عرض مشاركة واحدة
قديم 11-28-2012, 10:04 AM
المشاركة 11
د نبيل أكبر
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي تعقيب
أخي العزيز محمد جاد الزغبي

تحية عطرة للجميع،


سأعلق على كل نقطة من النقاط التي تفضلت بطرحها ولكن من الأفضل حتى لا تتشعب الأمور أن نتحاور نقطة نقطة فيلقي كل منا برأيه، ثم لنا وللقرآء الكرام الاختيار إن وجدوا حقا في أي مما نقول.


من وجهة نظري، الهدف من الحوار ليس لتغيير فكر أحد، بل هو لعرض الأفكار وحسب ثم حسابنا جميعا عنده تعالى.

كما إني أنقد الفكر بتجرد وموضوعية بحيث يكون الهدف منه تمجيد الله تعالى وكلامه أولا، لا يهمني من قاله، ومتى قاله، وكم من الناس آمن به. فليس نقدي لإنسان بعينه حيا كان أو ميتا، فنقد الأفكار لا يعني أبدا نقد الناس، فقد أنقد فكرا صاحبه خير مني.

فتمجيد الناس وعلمهم أحياء وأمواتا أكبر إشكال في أمتنا، ليس الآن وحسب، بل على مر عصور هذه الأمة.... هذا هو ما يفرقنا وكل حزب بما لديهم فرحون فخورون:


وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (المؤمنون:53)



مشكلة التمجيد هذه وقعت فيها جميع الأمم الماضية والحاضرة ونحن المسلمين لسنا استثناء في هذا. وأصل المشكلة هي أن الناس دوما تمجد أنفسها وأعراقها وعلومها. فمثلا تجد أن الطالب يحاول جاهدا أن يبرز قيمة مدرسته أو جامعته أو شيوخه وعلمائه. السبب بسيط وهو أنه عندما يفعل ذلك فإنه يمجد نفسه بطريق غير مباشر.

فمن العيب للإنسان القول بأن مدرستي ضعيفة أو منسية، أو أن شيخي إنسان عادي. فلو كان الأمر كذلك، لكان هو بنفسه كذلك.



لهذا كثيرا ما يمدح الناس تخصصاتهم وعلمائهم وشيوخهم وأسلافهم ويرفعونهم إلى السماء. ثم يستمر هذا التمجيد مع الزمن إلى أن يصل إلى درجة التقديس كما حدث للأمم السابقة التي نتبعها حذو القذوة بالقذوة ولو دخلوا جحر ضب لدخلناه. أي نعتقد أن هؤلاء العلماء لا يخطئون أبدا والمفارقة أنهم هم أنفسهم يختلفون فيما بينهم ولا يعطوا العصمة لأقوالهم.


قد يقول قائل هنا نحن لا نمجد السلف أو العلماء فأقول نعم ولكن ذلك بالقول لا الفعل. ما يهم هو الفعل لأن: الفعل أصدق الأقوال، وسأضرب لاحقا أمثلة على هذا.


ومن هذا المفهوم تجمدت العلوم القرآنية والدينية، فلا يجرؤ الناس على مناقشتها. فتتقدم الدنيا في كل مجال، إلا هذه المجالات الدينية "المحروسة" ممن يعتقدون أن لا ينبغي لغيرهم الخوض في هذا التخصص.

وهذا مما تعانيه أمة الإسلام، كما عانت من قبلها الأمم.


علينا دوما أخي أن نبحث عن الحق، ليس من أفواه الناس وحسب، ولكن من المصدر الذي لا يتغير ولا يتبدل ألا وهو القرآن والأكوان وما فيهما من سنن ثابتة مشتركة لا تتبدل.


علينا دوما أن نبحث عن الحقيقة، لا يهم إن كان صاحبها عالما مشهورا جليلا من السلف أو الخلف، لا يهم إن كان صاحب الحقيقة هو أنا أو أنت، المهم أنها الحقيقة.


