الموضوع
:
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية
عرض مشاركة واحدة
01-10-2013, 02:07 PM
المشاركة
195
ايوب صابر
مراقب عام سابقا
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 4
تاريخ الإنضمام :
Sep 2009
رقم العضوية :
7857
المشاركات:
12,768
في واحدة من نزوات
(
فايثون)، ابن إله الشمس (فويبوس)، يطلب »الولد« من أبيه أن يتخلى له يوماً عن
مركبته الشهيرة »عربة النار«، التي تقودها الخيول المجنّحة. وتحت ضغط الابن، تخلى
له فويبوس عن العربة، وأمر ربات (الساعات) بشدّ الجياد إلى النار، فاستجابت وأخرجت
الجياد من الحظائر السماوية، تنفث اللهب متخمة بما التهمت من الأمبروزيا (طعام
الآلهة). وأخذ الأب يزود ابنه بالوصايا التي تجعله يسيطر على المركبة، لكن الابن
اندفع »في حماسة الشباب واعتلى المركبة التي لم تنؤ بجسده الغض«، وكانت خيول إله
الشمس تملأ الأجواء بصهيلها وأنفاسها المشتعلة، وتضرب الحواجز بحوافرها. وبعد أن
أزاحت الآلهة (تيثيس) الحواجز من طريق الخيل، وهي »تجهل المصير الذي ينتظر حفيدها
«
،
انطلقت الجياد وقد أحست بالمركبة أخف مما كانت عليه حين يعتليها إله الشمس »وبدت
المركبة كالسفينة التي يتلاعب بها الموج لخفتها«، وأحست الجياد أن المركبة تتأرجح
وتعلو كأنها فارغة، فـ»انحرفت عن طريقها وتخلت عن اتجاهها المعهود«. استولى القلق
على الولد قائد المركبة »الذي تعوزه المهارة في القبض على أعنة الخيل فانفلت
زمامها.. ولم يعد (الولد) يعرف طريقه، ولو قُدِّر له أن يعرفه فلن يقدَّر له أن
يملك السيطرة على الجياد«. فالتهبت كوكبة الدب الأكبر الثلجية، ودبت ثورة محمومة في
كوكبة الثعبان و.. أخذت الكارثة تنشر نيرانها في كل مكان. ثم فجأة »أمسك العجب
بـ(لونا) ربة القمر وهي ترى جياد أخيها تهوي والدخان ينطلق من السحب المحترقة
والنيران تلتهم مرتفعات الأرض فتتشقق وتبرز فيها الأخاديد لجفاف تربتها وتلتهم
المراعي فتنقلب هشيماً، وألسنة اللهب تأكل الأشجار وأوراقها متخذة من حصاد الحقول
وقودها.. إلى جانب اندثار المدن الكبرى واحتراق الأسوار وتهدمها وتحول شعوب بأسرها
إلى رماد.. وقد أكلت النار جبل أثوس (..)، وجبل الثور في سيليسيا وجبل.. كما أتت
النيران على جبل هيليكون موطن ربات الفنون، وجبل هيموس الذي ارتبط اسمه بعد ذلك
باسم أورفيوس (...)، وتوهج اللهب في الأوليمبوس أعظم هذه الجبال شأناً، وبلغت
الحرائق جبال الألب الشاهقة الارتفاع، وسلسلة جبال الإبنين التي تتوج السحب
قمتها
..«.
ونتابع المشهد الواسع الذي يرسمه أوفيد، متنقلاً في القارات، حيث
الخيول جامحة على هواها تقودها أقدامها المجنحة بلا ضابط، فنسمع أنه قد »شاع بين
الناس أن بشرة الأثيوبيين قد استحالت سوداء في هذه اللحظة، إذ انبثق الدم إلى
بشراتهم. وفي هذه اللحظة أيضاً جففت الحرارة مياه ليبيا فغدت صحراء، وأخذت الحوريات
ينزعن شعورهن نائحات ينابيعهن وبحيراتهن المفقودة
..«.
ويقول لنا أوفيد إن
مياه الأنهار لم تسلم من لفح النيران الذي جفف الينابيع، ومن بين هذه الأنهار يذكر
»
نهر الفرات ببابل، والعاصي بسورية
«.
وليس هذا سوى مشهد من مشاهد »المسخ
«
التي تصيب العالم حين يقوده »ولد« بلا خبرة أو مهارة. فهل لهذا المشهد علاقة
بواقعنا الذي نعيش؟ ما العلاقة؟
!
٭
٭
٭
في أي طور من أطوار
»
تطور« الوحشية نعيش اليوم؟
بأي المعايير يمكن أن يقاس هذا التطور، حين يقاس
التقدم والديمقراطية بارتفاع المقدرة على القتل والتدمير وهتك الحرمات
الإنسانية؟
لنعد إلى بدايات نشوء الكون، ولنر ما كانت عليه صورة العالم
والكائنات في ذلك الحين
:
»
لم يكن ثمة نزاع أو عدوان،..، ولم تكن ثمة خوذات
ولا سيوف، إذ كان الناس آمنين لا تفزعهم حروب.. وادعون لا يكدون ولا يعملون، يأتيهم
رزقهم رغداً من بلوط جوبيتر
..«.
ولكنها بعد فترة، سنوات أو قرون ر بما، باتت
هكذا
:
»
مضى الناس يكدون في فلح الأرض وحرثها، ويبذرون فيها حبوب الحنطة التي
جادت بها عليهم سيريس (ديميتير عند الإغريق)، وأخذت الثيران تئن تحت نير
المحاريث
«.
