عرض مشاركة واحدة
قديم 01-07-2013, 03:40 PM
المشاركة 164
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
الجبل السحري" لـ توماس مان</span>
من يقرأ "الجبل السحري" لتوماس مان، لا بد أن يتعذب. فالرواية، الصادرة حديثا عن "دار الجمل"، ترجمة علي عبد الامير صالح، في ألف صفحة تقريبا، لا تشكل تحديا لجلد القارئ وصبره وحسب، بل يمثل موت شخصياتها المأسوي، وأفولها "الحقيقي" والمتدرج، نوعا من التفريغ الممنهج للمكان المحدد، والتجريد المنظم للإيديولوجيات المنطوقة في العمل. بمعنى، إعادة القارئ إلى الأول، إلى فراغ بدائي، بعد امتلائه بنقاشات واحتدامات فكرية وإيديولوجية، سياسية ودينية، إضافة إلى الإشارات العلمية الطبية والكيميائية التي ترد في العمل. عندما كتب توماس مان المتأثر بشوبنهاور ونيتشه، عمله هذا، الذي يحمل كما هائلا من السوداوية وحضورا مباغتا وصادما للموت، على رغم عمله على تهيئة القارئ قبل صدمه بلحظة الغياب، كان يكتب زمنه "الحاضر" آنذاك. زمنه الذي كانت خطواته تتلمس عتبة التاريخ بعيد الحرب العالمية الاولى. كان عالم توماس مان مهشما، ممزقا، حيث احتلت "اللاجدوى" حيز كل تأمل فكري، فيما كانت ألمانيا الممزقة مأخوذة بلملمة بقاياها وإعادة تجميعها إثر هزيمة أمبراطوريتها. وكانت الدول العظمى المنتصرة تتهيأ لتغيير ماكياج العالم وتضع الخطط لذلك. إنتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى لم يدم عمليا لأكثر من إحدى عشرة سنة، ففي عام 1929، كانت كارثة انهيار الأسهم في شارع وول ستريت، ثم صعود نجم هتلر بعد ست سنوات على ذلك الحدث، ما وضع العالم بأسره، في فرن التسخين لإدخاله في "مختبر" الحرب العالمية الثانية. لكن، لا شك أن فترة ما بين الحربين، شهدت بروز تيارات فكرية وفلسفية، لم يكن بناؤها ليكتمل لولا نشاط آلة القتل العسكرية، وسقوط الضحايا المدنيين على اختلاف اجناسهم وجنسياتهم ودياناتهم وميولهم الفكرية. فالموت، كان شرطا متفردا بذاته، وأحد المحفزات الضرورية لبلورة إيديولوجيات متنافرة، بين الدنيوية والماورائية، الملحدة والمؤمنة، الرأسمالية والماركسية الإشتراكية، والعدمية والمادية، إلخ. الموت إذاً، بتجليه الاعظم، مفتتحا القرن العشرين، كان الساحر الذي أخرج من قبعته جبلاً، الجبل الذي نسب إليه، "الجبل السحري".
لا تشترط هذه الرواية الضخمة، تقنيا، قراءة متأملة وبطيئة بطء سيارات لندن عام 1917، فحسب، بل تشترط كذلك أن يكون القارئ مجهزا للتطويع، والتقلب مع أمزجة الشخصيات المضبوطة في معظمها، واختلافات آرائهم وسذاجاتهم. يمكن القول إنها رواية وضعها الروائي والقاص الألماني توماس مان (جائزة نوبل للآداب عام 1929) لاستنزاف القارئ، لملئه ثم إعادة سكبه خارج عقله واقتناعاته وكأنه دلو عملاق. فهي ليست رواية الحدث الواحد، وليست رواية السلسلة المتعاقبة من الاحداث، ايعتمد الواحد منها على الآخر، إنها بالطبع ليست ميلودراما، ولا تراجيديا، وإن حملت بعض ملامح الاولى من حيث انطواؤها على ما يمكن تسميته، "الحدث الفكري" الذي يجر وراءه حدثا آخر، هو عبارة عن رد فعل فكري، أي إيديولوجيات متعاقبة غير متشابهة، رصينة وعنيدة وخطيرة بإصرارها على الإقناع، والكثير من مفاصل الثانية لجهة انكسار المكان على غياب الأشخاص، واتكاء المؤلف على هذا الغياب واستثماره جماليا في لغته القاسية. قد تكون أي مراجعة نقدية لهذا العمل، غير وافية