تفضلت بقولك وأنا أقتبس:

أنت مثلا من علماء طبقات الأرض , وهو تخصص ماتع وبالغ الإفادة فى العلوم الإنسانية , لو أن أحدا جاء من عندياته هكذا ونشر موضوعا قال فيه أن الأرض لا تتكون من طبقات , وأن ما يتحدث به علماء الجيولوجيا عن وجود كتلة حديد منصهرة فى قلب الأرض هو أمر خيالى لا يصدقه عاقل , فكيف وصلوا إلى قلب الأرض وصوروا أو رأوا تلك الكرة الحديدية الضخمة ؟!
قل لى ما الذى سترد به على القائل بهذا ؟!
إن أول رد لك على هذا القول الجاهل أن المتحدث جاهل بمبادئ علوم الأرض التى لها متخصصوها , ولا يجب أن يتكلم فيها إلا أهل العلم بها , وأن علماء طبقات الأرض اكتسبوا من الوسائل والتجارب العلمية ما مكنهم من تقرير مبادئ وتقسيمات الأرض وأن قولهم هو المعتد فى هذا الفن ..

ولا شك أن كل عاقل سيري ردك هذا ردا منطقيا عاقلا ..
وردك هذا يحمل نفس المبدأ الذى تستنكره على علوم القرآن والتفسير , حيث تعتبر الضوابط العلمية التى وضعها العلماء للخوض فى تفسير القرآن الكريم قواعد جامدة تمنع التفكر والتدبر فيه , وهذا غلط من وجهين ..


انتهى الاقتباس.


يأخي أنت وضعت سؤالا وافترضت إجابتي من عندك ورديت علي وأنا برئ من هذه الإجابة. لكن ألا ترى أنك قد قمت بـ "الحكم المسبق علي" بهكذا طريقة؟

لو جائني أحد من غير تخصصي وفند بعضا مما أعتبره "حقائق" علمية فسأفعل ما يلي:


أولا: أشكره لأنه بذل الجهد والوقت لبيحث في هذا المجال وسأخبره بسعادتي لأنه اختار هذا التخصص للخوض فيه.

كما إني لا اتهمه بالجهل لمجرد أنه خاض فيما أخوض أنا به! في الحقيقة ليس عندي ميزان لقياس درجة علمه أو إخلاصه ولا يبقى للحكم عليه إلا مصداقية كلامه وحججه وبراهينه التي عليه أن يعرضها.


لكن لي سؤال هنا: تهمة "التجهيل" هذه من أين لنا بها؟ بمعنى لماذا لا أنظر إلى الناحية الإيجابية وأقول لهذا الشخص أنه له عقلا جريئا شجاعا يبحث عن الحق في الأمور؟ لماذا لا أقول أنه ليس إتكاليا كغيره؟ فهل رمي كل من درس في تخصص ليس له بالجهل أو غيره من سنن الأنبياء التي علينا اتباعها؟ أم هو من العدوان الذي نهينا عنه؟


لذا فسأنظر إلى براهينه بتجرد. فإن كان جاهلا فعلا فلن أرد عليه ولن أكترث بما يقول فليس "هذا التخصص" ملكا لي أو لغيري.


ثانيا: وبكل حماسة سأسأله عن رأيه في التخصص وإن كان بالإمكان أن يثريه بما يحمله من فكر في مجالات أخرى.


فالمعارف الإنسانية كالبحار لكل منا أن ينهل منها ما يريد، وليس لأحد أن يستأثر من دون غيره بشيء منها. وكلما تواصلت البحار وامتدت لها الروافد من بعيد كانت حية زاخرة نافعة، وكلما كانت البحار معزولة عن بعضها وعن الروافد كلما ماتت ونضبت.



إن من المسلمات أن الإنفجار المعرفي الحاصل هذه الأيام إنما هو نتيجة لتواصل العلوم المختلفة ببعضها البعض والاستفادة الكمية والنوعية التي ينهلها كل تخصص من التخصصات الأخرى.


