عرض مشاركة واحدة
قديم 12-09-2012, 07:26 PM
المشاركة 20
د نبيل أكبر
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي


خامسا: إدعائك بأنني لا أعمل بالسنة النبوية الشريفة


إن إكمال الدين يعني اكتمال المفاهيم والأسس والأهداف من هذا الدين. ومن هذه الأسس والمفاهيم إن القرآن كريم لا ينفذ عطاءه وإن العمل والتفكر والتقدم في جميع المجالات ضرورة لابد منها وما إلى ذلك من مفاهيم تقوم عليها المجتمعات.


أما قولك أن هناك مواضيع في القرآن لا ينبغي أن تمس (كموضوع "العقيدة" مثلا) فلا أجد له دليلا من القرآن ولا من السنة وليس لبشر من طين أن يحدد ما هو مسموح مما هو ممنوع بلا دليل قرآني واضح لسبب بسيط وهو أن الناس لن تتفق أبدا على شيء واحد في أي أمر وشأن، وبالتالي ليس بإمكان أي إنسان أن يقرر أمرا عظيما كهذا إلا أن يفرضه "فرضا" على العقول كما هو الحال الآن. ولا ينبغي فرض أي أمر كان على عقول الناس، فكما تعلم فلا إكراه في الدين.



إن من الدين نفسه أن في القرآن كنوزا لا من سلف ولا نحن ولا بعد مليون سنة ستستطيع البشرية كشف جميع أسرارها. ولقد تواتر في الأيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة فضل القرآن وأن عجائبه لا تنتهي فكيف نقول ونؤمن بذلك بينما نحصر فكره وعطاءه على زمن محدد؟


فمثلا الله سبحانه عظيم ونحن لا نستطيع إدراك الكلمة بحد ذاتها من دون دلائل وإثباتات. لذا فخلق سبحانه الكون بعظمته لندرس "عظمته" من خلال الخلق. وهو بديع فكيف ندرك إبداعه تعالى من دون مخلوقات بديعة من حولنا؟


وهو سبحانه يظهر أسمائه الحسنى كلها في الخلق كي نفهم نحن بعضا من هذه الأسماء فنعبده حق عبادته.


ومن أسمائه تعالى الحسنى "الباطن" والظاهر. فكما أظهر كل ما نراه فهو تعالى أبطن أمورا كثيرة سواء في كتاب القرآن الكريم أو في كتاب الخلق المبين. فوجود أمورا باطنة في القرآن يستدل بها من القرآن نفسه.


إن هذه الأمور المبطنة والأسرار المكنونة لا تشمل ما يسمى بـ (الإعجاز العلمي) وحسب بل تشمل كل الأمور. ولا ينبغي لنا تقسيم القرآن إلى إعجاز علمي، إعجاز تصويري، لغوي، ... علينا أن لا نضع أسماء وتقسيمات في كلام ربنا تعالى فهو سبحانه الواحد الأحد وكل كلامه "واحد".

فأرجو بعملي أن أكون متبعا للسنة النبوية، ولا أجد نفسي مخالفا لحديث موثق واحد. وخلافي مع البعض ليس مع القرآن الكريم أو السنة النبوية العطرة وأعوذ به تعالى من ذلك، إنما هو في فهم القرآن والسنة النبوية واستخلاص الدروس والعبر منهما.


فمثلا يرد البعض علي بالحديث النبوي الشريف: من أحدث من أمرنا ما ليس منه فهو رد.
وأنا أنظر للحديث بإيجابية. فالعمل على النظر والتفكر والتأمل في آياته القرآنية والكونية أمر علينا فكيف يقال عن من يتفكر ويعمل بالقرآن والأكوان ويربط بينهما أنه مبتدع؟ فهل من يقول بعلم جديد يقوم بنشره مبتدع؟ أوليس التفكر والعمل وعدم الاعتماد على فكر الآخرين في كل شأن هو من أصل الدين؟


فمن وجهة نظري فالذي يعمل ويتفكر ويتدبر ويدرس القرآن وآياته أولى باتباع القرآن والسنة والصحابة رضى الله تعالى عنهم من الذين لا يتفكرون ومن ثم لا يعملون.


