عرض مشاركة واحدة
قديم 01-10-2013, 02:07 PM
المشاركة 194
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
هل نحن شخوص ملاحم أسطورية، أم أننا وقائع تاريخية جسدتها الأساطير القديمة منذ آلاف السنين؟ وما الفرق بين أسطورتنا وواقعيتنا؟ بين الخيال والواقع؟ وهل يتخيل الخيال ما هو خارج الواقع؟ أم أن ما يحدث أكثر خيالية من المتخيل؟

ما يجري في الواقع يجري تحويله إلى مادة متخيلة. ومهما بلغ الخيال من قوة التخيل في الانزياح عن الواقع، يظل الواقع أغنى من أي خيال. ولنقرأ الملاحم والقصائد الأسطورية، وسنرى أن الإنسان الواقعيّ هو إنسان الأسطورة نفسه. وأن إنسان الأسطورة كان واقعياً وتاريخياً، في همومه وقضاياه وأسئلته.

يبدو أن الإنسان منذور للكارثة. ففي الواقع ، كما في الأسطورة، هذا هو مصير البشرية منذ هبوط آدم، مروراً بالطوفان العظيم الذي نراه في الكتب المقدسة كما في الملاحم والأساطير، حتى يومنا الذي نعيش. كأن لا فرق بين الواقع والخيال والأسطورة، تتشابك هذه جميعاً لتصنع مصير البشر. فليست الأسطورة محض خيال في مجملها، بل إن جزءاً كبيراً منها، كما يؤكد علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخون والفلاسفة، هو وقائع جرت »أسطرتها«. فمن أقدم الملاحم البابلية »جلجامش«، وهي ملحمة ملك أوروك، إلى ملاحم الرومان والإغريق، حتى الأعمال الباهرة للعصر الوسيط، نجد أن الأساس الذي تقوم عليه هذه الملاحم هو الواقع لا الأسطورة، حتى لو جاء هذا الواقع وشخصياته في صورة آلهة وأبطال خارقين.

أقول هذا وأنا أقرأ اليوم ملحمة »جلجامش« الخالدة (كتبت مطلع الألف الثانية قبل الميلاد)، من جهة، وملحمة الشاعر الروماني أوفيد (43 ق.م حتى 18 ب.م) المعروفة بـ»مسخ الكائنات« (التحولات/ أو الـ:Metamorphoses، التي كتبت في بدايات القرن الأول بعد الميلاد)، ولأقرأ، من خلالهما، وقائع تجري في واقعنا المعاصر، بحرفيتها حيناً، وعلى نحو مختلف ومتنوع حيناً آخر. ولا أدري ما الذي دفع أفلاطون ليطرد شعراء الأساطير من مدينته الفاضلة، وينظر إليهم نظرته للمفسدين للفكر، مع أنهم هم من حفظ لنا ذلك التاريخ الذي لا يكتبه المؤرخون. فبعد أفلاطون عادت الأسطورة، كما يقول ثروت عكاشة في تقديمه »مسخ الكائنات«، و»ظهرت في شكل جديد وقد تحولت إلى تراجيديا، وصار هذا التحول نقطة تغيير واضحة ووجهة نظر جديدة في الأسلوب الأسطوري نفسه«.

سأتناول هنا، على نحو يقترب من القراءة الاختزالية، إحدى معارك جلجامش الكبرى، وهي معركته ضد الأفعى »حواوا« (أو خمبابا) التي خاضها بالاشتراك مع صديقه »أنكيدو«، لما في هذه المعركة من ذكر لـ»أسلحة الدمار الشامل« التي استخدمها ملك أوروك في مواجهته مع رمز من رموز »محور الشر«، وتمكن من القضاء عليه. كما سأتناول، على صعيد مكمل للصعيد الأول، جانباً من كتاب »مسخ الكائنات«، هو الفصل الأول من »الكتاب الثاني«، والخاص بالمدعو »فايثون« ابن إله الشمس فويبوس، الذي دمّر الكون في واحدة من نزواته لاحتلال مكان أبيه فوق عربة النار التي تجرها الخيول المجنّحة، لما في هذه القصة من دمار وخراب (ليس له علاقة إطلاقاً بما فعلته وتفعله الصواريخ »الذكية« ببغداد وغزة وسواهما).

في ملحمة »جلجامش« الخالدة، نقرأ سيرة ملك/ إنسان طامح للخلود، وفيها من التأملات الفلسفية والتجربة الحياتية ما يمكن أن يعكس حياة غير بعيدة من تصوراتنا عن الآلهة. وسواء كان جلجامش شخصية تاريخية واقعية جرت »أسطرتها«، أم كان شخصية أسطورية تنطوي على الكثير مما هو واقعيّ، فالمسألتان الواقعية والأسطورية تتداخلان في هذه الشخصية، كما تتداخلان في الكثير من الشخصيات التاريخية المعروفة من آلهة وأنبياء وأبطال.

