عرض مشاركة واحدة
قديم 11-27-2012, 07:43 AM
المشاركة 5
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
توت .. تين ... عنب

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
اعتنى جدي على مدى كبير من السنوات ببستانه الكبير و المتنوع و كان يقضي فيه فترة ما بين الفجر و الضحى و ما بعد العصر و حتى العشاء و كان البستان جنة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى .. يجمع كل أنواع الأشجار المثمرة من الفواكه و النباتات الصيفية و غيرها .. و كان محرما علينا الخروج للبستان في أوقات سقاية البستان من جهتين رسميتين إحداهما كانت الوالدة لأنها تدرك من خبراتها السابقة أننا سنعود لها بكميات متنوعة من البقع على ملابسنا ناتجة عن تناول الفواكه المتنوعة في البستان أما الجهة الأخرى فكان جدي نفسه إذ كان يخشى على الزرع من عيوننا المتلصصة و هو ينعم بحمامه اليومي.
كان جدي في الأمسيات الخريفية الباردة نوعا ما يدعونا إلى حفلة شواء حيث يضرم النار في مكان مخصص بجوار البئر قرب شجرة التين البعل و يضع عليها أكواز الذرة إلى أن ترتفع منها تلك الرائحة الشهية ..
و في الصباحات المبكرة جدا من الشتاء البارد اعتاد أن يخرج على بستانه يرعاه بعناية و يشعل النار ليضع عليها إبريق القهوة بالحليب ليقضي ساعتين من الثرثرة المتواصلة مع جدتي .. كان هذا الشغف ببستانه يوقظه في الليالي الباردة ليغادر فراشه الدافئ و غرفته الدمشقية ذات الجدران السميكة إلى البستان ليشعل نارا تشيع الدفء في جنباته.
و كان يتخذ مجلسه صباحا بالقرب من شجرة التوت يضع بساطا و مرتبة و يلتحف عباءته السميكة ..
و التوت في البستان نوعان .. توت هزاز و توت شامي
فأما التوت الهزاز فقد خلق لنا طقسا جميلا حيث نداعب شجرة التوت بهزها فيسّاقط علينا ثمرا حلوا شهيا و أما التوت الشامي فقد كنا نخشى أن نقترب من الشجرة على روعتها و حجمها الذي يفرد ظله على مساحة كبيرة جدا من البستان و السبب وراء خشيتنا منها هو البقع التي تتركها ثماره على الملابس و التي لا تزول أبدا حيث كانت غواية هذه الشجرة و تذوق ثمارها درب وعر يقود إلى علقة ساخنة من الأهل..
لكن أجمل ما في التوت الشامي هو عندما يتحول إلى عصير بلون مميز تتقن جدتي صنعه و ترتيبه في آنية زجاجية تصطف في الكتبية بكل زهو لتخرج في الأمسيات و السهرات في أكواب زجاجية دمشقية مميزة لا يكون لون زجاجها شفافا بل مائل نحو الزرقة أو الخضرة
و كان جدي في العصارى و المساءات يتخذ مجلسا آخر ما بين البئر و شجرة التين
و كان التين أيضا على نوعين في البستان منه ما ينمو و يثمر بسقاية السماء و يسمى " تين بعل" و منها ما يثمر برعاية و عناية و يختلفان في درجة الحلاوة و لكن التين البعل أكثر حلاوة خصوصا عندما تقوم جدتي بتحويله إلى مربى لذيذ الطعم.
و في البستان أيضا كانت تمتد على مساحات كبيرة دوالي العنب المتنوعة من حلواني و بلدي و غيره و كانت إحدى هذه الدوالي تعرش فوق البئر مباشرة الذي لا يشبه الآبار الرومانية ذات الجدار الاسطواني الصغير يعتليها الدلو و إنما البئر العربي الذي يكون باتساع دائرة قطرها أربعة أو خمسة أمتار و يتم تنظيفها دوريا بالنزول إليها من خلال سلم مغروز في حائط البئر و لكي يبقينا جدي بعيد ا عن البئر اخترع لنا حكايات عن جنيات ووحوش تسكنه تختطف كل من يقترب منه من الأطفال... لكننا اكتشفنا هذه الكذبة مبكرا و كنا ننتظره أن يفيض في بادية الربيع لنجلس عند حافته و نغمس أرجلنا في مياهه الباردة ,