وفي مرحلة ثالثة صار الوضع الإنساني شديد القبح
:
»
طُبع
الناس فيه بطابع من الغلظة والقسوة فاستسلموا للمنازعات وشاعت بينهم الخصومات، غير
أن الشر لم يكن قد غلبهم على كل أمورهم(.. و) برزت الجرائم في أبشع صورها وغاب الحق
وانْمَحى الصدق ووئد الوفاء (..و) جرى الناس يكدّون بحثاً عن القوت، ويحفرون الأرض
منقِّبين عن معادنها المخبوءة في أحشائها، وامتدّ بحثهم حتى أدركوا مملكة الظلال
قرب نهر ستيكس، وانتزعوا من أعماق الأرض تلك الأشياء التي غدت
مصدر آلامهم،
فاستخرجوا الحديد وكانت معه الويلات، وأتبعوه بالذهب وكان أشدّ من الحديد ويلاً، إذ
كان كل من الحديد والذهب عوناً لهم على الحرب والقتال. وبالأيدي الآثمة شُهرت
السيوف لتلقى السيوف مصلصلة مجلجلة
«.
ليست هذه عبارات رواية من روايات
الخيال العلميّ، أو من الأفلام المنسوبة إلى هذا الخيال. إنها فقرات من ملحمة
الشاعر أوفيد »التحولات« أو »مسخ الكائنات« (ميتامورفوزس)، وجمع فيها تاريخ العالم
وأساطيره وخرافاته. لكن عمله الأساس، في اعتقادي، كان يختص بعمليات المسخ التي طالت
الكثير من الكائنات، الآلهة والبشر، فمسختها حيوانات ووحوشاً
.
ما يهمني هنا،
هو العودة إلى البدايات، بدايات الخليقة، ثم المسيرة التي قطعها البشر نحو صناعة
الشر والموت، وما الذي قادهم إلى ذلك، بعد أن كانوا هانئين برغد العيش، بلا كدح أو
عذابات؟ ولماذا اضطر الإنسان الأول إلى نبش باطن الأرض، بعد أن كان مكتفياً بما هو
على ظهرها من نبات وحيوان؟ ولماذا، بعد أن كان مكتفياً بالنبات، راح »يتوحش« أكثر
فيطلب اللحوم، مهما كان مصدرها، حيوانياً كان أم بشرياً، حتى بلغت البشرية ما بلغته
اليوم من تطور متوحش، بل وحشية متطورة، لا تتغذى إلا على لحم الحضارات
العريقة
!
هل هو الحاجة وعدم كفاية »المصادر«؟
يعيدنا هذا إلى تقسيم
المجتمعات عند جدّنا ابن خلدون، فقد قسمها، على أساس اقتصادي، إلى ثلاثة أقسام،هي
:
مجتمع الضرورة الذي يعيش على الكفاف والحد الأدنى الضروري للبقاء، ومجتمع الحاجة
الذي ينال أكثر من حاجته، ومجتمع الكمال والرفاهية الذي يسعى إلى الترف والتأنق
المبالغ فيهما
.
وبناء على هذا التقسيم، أعتقد أنه، حتى لو كان هناك نقص في
المؤونة آنذاك، وهذا أمر غير مؤكد، فإن السبيل إلى سد النقص لم يكن بالضرورة يمر
عبر الشر والقتل وسواهما. كان يمكن تفادي ذلك، لو أن المخلوق رضي بما لديه، ولم
يمدّ بصره ويده إلى ما متّع الله به سواه من الكائنات، فضلاً عن امتداد يده وسيفه
إلى الآلهة أنفسهم لكي يقاسمهم ما يملكون ويبلغ الخلود معهم.. وربما
قبلهم
!
أكلّما تقدم الدهر بنا ازداد تدهورنا، وكأن ليس لمرور الدهر من وظيفة
سوى الدفع إلى التدهور والتصحّر و.. حتى تغدو عبارة مثل »التكالب« و»التوحش« أقل من
الوفاء بالغرض؟
البشرية تتقدم، بالعلم، نحو مزيد من التخلف والهمجية. العلم
الذي كان سيكون طريق البشر إلى السعادة والرفاه والحرية، بات في الأيدي الهمجية
همجياً. يتقدم العلم والتكنولوجيا تتقدم على جثث وضحايا، كما لم يشهد التاريخ من
قبل
.
ليس هذا هو الثمن الطبيعي للتقدم. إنه الثمن لشكل من أشكال التقدم،
لتقدم ما. تقدم خير منه التراجع. وخير منه، إذا كان سيمضي في هذه الطريق، أن نعود
إلى الغابة ووحوشها. نعود إلى ذئب جدنا الشاعر الذي قال »عوى الذئب فاستأنست بالذئب
إذ عوى«! إلى زمن الخرافة والأسطورة
.
سوف نقيس الوقت بالظلال، ونحسب الأيام
بالقمر، ونعدّ الأرض بالينابيع
.
لنعد إلى صحراء إبراهيم الكوني الليبية،
وواحاته المقدسة بتقديس الحياة وتدنيس »التبر
«.
ما من مخرج لبني البشر من
هذا الجحيم.. سوى بوقف هذا الشكل من الـ»تقدم« والـ»تطور
«.
هذه رجعية؟ ليكن،
المهم هو الإنسان، لا العلم الذي يهدم الإنسان.. حتى يغدو البشر قادرين على توجيه
العلم والمال لمصلحة الإنسان! وحتى لا نقول كما قال جلجامش و»الجامعة ابن داود
«
وسواهما من المبدعين والشعراء
:
»
ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي
يُصنع،
فليس تحت الشمس جديد« (سفر الجامعة/ العهد القديم
).
أو »كان
ما سوف يكون« كما يختزل المسألة محمود درويش
.
عمر شبانة (كاتب من فلسطين
)
رد مع الإقتباس