الذي يتفكر أولى باتباع الدين الصحيح من غيره لأنه يطبق ما في هذا الدين من مفاهيم من أهمها أن القرآن كريم والكريم لا يبخل في عطائه وهو مجيد والمجيد لا شيء يسعه، وهو مبارك والمباركة الاستمرار في العطاء.


وبالنسبة للحديث النبوي الشريف: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. فنعم علينا اتباعه وعلينا باتباع هذه السنة. لكن هذه السنة هي سنة فعل ولا ينبغي حصرها على القول وقد كان الصحابة يبحثون ويجتهدون في التفكر في آياته ويتعلمون من القرآن الكريم مباشرة ثم ينشروا هذا العلم وهذا ما ينبغي علينا جميعا فعله. هذه هي السنة ...


فهل من منكر بأن الصحابة كانوا يبحثون ويتدبرون في معاني القرآن؟ وهل لو اتبعنا سنتهم هذه نكون قد خالفناهم؟



بالنسبة لي فأضع السنة النبوية على رأسي، لكني أضع القرآن الكريم فوق ذلك بكثير إذ إنه كلامه تعالى المحفوظ فما من شيء يقارب كلامه تعالى دقة ومتانة وإعجازا وإبداعا.


ثم علينا أن نأخذ من الأحاديث النبوية الشريفة ما لا يتعارض مع القرآن فإن كان من تعارض فالأولى أن نأخذ بالقرآن الكريم والسبب هو أن عندنا كتاب واحد منه تعالى ولكن عندنا الكثير من الأحاديث التي قد تتعارض فيما بينها أحيانا والسبب طبيعي ومعلوم إذ إن الناس تنسى أو تغفل أثناء عملية نقل الأحاديث ولكن القرآن لا ينسى ولا يغفل.


ففضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه كما تواتر في الأحاديث. لو تفكرنا في هذا الحديث وطبقناه فعليا وعلمنا إدراكا فضل الله تبارك وتعالى على سائر الخلق وعظمته بالنسبة لصغر الخلق ورحمته بالنسبة لقسوة الخلق وغناه تعالى بالنسبة لفقر الخلق ووحدانيته تعالى بالنسبة لتفرق الخلق وما إلى ذلك من مقارنات فإننا عندها سننظر لكلام الله تعالى بطريقة مختلفة.


إن القرآن مهجور هذه الأيام للأسف الشديد. نعم هو منتشر في كل مكان والناس تقرؤه كثيرا لكنها لا تتفكر فيه كما جاء:


وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (الفرقان:30)



فالخطاب ليس للمشركين إذ هم لم يؤمنوا به أصلا ولكن الخطاب للمسلمين الذين هجروا التفكر والبحث في آياته.


وبالنسبة للسيرة النبوية فأنا أقوم بفهمها من منظور جديد، ولا أنكر منها إلا ما يسيء إلى سيدنا سيد الخلق محمدا عليه وآله وصحبه الصلاة والسلام.



وبالنسبة لقول أبي بكر رضى الله تعالى عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأي.


فأولا هذا الكلام ينطبق عليك أيضا إذ أنت تقول وتفتي وتتكلم في القرآن برأيك الذي هو في الأصل رأي غيرك، لكنه في نهاية المطاف "رأيك" لأنك اخترته من دون غيره. الفرق بيني وبينك أني أعمل على التحسين وإضافة فكر جديد باجتهادي وعملي الذي أسأل عنه يوم الحساب، بينما تعمل حضرتك على التجميد والحصر الذي تعلمته من غيرك.