هل لنا أن نتخيل حالنا لو أن الإطباء القدماء الذين يستخدمون الأعشاب وحسب رفضوا وبشدة الأفكار والأبحاث الطبية الجديدة؟

ألا نجد أن علماء الفيزياء الإشعاعية هذه الأيام قد أثرَوا بل وقلبوا الموازين في علوم الطب؟ هل من حق الإطباء منع الفيزيائيين من التطفل في علوم الطب لأنهم مستأثرين بهذا التخصص؟ أم إن التخفيف عن المرضى هو الهدف الأسمى الذي ينشده الجميع؟


ألا نجد أن معظم العمليات الجراحية التي كانت قبل عهد قريب تقوم أساسا على شق جسد الإنسان تغيرت وأصبحت تعتمد على علوم المناظير والتصوير والتقنيات الحديثة المختلفة التي ليس للأطباء علم فيها من قريب أو بعيد؟


يأخي العزيز قد سبق لي نشر العديد من الأبحاث في المجلات الغربية المتخصصة ولم يسألني أحد أبدا عن "أصل" تخصصي إذ إن المجلات العلمية عندما تقيم بحثا تنظر إلى محتواه العلمي فقط، فإن كان مبنيا على حجج وبراهين فسينشروه، وإلا فلن يردوا عليك، هكذا بكل بساطة.



قرأت قصة حقيقية فيها رجل عاني إبنه من مرض وراثي قاتل. هذا المرض لا علاج له ويسبب آلاما شديدة.


جاهد الوالد لعلاج ابنه لكن جميع المراكز الطبية أخبروته أن لا علاج لهذا المرض النادر.

ترك الأب وظيفته كمحامي وعمل هو بنفسه – بالرغم من أنه ليس في المجالات الطبية – بالقراءة والبحث حول هذا المرض. عمل بالمكتبات ليل نهار. كان منظر ابنه المعذب دافعا جبارا له.

هذا الرجل وبعد عدة سنوات من البحث استطاع اكتشاف علاج لهذا المرض.

كان الوقت قد فات لابنه فمات لكنه أنقذ جميع من سيولد بهذا المرض مستقبلا ...

والقصص في هذا الشأن أكثر من تذكر هنا. ترى ماذا كنت قائلا لهذا الرجل أخي؟



كذلك أخي الكريم، من الثابت أن معظم التقنيات الحديثة (كمبيوتر، طيران، اتصالات ...) كان أصلها وتطورها في الوقت الراهن من أبحاث الجيش الأمريكي العلمية.
طبعا نحن نعلم الغرض من تطوير السلاح. هذا شر ومعاناة لكثير من الناس، لكنه في نفس الوقت يفتح أبوابا جديدة من العلم والمعرفة للإنسانية جمعاء.

في الحقيقة فإن التخصصات المختلفة هذه الأيام تعتمد وبشكل أساسي في تطويرها على موارد التخصصات الأخرى، وتدفع الشركات مبالغ طائلة "لخلط" التخصصات المختلفة ببعضها البعض ولدمج العاملين في تخصصات مختلفة ليعملوا كفريق واحد كي يثري كل منهم الآخر. والسبب لهذا كما يلي:


التخصصات المختلفة ما هي إلا كصناديق موسومة تحوي أفكارا معينة. وفي كل صندوق ناسه وعلمائه ومعايره. ولا يستطيع من بداخل صندوق أن يزيل من محتواه شيئاً إلا أن يضيف، ولكن إضافته بكل الأحوال لا تخرج عما في الصندوق أصلا من محتويات قديمة.


لذا يتقوقع أصحاب الصندوق الواحد ويتجمد فكرهم ويدوروا في قاع الفنجان بمعزل كما يقال في المثل.


فلو اخترت لنفسي تخصصا من هذه التخصصات، فسأضطر اضطرارا لأن أصبغ نفسي – راضيا أو كارها – بجميع ما فيه من فكر وبالتالي أدخل إلى عالم الجمود والتقوقع.


ولأن من لم يبدع في العلم أبدع في الجهل، ومن لم ينظر للأعلى نظر للأسفل، ومن لم ينظر للأمام نظر للخلف، فإن أعضاء هذا الصندوق يزدادون تحجرا وتعصبا مع الأيام فيحاربون الصناديق الأخرى بكل شدة وعنفوان.


فليس من الغريب إذن بعد كل هذا أن نجد "التكفير" و "الإقصاء" في كل مكان نرتاده ...


ثم إن معظم العلماء الأوائل كانوا يدرسون في أكثر من تخصص. فابن سينا والفارابي وجابر ابن حيان ونيوتن وليورنادو دافشني وغيرهم كانوا يفهمون في الطب كما يفهمون في الأدب أو الهندسة أو الرسم أو الفلك.