لأسباب تتعلق أولا بتعذر فحص لغة الرواية الأصلية (ألمانية)، وثانيا لخصوصية الألمانية الصعبة وجوازات استعمال المفردات والتشابيه والاستعارات، والأصوات، وثالثا، لاحتواء الرواية على عوامل تتعلق ببنيتها الفريدة، واستخدام المكان، كعزلة للأصوات والجسد الواهن، واستثمار هذا المكان لتأجيج حدة الدراما والسرديات التي تتداخل فيها الحكاية بشكل مقتضب، والسوداوية. فالمكان الذي اختاره توماس مان للشخصية الرئيسية في العمل، هو مصحّ للمعالجة من الامراض الرئوية المهلكة أو الإلتهابات الرئوية "العادية". فهو مكان للموت، للفناء، فناء العقل ماديا بعد استهلاكه. وهو بنأيه جغرافياً، وقد اختاره توماس مان ليكون بعيدا من المظاهر المدينية لاسباب أدبية وفكرية وحتى تقنية، يتعاظم حضوره، ورهبته في عين القارئ، فيصبح مكانا مخيفا، ومقلقا. إلا ان كماشة توماس مان، لا تتوقف هنا، إذ يختار لأبطال روايته سقوفا عالية لا تصل اليها انظار العامة ولا مهاراتهم الفكرية والفنية. إذ يلفت أن الابطال، هم أشخاص ذواقة في الموسيقى والأدب والفن والفكر، وهم على اطلاع دائم على كل منتج البشرية في ذلك الوقت. ذلك البناء الداخلي للشخصيات، يفرض عليها عزلة اجتماعية أو اختلافا على الأقل، يتكاثر حتى ليشعر معظم هؤلاء أن مكانهم الآني، هو مكانهم الطبيعي، وأن التواصل مع أشخاص تستضيف اجسادهم امراضا خطرة، هو لأجدى من أي تواصل مع عامة من الناس، يتمتعون بصحة جيدة، وأجساد سليمة. إلا أن مان لا يحدد هذا الأمر صراحة، فالسمو بالفكر الاعلى، يبدد كل احتمال للنظر إلى "الأسفل". تالياً، تنسج الرواية في أفق واقعي، صلب، قاس، لا يهادن، يحاول اختراق القيم الانسانية وتعليلها وتفكيكها ثم إعادة بنائها، في أسلوب، لا يمكن وصفه إلا بالكلاسيكي الثقيل، الغزير، الحاد، الهادئ، المتوازن مع رؤى المؤلف. للحقيقة، فإنها رواية مرهقة، لإشتمالها إلى جانب عوامل ذكرناها توا، على ازمنة أفلتْ، وانطوت على ذاتها، ولم تعد ربما تعني أحدا، على الرغم من ان البشرية لم تستعد النفاذ بعيدا عن التيارات الفكرية المتداولة، والتي أعيدت صياغتها وتحويرها لمصالح امم على حساب أخرى، و"إنسانية" على حساب "إنسانية" أخرى كذلك. لكنها رواية، وبحكم تقديمها في 2010 للقارئ العربي، تمثل درسا في الأدب، وضبط الافكار ووضعها بشكل متأنٍّ على سكك، وخطوط. فمتى شاء الكاتب التقت، وتماهت وتآمرت. ومتى شاء، انفصلت عن بعضها وتفككت، واصطدمت مشكّلةً ذرى صغيرة أو تلالاً يتسلقها الأسلوب تارة وينزل عنها متزحلقا، بخفة وترقب، تارة أخرى. قد لا تنفذ الراحة إلى ذهن القراء، مع جبله السحري، هدية توماس مان، وقد ينتابنا شعور بضيق في التنفس بالفعل، أو نصاب ونحن نقلب الصفحات، بوسواس مرضي ذي علاقة بالجهاز التنفسي، أو نقول مثلا، "كيف لم نصب بهذا المرض، كم نحن محظوظون". من دون أن نغفل حقيقة كونها رواية، تتوجه إلى العقل مباشرة، لا تعنى بالوصف إلا قليلا، وتهدف إلى استنفار المتناقضات ووضعها من دون أحكام نهائية عليها. هي رواية الفكر، لا الغريزة والعاطفة، وظيفتها تشريح الدماغ أمام صاحبه، من دون مخدر، يصطحبنا إلى غرفها هانز كاستورب، البطل الشاب كإبن خالته المريض وسائر الشخصيات الاخرى. من خلال حوارات تكاد لا تنتهي، يتم وضعنا جانبا، على مسافة بدنية وذهنية، مخافة أن نصاب بعدوى الشخصيات التي لا يخفى على أحد ذهولنا بملكاتها الفكرية.

(النهار)</span>