عرض مشاركة واحدة
قديم 01-13-2013, 02:57 PM
المشاركة 224
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
جوزيف كونراد في البَرّ اللاتينيّ
لقـد تحـرر ابـن الشعـب
سعدي يوسف

يعود اهتمامي بجوزيف كونراد، المولود فيالعام 1857 بأوكرانيا القيصرية من أبوين بولنديين، والمتوفّى بقرية بيشوبسبورن منمقاطعة «كَنتْ» بشرقيّ المملكة المتحدة، في العام ,1924 أقول يعود اهتمامي بالرجلإلى عقودٍ خلت، قرأتُ فيها مُعظمَ ما كتبه، وقرأتُ أيضاً الكثيرَ ممّا كُتِبَ عنه،ومن بين هذا الكثيرِ كتاب الراحل قريبا، كيفن يونغ، الموسوم «بحثاً عن جوزيفكونراد» الذي يتابع فيه مسار البحّار والمؤلف، مبتدئاً بكورنوال التي هبطَها يونغفي مقتبَل حياته، بَحّارا، حتى قرية بيشوبسبورن التي قضى فيها أعوامه الأخيرة، وقضىفيها أيضا، ليُدفَن في كانتربري، إذ ليس في هذه القرية، حتى اليوم، مقبرةٌللكاثوليك، وإن احتفظت القريةُ هذه بقاعةٍ للاجتماعات أطلقتْ عليها اسم جوزيفكونراد.
لا أقول إنني تتبّعت، على البرّ واليابسة، رحلةَ كونراد كما تتبّعهاكيفن يونغ، لكنني ذهبت، في الأقل إلى البداية حيث كورنوال، وإلى النهاية حيثبيشوبسبورن والبيت الذي كان لكونراد مسكنا، بيت الكلاب الشرسة التي تمنع حتىالإطلالةَ إن طالت للتأمُّل!
جوزيف كونراد، البحّار، يكتب عن البحر، وبخاصة عنمنطقة الأرخبيلات في سنغافورة والملايو وإندونيسيا، حيث قيل إنه اشتغل، فترة، فيتهريب البنادق، شأنه شأن رامبو في الحبشة، أيام منيليك الثاني!
عملَ أيضاً علىخطٍّ بحريّ بين مرسيليا وجزر الهند الغربية، كما وصل إلى الكونغو البلجيكية، مكانروايته القصيرة الخطيرة «قلب الظلام»، التي تجلّت في فيلم كوبولا الشهير «القيامةالآن»، في مقارَبةٍ بين نهر الكونغو ونهر الميكونغ.
روايات كونراد كلّها، ذواتُأجواء بحرية، طافحة بالمغامرة، والخطر، أجواء يضطربُ في رياحها وأمواجها مغامرونوأفّاقون قدِموا من أوربا طمعاً في المال والأرض؛ هؤلاء الأفّاقون تدهمهم الخيبةبعد الخيبة، لكنهم يواصلون رحلة اللاعودة، الجشعة، غير المبالية، حتى النهاية،النهايةِ المأساةِ في أحيانٍ كثيرة.
في الرواية البحرية، لدى كونراد، لا تطلّالسياسةُ إلا لـمحا، حتى ليبدو الرجل غير مَعنيٍّ بالسياسة إطلاقا، لكنه لا يحجبالأمر السياسيّ إنْ أطل، ولم يُطِل.
الرواية التي أنا بصددها، «نوسترومو»،روايةٌ برّيّـة، أي ليست بحرية، شأن رواياته الأخرى. وهي لا تدور في منطقةالأرخبيلات الأثيرة، بل في أميركا اللاتينية، على الساحل الغربي منها، السلفادور،أو كوستاريكا، أو نيكاراغوا. هو يكنّي عن الدولة باسم «كوستاغوانا»، أمّا نوستروموفهو مغامرٌ إيطاليّ اسمه الحقيقيّ جيوفاني باتيستا.
Nostromo «نوسترومو» قد تعنيفي مقاربة الأصل اللاتيني: رَجُلـنا، وهو لقبٌ حظيَ به جيوفاني باتيستا، بسببٍ منالخدمات الـجُلّـى، الخطرة، التي كان يقوم بها للناس والمتنفذين في بلدة سولاكو،المرفأ الهام، وموقع منجم الفضة.
الرواية صدرت في العام ,1904 وطبِعتْمرارا.
في العام ,1917 كتب كونراد مقدمةً للرواية، تطرّقَ فيها إلى نوستروموباعتباره «ابن الشعب»، الرجل الذي يحْضر اجتماعات الفوضويين، وينصت إلى خُطَبهم،وهم يحلمون بثوراتٍ آتيةٍ لا ريبَ فيها.
ربما كان ذلك إفصاحاً متأخراً لكونرادعن مَجاذبَ مكنونة، لكن هذا واضحٌ بجلاءٍ في بِنيةِ الرواية وعُقدتها الأساس، إذ انمنجم الفضّة الذي يملك امتيازَه شخصٌ بريطاني، معتمَدٌ من مموِّلٍ أميركيّ فيكاليفورنيا، هذا المنجم هو المحرِّكُ الحقيقيّ للكثير من الشخوص والأحداث،والانقلابات، والانقلابات المضادّة.
كتاب «تاريخ خمسين عاماً من الانفلات» History of Fifty Years of Misrule الذي يشير إليه كونراد في متن الرواية، سجلٌّلهذا الصراع بين أهل البلاد، الوطنيين، والأجانب الذين يريدون الاستيلاء على ثرواتالبلاد، والتحكّمَ بمصيرها، حاضراً ومستقبلا.
قلتُ إن منجم الفضة، كحقل البترولاليوم، هو المتحكِّم بالأحداث.
وثمّتَ امرؤٌ شـاهدُ حق.
هذا الشخص هو جيورجيوفيولا، شيخٌ من جنَوا، رفيقٌ لغاريبالدي، حتى النهاية المريرة.
السيد فيولا،يرقب الأحداث، ويفسرها، من موقعه الذي لا يزال تحت راية غاريبالدي وأصحابه ذويالقمصان الحُمر.
وهو يكنّ لنوسترومو حبّـاً عميقا.
بل أراد أن يزوِّجه إحدىابنتَيه، وفاءً لذكرى زوجته المتوفّاة ووصيّتها.
نوسترومو يظل «ابن الشعب» حتىيتدخل منجم الفضة، ليحوِّل خياراتِه إلى مجرىً آخر.
إثْرَ تهــديدٍ من قــواتٍانقلابية زاحفة على سولاكو، يقرر تشــارلس جولد، مالكُ المنجم، نقلَ سبــائكالفضـة، فيــتمّ الأمر بمساعدة نوسترومو.
تُخَـبّـأ السبائك في جزيرة مهجورة. نوسترومو، وحده، يعلم بالمكان، حيث مدفَن السبائك.
يتسلل نوسترومو، في الليلالبهيم، إلى المكان، ليأخذ عدداً من السبائك (أراد أن يكون غنياً علىمهلٍ).
جيورجيو فيولا، الغاريبالديّ العجوز، كان يحرس المكان خوفاً من خطف إحدىابنتَيه من طرفِ عاشقٍ مُدنَف.
الغاريبالديّ العجوز، وقد كلَّ بصرُه، يطلقالنار...
القتيل كان نوسترومو، لا المختطِف المزعوم.
يقول كونراد في نهايةالمقدمة:
لقد تحرّرَ ابنُ الشعب، مع آخِرِ نفَس، من أعباء الحبّوالمال