فليس في عقل الإنسان – حسب علمي – شرط الاقتصار على تعلم تخصص واحد. كما إني لا أجد أن في القرآن أو في السنة النبوية أو في أخبار الأنبياء شرط "التحصل" على شهادة ورقية أو تزكية مرموقة. بل أجد البحث عن الحق والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها وأجد كذلك أن: "من كتم علما أعطاه الله لجم بلجام من نار يوم القيامة". هذا لو كان العلم يخص الإنسان نفسه، فما حال من كتم علما هو أصلا ليس له؟




إن تداخل العلوم والمعارف أمر طبيعي مشهود والأدهى أنه يشير إلى توحيد الله تعالى! كيف؟
السبب أن الله تعالى خلق كل شيء فلابد إذن من أن نرى ونعاين أسماء الله تعالى وصفاته في كل خلق من خلقه.


فنجد من حولنا طريقين متعاكسين. الطريقُ الأولُ هو طريقُ الملحدين، وهم من آمن بالمادة وقوانينها وكرَّس حياته لها وقدَّسها وكفر بالخالق الواحد سبحانه وأهمل الكتبَ والشرائع السماوية المنزلة من السماء.


والطريق الثاني هو طريق من آمن بالله تعالى وكفر بالمادةِ وقوانينها وأهمل وسَخِرَ من دراسة هذا الكون وقوانينه. كلا الفريقين جانب الصواب ولم يتسع علمُه وإيمانه وفكرُه لكلا الطريقين في وقت واحد.


فالإيمانُ بالله وبوحدانيته وعظمتِه وجمالِه وبديع صنعِه وإحسانِ وإتقانِ خلقِه يتطلبُ الإيمانَ بالمادة إيماناً شديداً يجبُ ألا يقلَّ عن الإيمان بالله تعالى. فدقةُ ومتانةُ وإحسانُ وانضباط وجمالُ وسعةُ الكون وقوانينه الطبيعية إنَّما هي انعكاس ومرآةٌ لدقةِ ومتانةِ وإحسانِ وانضباط وجمال وسعة خالقه تبارك وتعالى. ومن أنقص من الأولى فقد أنقص من الثانية، والعكس صحيح.

فمن المعلوم في حياتنا اليوميةِ مثلاً أنَّ متانة ودقة صناعاتِ ومنتجاتِ بلدٍ ما تعكس إلى حدٍ كبيرٍ متانة ودقة وعلم وترابط الشعب في ذلك البلد، وأنَّ صناعة وحكمةَ ودقةَ وانضباطَ ومتانة عامل في مصنع ما لابد وأن تعكس حكمةَ ودقةَ وانضباطَ ومتانة فِكرِ وعلم ذلك العامل! أليس كذلك؟


بهذا فالعلوم والتخصصات التي تبدو من الوهلة الأولى متباعدة ليست كذلك إذ يجمعها أن خالقها وبارئها واحد، سبحانه. فنجد في علوم المادة الجامدة أنظمة وقوانين لها ما يقابلها في علوم النبات مثلا، ولكن بصيغ وطرق مختلفة يجب البحث عنها لإظهارها.

فلو استطاع متخصص في النبات مثلا إيجاد مفهوم أو قانون يطبق على النبات فقد نجد أن تخصصات أخرى يطبق فيها نفس القانون ولكن بصيغ أخرى مغايرة، قد تختلف مظهرا لكنها جميعا في جوهرها واحد. وبهذا تستفيد التخصصات المختلفة من بعضها البعض وكلهم يشيرون إلى الواحد سبحانه.




تكلمت لحد الآن عن ترابط التخصصات المختلفة وفي مداخلة أخرى – كي لا تختلط الأمور – سأتحدث تحديدا عن علاقة التخصصات الكونية بالدراسات الإسلامية.


وسأعلق تباعا على النقاط القيمة التي تفضلت بها في مداخلتك السابقة بعد تعليقك الكريم لو تفضلت على كلامي أعلاه.


وأقدر لحضرتك أخي العزيز ولكل من يتابع الصبر والجهد ...

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.