لكن الأهم من هذا أن أبا بكر كان يتكلم عن نفسه ولم يكن يشرع بتحريم التفسير.
فمثلا أكل أبو بكر تمرة يوما في بيته وبعد بلعها سأل عن مصدرها فقيل له كانت صدقة لفلان فأخرجها رضي الله تعالى عنه بطريق التقيؤ. طبعا نحن لا نفعل ذلك ولسنا مأمورين بذلك ولكنه فعلها مخافة منه تعالى.


كما إنه لو أخذنا هذه الرواية من باب التشريع، فجميع المفسرين هلكة من منظورك لأنهم ليسوا – كما أحسب – خيرا من أبي بكر، فإن لم يفسر وهو أعلمهم فعلى أي أساس يفسر المفسرون؟




إن وجود أمور مبطنة في القرآن الكريم ليس بجديد، بل هو من أبجديات الطبيعة من حولنا. ففي جميع المجالات النظرية والتطبيقية، تبقى الكثير من الأمور أسراراً إلى أن نرقى بأسلوبنا وعلمنا إلى درجة تمكننا من تطوير الوسائل اللازمة لسبر أغوارها، ولكل سِر متطلباته المتفاوتة من الوسائل.
فعلى سبيلِ المثال، كانت هناك مؤشرات في التاريخ بإمكانية طيران الإنسان تتمثل بمُشاهدة الطيور، ولكننا لم نستطع الطيران إلا بعد اكتشافات قوى الجاذبية والإيروداينمكية والقدرة على تصنيع وتشكيلِ المواد بما يلبي جميع قوانين ومتطلبات الطيران. فلو كانت الأسرار من أبجديات خلق الله عز وجل، أفَلا تكون من أبجديات كتابِه؟


فاللهُ تبارك وتعالى وضع وأبطن أسراراً في الخلق وفي القرآن لأنه تعالى الباطن، وفي نفس الوقت وضع مؤشرات لهذهِ الأسرار. فمتى تفكر الإنسان وفَعّل العقل فتح عليه ببعض من الأسرار.


إن زمن اكتشاف بعض أسرار القرآنِ قد حل. فبنضوج العقل البشري بتراكم العلوم والمعارف والخبرات السابقة وبتطور وسائل الاتصال والانتقال والحاسوب والعلوم الكونية والإنسانية يمكن اكتشاف العديد من أسرار الكتاب بالوسائل التي لم تكن متوفرة لمن قبلنا.


لذا فإنني أختلف كثيراً مع المفسرين وأبيّن بالعلم وبالعقل وبالمنطق السليم والحجّة الراجحة صدق أقوالي ومذاهبي. وفي هذا السياق أفَسر الآية 134 من سورة البقرة والتي تكرر معناها في أكثر من موضع:



تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون {البقرة : 134}


فالتفسير المتداول هو أن لكل أمة ولكل إنسان عمله، ولا تزر وازرة وزر أخرى. فلا علاقةَ لنا بذنوب واختلافات الأمم السابقة ولا بالخوضِ فيها. هذا التفسير صحيح ولكنه ناقص لشمله العمل من دون العلم. فلم لا نفهم أننا لن نسأل عن علم الأسلاف كما أننا لن نسأل عن عملهم؟ فلهم ما كسبوا من العلم ولنا ما كسبنا منه ... أوليس العلم من العمل؟



ومن أمثلة الحجج التي يستخدمها الناس لإبعاد القرآن عن العقل قولهم إن كنا مثلاً لا نستطيع فهم الحكمة بالعقل من كون صلاة المغرب ثلاث ركعات بينما العشاء أربع، فينبغي إذن أن لا نسعى لتفسير جميع ما يختص بالدين بالعقل والمنطق!

والجواب على هذه الحجة سطحي بسيط. فمن غير المطلوب منا أن نفهم كل ما يخص الشرائع، فإن فهمنا الحكمة من أمر ما فحسن، وإن لم نفهم فعلينا بالاتباع في كل الأحوال.
كما إن كوننا لا نستطيع تفسير البعض لا يعني أبداً ترك الكل، فهل نقول للطالب في الإمتحان إن لم تستطع حلّ أحد الفقرات فلا تحاول الإجابة عن الإسئلة الأخرى؟!


