عرض مشاركة واحدة
قديم 01-10-2013, 02:07 PM
المشاركة 195
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
في واحدة من نزوات (فايثون)، ابن إله الشمس (فويبوس)، يطلب »الولد« من أبيه أن يتخلى له يوماً عنمركبته الشهيرة »عربة النار«، التي تقودها الخيول المجنّحة. وتحت ضغط الابن، تخلىله فويبوس عن العربة، وأمر ربات (الساعات) بشدّ الجياد إلى النار، فاستجابت وأخرجتالجياد من الحظائر السماوية، تنفث اللهب متخمة بما التهمت من الأمبروزيا (طعامالآلهة). وأخذ الأب يزود ابنه بالوصايا التي تجعله يسيطر على المركبة، لكن الابناندفع »في حماسة الشباب واعتلى المركبة التي لم تنؤ بجسده الغض«، وكانت خيول إلهالشمس تملأ الأجواء بصهيلها وأنفاسها المشتعلة، وتضرب الحواجز بحوافرها. وبعد أنأزاحت الآلهة (تيثيس) الحواجز من طريق الخيل، وهي »تجهل المصير الذي ينتظر حفيدها«،انطلقت الجياد وقد أحست بالمركبة أخف مما كانت عليه حين يعتليها إله الشمس »وبدتالمركبة كالسفينة التي يتلاعب بها الموج لخفتها«، وأحست الجياد أن المركبة تتأرجحوتعلو كأنها فارغة، فـ»انحرفت عن طريقها وتخلت عن اتجاهها المعهود«. استولى القلقعلى الولد قائد المركبة »الذي تعوزه المهارة في القبض على أعنة الخيل فانفلتزمامها.. ولم يعد (الولد) يعرف طريقه، ولو قُدِّر له أن يعرفه فلن يقدَّر له أنيملك السيطرة على الجياد«. فالتهبت كوكبة الدب الأكبر الثلجية، ودبت ثورة محمومة فيكوكبة الثعبان و.. أخذت الكارثة تنشر نيرانها في كل مكان. ثم فجأة »أمسك العجببـ(لونا) ربة القمر وهي ترى جياد أخيها تهوي والدخان ينطلق من السحب المحترقةوالنيران تلتهم مرتفعات الأرض فتتشقق وتبرز فيها الأخاديد لجفاف تربتها وتلتهمالمراعي فتنقلب هشيماً، وألسنة اللهب تأكل الأشجار وأوراقها متخذة من حصاد الحقولوقودها.. إلى جانب اندثار المدن الكبرى واحتراق الأسوار وتهدمها وتحول شعوب بأسرهاإلى رماد.. وقد أكلت النار جبل أثوس (..)، وجبل الثور في سيليسيا وجبل.. كما أتتالنيران على جبل هيليكون موطن ربات الفنون، وجبل هيموس الذي ارتبط اسمه بعد ذلكباسم أورفيوس (...)، وتوهج اللهب في الأوليمبوس أعظم هذه الجبال شأناً، وبلغتالحرائق جبال الألب الشاهقة الارتفاع، وسلسلة جبال الإبنين التي تتوج السحبقمتها..«.

ونتابع المشهد الواسع الذي يرسمه أوفيد، متنقلاً في القارات، حيثالخيول جامحة على هواها تقودها أقدامها المجنحة بلا ضابط، فنسمع أنه قد »شاع بينالناس أن بشرة الأثيوبيين قد استحالت سوداء في هذه اللحظة، إذ انبثق الدم إلىبشراتهم. وفي هذه اللحظة أيضاً جففت الحرارة مياه ليبيا فغدت صحراء، وأخذت الحورياتينزعن شعورهن نائحات ينابيعهن وبحيراتهن المفقودة..«.

ويقول لنا أوفيد إنمياه الأنهار لم تسلم من لفح النيران الذي جفف الينابيع، ومن بين هذه الأنهار يذكر »نهر الفرات ببابل، والعاصي بسورية«.

وليس هذا سوى مشهد من مشاهد »المسخ« التي تصيب العالم حين يقوده »ولد« بلا خبرة أو مهارة. فهل لهذا المشهد علاقةبواقعنا الذي نعيش؟ ما العلاقة؟!

٭٭٭

في أي طور من أطوار »تطور« الوحشية نعيش اليوم؟

بأي المعايير يمكن أن يقاس هذا التطور، حين يقاسالتقدم والديمقراطية بارتفاع المقدرة على القتل والتدمير وهتك الحرماتالإنسانية؟

لنعد إلى بدايات نشوء الكون، ولنر ما كانت عليه صورة العالموالكائنات في ذلك الحين:

»
لم يكن ثمة نزاع أو عدوان،..، ولم تكن ثمة خوذاتولا سيوف، إذ كان الناس آمنين لا تفزعهم حروب.. وادعون لا يكدون ولا يعملون، يأتيهمرزقهم رغداً من بلوط جوبيتر..«.

ولكنها بعد فترة، سنوات أو قرون ر بما، باتتهكذا:

»
مضى الناس يكدون في فلح الأرض وحرثها، ويبذرون فيها حبوب الحنطة التيجادت بها عليهم سيريس (ديميتير عند الإغريق)، وأخذت الثيران تئن تحت نيرالمحاريث«.

