولندا)، لكنها باتت اليوم من مدن أُكرانيا)، واسمه الأصلي جوزيف تيودور كونراد نالتش كورجنيوفسكي Józef Teodor Konrad Nalecz Korzeniowski. كانت أمه من عائلة ثرية نبيلة، وكان أبوه شاعراً ومترجماً، وقد قرأ كونراد الفتى مع أبيه ترجمات بولونية وفرنسية للروايات الإنكليزية. وحين تورط والده في نشاطات سياسية ضد السلطة القيصرية، كان مصيره النفي مع عائلته إلى فولوغداVologdaالواقعة في شمالي روسيا، وفي أثناء هذه الرحلة أصيب كونراد بذات الرئة، ولم تلبث والدته أن توفيت عام 1865، ثم لحق بها والده في عام 1869.
عاش كونراد في كنف خاله الذي عُنيَ بتعليمه وخلّف لديه أثراً باقياً. كان تلميذاً شكساً ومتمرداً، وتمكّن من إقناع خاله بالسماح له بالعمل في البحر، فسافر إلى فرنسا، حيث أمضى بضع سنوات أتقن خلالها اللغة الفرنسية وعَمَل البحّارة، والتحق بالبحرية التجارية الفرنسية بحاراً متدرباً، فقام بثلاث رحلات إلى جزر الهند الغربية، كما كوّن في أثناء إقامته في فرنسا علاقات شتّى، وتعرف من خلال أصدقائه «البوهيميين» على الدراما والأوبرا والمسرح، وتمتنت صلاته بالعمّال الذين التقاهم على متن السفن، فكونت تجاربه معهم خلفية ذلك الوصف الحيّ الذي اشتهرت به رواياته.
عمل كونراد في صفوف البحرية التجارية البريطانية على مدى ستة عشر عاماً. وقد ترقى هناك من بحار عادي إلى رئيس للبحارة. مُنح الجنسية البريطانية عام 1886، وأطلق على نفسه اسم جوزيف كونراد. وفَّرت له تجربته قبطاناً لمركب بخاري نهري في الكونغو مادة روايته «قلب الظلام» Heart of Darkness (1902)، كما أبحر إلى أنحاء كثيرة من العالم، بما في ذلك أستراليا، وموانئ المحيط الهندي، وبورنيو، والملايو، وجزر المحيط الهادئ، وأمريكا الجنوبية، إلى أن انتهت حياته البحرية في عام 1894. بدأ كونراد الكتابة في أثناء رحلاته، فقرّر وهب نفسه للأدب بعد أن استقر في إنكلترا وهو في السادسة والثلاثين. وترك وراءه ثلاث عشرة رواية وثمان وعشرين قصة ومجلدات من الرسائل والمذكرات، على الرغم من أن الكتابة، بالنسبة إليه، كانت مثقلةً بالألم والمصاعب - فهو لم يكتب سوى بالإنكليزية، لغته الثالثة التي تعلمها على كبر بعد البولونية والفرنسية - فضلاً عمّا لازمه طويلاً من الفاقة والمرض والشعور الحاد بالعزلة.
من أعمال كونراد الأولى روايته «حماقة ألماير» Almayer’s Folly، التي أمضى خمس سنوات في العمل عليها قبل أن تُنشَر عام 1895، وهي تصوّر ألمانياً مشرَّداً يتخبّط في أنهار بورنيو وغاباتها، ويبدأ فيها كونراد استخدام أسلوب التكرار في مؤلفاته، حيث يكون الراوي غالباً رئيس بحارة متقاعد، رأى بعض النقـاد أنه يمثّل الأنـا البديل alter ego لكونراد ويسبغ على أعماله صفة السيرة الذاتية. أما «زنجي السفينة نرجس» The Nigger of the Narcissus (1897)، فهي قصة معقدة عن عاصفة تهب عند رأس الرجاء الصالح وعن بحّار أسود يلفّه الإبهام والغموض. وتُعد رواية «لورد جيم» Lord Jim (1900) من أبرز أعماله وأشهرها، وفيها يستكشف مفهوم الشرف الشخصي من خلال أفعال وعواطف رجل يقضي حياته في محاولة للتكفير عن فعل جبان كان قد اقترفه وهو ضابط شاب عند تحطّم إحدى السفن. أما روايته«قلب الظلام» التي أثارت خيال مخرجين سينمائيين ونقّاد بارزين، مثل فرانسيس فورد كوبولا الذي بنى على أساسها فيلمه الشهير عن الحرب الفييتنامية «القيامة الآن» Apocalypse Now (1979)وإدوارد سعيد[ر] الذي أشار إليها كثيراً في مؤلفاته، فتستكشف خفايا النفس البشرية؛ فبطل الرواية مارلو Marlow يبدأ رحلة طويلة في نهر إفريقي كبير للوصول إلى قلب القارة حيث يقيم ويعمل كُرتز Kurtz ويسيطر على السكان المحليين بوسائل بربرية. وتسبر رواية «نوسترومو»Nostromo (1904) أغوار الهشاشة والفساد لدى الإنسان، فضلاً عن اشتمالها على واحد من أشد الرموز إيحاءً لدى كونراد، ألا وهو منجم الفضة، حيث تقود شهوة المغامرة والمجد الإيطالي نوسترومو إلى الهلاك، ويضيع بموته سر الفضة إلى الأبد.
من مؤلفات كونراد الأخرى: «الورثة» The Inheritors (1901)، و«الشباب» Youth (1902)، و«مرآة البحر» The Mirror of the Sea (1906)، و«العميل السري» The Secret Agent (1907) وهي الرواية التي كان ألفرد هتشكوك[ر] قد بنى عليها فيلمه «عمل تخريبي» Sabotage (1936)، و«تحت أنظار غربية» Under Western Eyes (1911)، و«الإنقاذ» The Rescue (1920).
تشكل مؤلفات كونراد جسراً يصل بين التقليد الأدبي لدى كتّاب مثل ديكنز[ر] ودستويفسكي[ر] وبين مدارس الكتابة الحداثية الناشئة. وإذا ما نُظر إلى مؤلفاته من منظور خلفيته البولونية واختياره اللاحق للإنكليزية وسيلةً للتعبير، فإنها تشكّل مأثرة أدبية مدهشة من حيث قيمتها الأدبية والنفسية الرفيعة. ومع كون البحر والسفن موضوع كونراد الأثير، لكنهما والظواهر الطبيعية كافة لا تشكّل جوهر أعماله الذي يتجلى في استكناه القوى الغامضة التي تقف خلف الشجاعة والخوف، خلف الخير والشر، وخلف الكائنات التي تعيش ضروباً من العزلة بفعل قوىً خارجية لا تكاد تزيّن لها الوصول إلى شيء من الراحة حتى تلقي بها في مهاوي اضطراب عميق.
رفض كونراد لقب النبالة الذي عُرِضَ عليه في عام1924، كما رفض من قبل درجات الشرف التي قُدِّمَت له من خمس جامعات، وتوفي في بلدة بشوبزبورنBishopsbourneفي مقاطعة كنت Kent الإنكليزية إثر نوبة قلبية، بعد أن ترك أثره البالغ في القصّ الحديث، إذ يُعدّ واحداً من أوائل الحداثيين الذين كتبوا باللغة الإنكليزية. وكانت أعماله قد حظيت باعتراف أبرز معاصريه، قبل أن يزيدها إدوارد سعيد قيمةً واعتباراً، سواء في أطروحته للدكتوراه «جوزيف كونراد وقصّ السيرة الذاتية» Joseph Conrad and the Fiction of Autobiography (1966) أم في باقي كتبه.
ثائر ديب