ما يهمنا هنا، في هذه الملحمة، أن جلجامش »البابلي« الطامح للخلود، والذي جسّد طموحه في حروب كثيرة، يطمح لتخليص بلاد بابل، والعالم كله، من »إرهاب« الأفعى خمبابا، التي تعيث في الأرض فساداً، كما تفعل قوى عظمى لا أحد يجرؤ على مواجهتها. وحين يخبر جلجامش صديقه أنكيدو بوجهته، يستهجن هذا ما يفكر به الملك، ومثله كثيرون يستهجنون. فمن يعرف حواوا يصيبه الرعب والصدمة:

في الغابة هناك يعيش حواوا الرهيب

هيّا. أنا وأنت. نقتله

هيّا نمسح الشر كله عن وجه الأرض

ويجيبه أنكيدو الذي يكاد لا يقل عنه قوة وبطولة، أنه يعرف هذه الغابة، غابة الأرز التي يعيش فيها حواوا، فهو »يزأر فيها، في فمه نار، وفي أنفاسه العطب..«. فالمعروف أن »أنكيدو« كان يعيش في الغابات، رفيق الحيوان البري، من غزلان وسواها، حتى جاءته تلك »المحظية« فتاة البهجة المدعوة في ذلك الزمن (courtezan)، التي أرسلها إليه جلجامش حين سمع عن قوته، وقد حركت فيه تلك »البغي« الرغبة، فقضى معها ستة أيام وسبع ليال »روّى نفسه من مفاتنها«، وحين يمم وجهه شطر رفاقه الحيوان، ولّت وفرّت أمامه.. تركته في حيرة خائر القوى، تعثر في جريه.. لكنه »غدا عارفاً واسع الفهم«، وعاد إلى المرأة فقادته إلى جلجامش.

وبدلاً من غابة الأرز، هاهو حواوا يجتاح غابة النخيل. ويرى »العراقيان« جلجامش وأنكيدو ما يفعل خمبابا الشرير في الغابة. يتقدم جلجامش، ويفكر أنكيدو: كيف نستطيع المضي إلى غابة (النخيل) وحارسها، جلجامش، محارب عنيد، عتيّ لا يغمض له جفن..؟

ليس خوفاً أو رهبة مما قال صديق الفلاة وحيوانها. بل دعوة للتفكر في الوسائل الكفيلة بالنصر على »الأوغاد الأشرار«.

فيردّ عليه جلجامش:

الآلهة هم الخالدون في مرتع شمش

أما البشر، فأيامهم معدودة على هذه الأرض

وقبض الريح كل ما يفعلون

أراك خائفاً من الموت وما زلنا هنا سأمضي أمامك

فإذا سقطت، أصنع لنفسي شهرة:

لقد سقط جلجامش

صرعه حواوا الرهيب..

سأقطع أشجار الأرز

وأنقش لنفسي اسماً خالداً

وجمع جلجامش صنّاع الأسلحة وطلب إليهم أن يصنعوا له »أسلحة الدمار الشامل«، فمواجهته لن تكون سهلة. فقد خبر الحروب، وخاض الكثير منها، ولكي يحارب حواوا، قال فليصنع صانعو السلاح ما هو أشد فتكاً، وقد صنعوا له:

صنعوا أسلحة عظيمة

صبوا فؤوساً تزن الواحدة منها ثلاث وزنات (الوزنة البابلية تعادل ستين رطلاً)

صبوا سيوفاً هائلة يزن نصل الواحدة منها وزنتان

ومقبضه ثلاثون رطلاً

وغمده من ذهب زنته ثلاثون رطلاً..

.. ما أقوى ابن أوروك.. هذا ما سأجعل البلاد تسمعه

وبعد صراع عنيف، حاول حواوا الاستسلام، أظهر رغبته في الهدنة، واعداً جلجامش بأن يكون خادماً له، لكن أنكيدو يعلم أن هذه حيلة من حيل الأفعى، وقد نصح رفيقه أن لا يعير سمعاً للأفعى، وأن لا يبقي على حياتها. وهو ما جرى حقاً، فقد قطع »البطلان« رأس حواوا وعادا إلى أوروك من حملتهما ظافرين.

وآخر معارك جلجامش كانت ضد ثور السماء. صحيح أن أنكيدو هو الذي صرع ثور السماء الذي أرسلته عشتار على جلجامش لأنه رفض الزواج منها، لكنه هو، جلجامش الملك، من قاد المعركة، وليس أنكيدو. فقد أرادت عشتار أن يكون زوجاً لها بعد انتصاره على »حواوا«، وبعد أن رأته قد »غسل شعره الطويل، وأسدل شعر رأسه على كتفيه. وعندما وضع تاجه على رأسه، شخصت عشتار العظيمة إلى جماله:

»تعال يا جلجامش وكن حبيبي

هبني ثمارك هدية

كن زوجاً لي وأنا زوجاً لك

سآمر لك بعربة من ذهب ولازورد..«.

لكن الملك يدرك ما تفعله المرأة عشتار بعشاقها، وما فعلته »المحظية« برفيقه أنكيدو، لذا راح هو، جلجامش، يعدّد عشاقها وما فعلت بكل منهم، فاستنجدت بأبيها:

مضت إلى حضرة أبيها آنو

مضت إلى حضرة أمها آنتوم:

أبتاه. قد شتمني جلجامش

وعدّد قبيح فعالي

قبيح فعالي ولعناتي..

أبتاه. اخلق لي ثور السماء يهلك جلجامش..

و.. (هكذا) هبط ثور السماء (...)

في خواره الأول قتل مائة رجل

مائتين، ثلاثمائة

في خواره الثالث انقض على أنكيدو

ولكن أنكيدو (أحبط) هجومه..

.. وأمسك بقرني ثور السماء

فأرغى ثور السماء وأزبد..

.. وبين مؤخرة الرأس والقرنين غيّب نصله..

.. بعد ذلك استراح الأخوان (أنكيدو وجلجامش).

فالذي قتل ثور السماء هو أنكيدو، وجلجامش هو من أخذ وسام النصر. إنه هو الملك.