وفي مرحلة ثالثة صار الوضع الإنساني شديد القبح:

»
طُبعالناس فيه بطابع من الغلظة والقسوة فاستسلموا للمنازعات وشاعت بينهم الخصومات، غيرأن الشر لم يكن قد غلبهم على كل أمورهم(.. و) برزت الجرائم في أبشع صورها وغاب الحقوانْمَحى الصدق ووئد الوفاء (..و) جرى الناس يكدّون بحثاً عن القوت، ويحفرون الأرضمنقِّبين عن معادنها المخبوءة في أحشائها، وامتدّ بحثهم حتى أدركوا مملكة الظلالقرب نهر ستيكس، وانتزعوا من أعماق الأرض تلك الأشياء التي غدتمصدر آلامهم،فاستخرجوا الحديد وكانت معه الويلات، وأتبعوه بالذهب وكان أشدّ من الحديد ويلاً، إذكان كل من الحديد والذهب عوناً لهم على الحرب والقتال. وبالأيدي الآثمة شُهرتالسيوف لتلقى السيوف مصلصلة مجلجلة«.

ليست هذه عبارات رواية من رواياتالخيال العلميّ، أو من الأفلام المنسوبة إلى هذا الخيال. إنها فقرات من ملحمةالشاعر أوفيد »التحولات« أو »مسخ الكائنات« (ميتامورفوزس)، وجمع فيها تاريخ العالموأساطيره وخرافاته. لكن عمله الأساس، في اعتقادي، كان يختص بعمليات المسخ التي طالتالكثير من الكائنات، الآلهة والبشر، فمسختها حيوانات ووحوشاً.

ما يهمني هنا،هو العودة إلى البدايات، بدايات الخليقة، ثم المسيرة التي قطعها البشر نحو صناعةالشر والموت، وما الذي قادهم إلى ذلك، بعد أن كانوا هانئين برغد العيش، بلا كدح أوعذابات؟ ولماذا اضطر الإنسان الأول إلى نبش باطن الأرض، بعد أن كان مكتفياً بما هوعلى ظهرها من نبات وحيوان؟ ولماذا، بعد أن كان مكتفياً بالنبات، راح »يتوحش« أكثرفيطلب اللحوم، مهما كان مصدرها، حيوانياً كان أم بشرياً، حتى بلغت البشرية ما بلغتهاليوم من تطور متوحش، بل وحشية متطورة، لا تتغذى إلا على لحم الحضاراتالعريقة!

هل هو الحاجة وعدم كفاية »المصادر«؟

يعيدنا هذا إلى تقسيمالمجتمعات عند جدّنا ابن خلدون، فقد قسمها، على أساس اقتصادي، إلى ثلاثة أقسام،هي: مجتمع الضرورة الذي يعيش على الكفاف والحد الأدنى الضروري للبقاء، ومجتمع الحاجةالذي ينال أكثر من حاجته، ومجتمع الكمال والرفاهية الذي يسعى إلى الترف والتأنقالمبالغ فيهما.

وبناء على هذا التقسيم، أعتقد أنه، حتى لو كان هناك نقص فيالمؤونة آنذاك، وهذا أمر غير مؤكد، فإن السبيل إلى سد النقص لم يكن بالضرورة يمرعبر الشر والقتل وسواهما. كان يمكن تفادي ذلك، لو أن المخلوق رضي بما لديه، ولميمدّ بصره ويده إلى ما متّع الله به سواه من الكائنات، فضلاً عن امتداد يده وسيفهإلى الآلهة أنفسهم لكي يقاسمهم ما يملكون ويبلغ الخلود معهم.. وربماقبلهم!

أكلّما تقدم الدهر بنا ازداد تدهورنا، وكأن ليس لمرور الدهر من وظيفةسوى الدفع إلى التدهور والتصحّر و.. حتى تغدو عبارة مثل »التكالب« و»التوحش« أقل منالوفاء بالغرض؟

البشرية تتقدم، بالعلم، نحو مزيد من التخلف والهمجية. العلمالذي كان سيكون طريق البشر إلى السعادة والرفاه والحرية، بات في الأيدي الهمجيةهمجياً. يتقدم العلم والتكنولوجيا تتقدم على جثث وضحايا، كما لم يشهد التاريخ منقبل.

ليس هذا هو الثمن الطبيعي للتقدم. إنه الثمن لشكل من أشكال التقدم،لتقدم ما. تقدم خير منه التراجع. وخير منه، إذا كان سيمضي في هذه الطريق، أن نعودإلى الغابة ووحوشها. نعود إلى ذئب جدنا الشاعر الذي قال »عوى الذئب فاستأنست بالذئبإذ عوى«! إلى زمن الخرافة والأسطورة.

سوف نقيس الوقت بالظلال، ونحسب الأيامبالقمر، ونعدّ الأرض بالينابيع.

لنعد إلى صحراء إبراهيم الكوني الليبية،وواحاته المقدسة بتقديس الحياة وتدنيس »التبر«.

ما من مخرج لبني البشر منهذا الجحيم.. سوى بوقف هذا الشكل من الـ»تقدم« والـ»تطور«.

هذه رجعية؟ ليكن،المهم هو الإنسان، لا العلم الذي يهدم الإنسان.. حتى يغدو البشر قادرين على توجيهالعلم والمال لمصلحة الإنسان! وحتى لا نقول كما قال جلجامش و»الجامعة ابن داود« وسواهما من المبدعين والشعراء:

»
ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذييُصنع،

فليس تحت الشمس جديد« (سفر الجامعة/ العهد القديم).

أو »كانما سوف يكون« كما يختزل المسألة محمود درويش.
عمر شبانة (كاتب من فلسطين)