ثم لماذا كان على الأسلاف تفسير القرآن وفهم الدين جملة وتفصيلاً في زمنهم بينما وقف علماء الطبيعة كالطب والفلك والفيزياء عاجزين في زمنهم عن فهم وفكّ جميع الأسرار الكونية؟ لماذا لم يعترفوا أنّ هذا الدين كبير – أكبر من إمكانيتهم وخبراتهم الإنسانية في ذلك الزمان – وأنّه تعالى قد حفظ بعض الأسرار والأنوار والحكم لمن سيأتي بعدهم من الأمم؟ أليس هذا من العدل الإلهي؟



ومن الحُجَجِ المستخدمة هي أنَّه لا يجوزُ تحميلُ القُرآنِ ما لا يحتملُ من تفسيرٍ وتأويلٍ. نعم هذا صحيحٌ ولكنَّ هل عندنا ميزانٌ نقيس به كلَّ جديدٍ لنقول بما يُحْتملُ وما لا يُحْتملُ؟


المفارقة أنَّ الذين يزعمون تفسير القرآن بالقرآن هم أنفسهم الذين يجعلون آياتٍ من القرآن تنسخ وتمحي آيات أخرى من القرآن! ثم يدعون أنهم يفسرون القرآن بالقرآن! ولكن في الحقيقة هم أبعد ما يكونون عن ذلك. فهم على النقيض يحرقون القرآن بعضه ببعض.


ومن الحجج التي يستعملها الناس لحصر تفسير القرآن على فئة منهم هو قولهم "لم يقل به أحد من السلف" أو "أأنت أعلم أم هو" ... وأرد على هذا بما يلي:



فأولا من يجزم أن الأعلم لا يخطئ؟ ثم كيف نعرف أن هذا أعلم من هذا؟ ثم ما هو معيار مقياس العلم هذا؟ وهل يمكن أن نقارن علم شخص مات منذ ألف سنة مع شخص آخر من هذه الأيام؟ ولنفترض أن زيداً أعلم من عُبيد، فكيف نعرف أن زيداً ليس منافقاً تعلم من أجل فتنة الناس والظهور عليهم؟ أوَ لا يوجد منا منافقون يحسبهم الناس من الأولياء؟


ثم كيف نجعل قياس "العلماء" – الذين يختلفون في زمن واحد ضمن مذهب واحد فضلا عن اختلافهم في أزمان متباعدة – معياراً ثابتاً يجب أن يطبق على جميع الأزمنة؟


ثم لو قال به أحدٌ من الأسلاف فما الداعي إذن للقول به الآن؟ فإما أنْ يقولَ المرءُ المُفكِّرُ العالمُ المجتهدُ شيئاً جديداً أو ألا يقول شيئاً على الإطلاق، وليذهب وليعمل شيئا مفيدا خيرا له.


إن أسلوب الإسكات هذا – أأنت أعلم أم هو – أدى إلى تفشي هذا الفكر الاحتكاري ليشمل جميع أمور الحياة وتحديداً السياسيةَ، فأصبحت مناقشة الحكام جريمة يعاقب عليها الدين نفسه! وأصبح الحاكم شأنه شأن المفتي لا يناقش ولا ينصح ولا ينبغي لأحد أن يبدي اعتراضه في أي أمر صغر أم كبر ...


إن العلم والإيمان لا يمكن قياسهما بالميزان. وبالتالي فكيف لي أن أقول مثلا أن علي المفسر أن يكون عالما أو مؤمنا بدرجة معينة أو ما إلى ذلك إن كنا نحن الناس لا نستطيع قياس ذلك؟ فهل ندخل في صدور الناس لنحكم؟


ثم لنفترض أن لي علما وشهادات في التخصصات المطلوبة، فكيف يعرف ما في نفسي أو دوافعي؟ هل سيأخذ بكلامي لأنني طابقت "ضوابط التفسير" من دون العلم بدوافعي؟



يتبع ....