عرض مشاركة واحدة
قديم 06-18-2012, 11:47 PM
المشاركة 22
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
الفاجعة ومفهوم الكتابة
محمد معتصم


1 ـ هل هي تراجيديا معاصرة؟
في ميلاد التراجيديا يتحدث نيتشه عن تعارض الأبولونية والديونيزوسية، عن تعارض النحت والموسيقى، عن الاختلاف الأساسي بين الفرد المتعقل والجماعة الانفعالية المتهيجة. يقف نيتشه عند الاختلاف بين العقل وبين الحلم والنشوة. هذا التعارض والانفصال كانا تمهيدا لظهور التراجيديا، وهما ضروريان. فالأبولونية المحدودة بالشروط والضوابط والقوانين والكابحة لكل جماح تتعارض والديونيزوسية الانفعالية المهتاجة المحطمة لكل الحدود والقوانين. والتعارض يقصد منه أساسا نقاء الجنس وانفصال الطبقات في الوعي أو في المجتمع… ولكي تنشأ التراجيديا، الحس التراجيدي في الكتابة المعاصرة، كان من اللازم تمازج النقيضين، فكيف ذلك؟
يستعين نيتشه في تحقيق ذلك على الاستعارة (La métaphore) التي هي بالنسبة للشاعر الحقيقي "ليست صورة بلاغية لكنها صورة استبدالية يراها حقيقة محل الفكرة" (ص60). كما يستعين بالمسخ/التحول (La métamorphose) إلا أن العامل الأكثر فاعلية هو الموسيقى والغناء؛ لأنهما معا يساعدانه (الفرد المتعقل) على تجاوز الحدود الضابطة للعقل. ففي الموسيقى والاحتفالات الديونيزوسية يلتبس الأمر وينتفي التعارض بين العقل والحلم والنشوة، وينسى الفرد –كما يقول نيتشه- القوانين الأبولونية.
1-1- نرى في هذه الرواية تجسيدا للرؤية الفجائعية لعدد من الاعتبارات أولا، لأنها تتضمن البعدين الأساسيين في دراسة نيتشه عن ميلاد التراجيديا، يورد الخراط في أكثر من موطن من الحكاية الإله أبوللو، وفي ذكره اختزال للقيم التي حددها نيتشه: العقل والحدود والضوابط. إلا أن الكاتب لا يورد اسم الإله ديونيزوس صراحة بل يجعله روح العمل، الروح التي تسري في جسد الرواية، في أوصال العلاقات سواء مع الآخر أو مع الذات. والفاجعة عند أدوار الخراط تستمد من التمازج والانصهار بين الألم واللذة.
ثانيا؛ لأن الرواية من حيث الموضوع تتطرق لمشكلة الصراع الدامي العقائدي بين الإسلاميين والأقباط المسيحيين في مصر المعاصرة. والحس الفاجع يأتي من خلال الاختراق اللامعقول للروابط التاريخية والإنسانية التي جمعت الأقباط المسيحيين والمسلمين تحت لواء المواطنة والإخلاص والوفاء لمصر. إن تهدد هذه العلاقة بالدمار والتمزق يتضمن حسا فجائعيا يتجاوز العقائدي إلى الوجودي والمصيري. فبناء الوطن والحفاظ على استقلاله وحمايته من كل خطر يتهدده في هذه الرواية يسمو عن كل معتقد ضيق الأفق أو نزعة انفعالية.
ثالثا؛ شعور الراوي ميخائيل بالغربة والوحدة والعطش المطلق والمستشري في الذات والروح، وهو الفاجعة التي يختم بها الرواية كأفق تخييلي يختزل أبعاد الوجود والمصير الواقعيين الفعليين.
1-2- يقول ابن منظور في لسان العرب مادة (فجع)، "الفجيعة الرزية الموجعة… والفواجع: المصائب المؤلمة التي تفجع الإنسان بما يعز عليه من مال أو حميم…" (ص245). والمصائب الموجعة في يقين العطش تشمل الأقانيم الثلاثة المحددة للفضاء الروائي وموضوعاته، وهي الحب والأثر والصراع، ومحورها الأساس الوطن. يمثل ذلك الرسم التالي:
الحب
الوطن
الأثر الصراع
أ ـ في الحب: (رامة) آخر الذات، وموضوعها، وجود صعب يتأرجح بين الحضور والغياب، موضوع يبرز قلق الذات (ميخائيل) وبالتالي فهي علامة على الفاجعة. فالشعور الذي يكتسح ميخائيل لا يستقر على حال شعور يهدده الشك فيتحول الحضور إلى غياب والغياب إلى حضور، وكأن ما يسعى إليه ميخائيل هو تحويل الجسد المادة الحية إلى لغة متخيلة صعب الإمساك بها، لا تشبع اللهفة ولا تطفئ الرغبة، حضورها رمزي (بلاغي) استعاري مجرد. عند تقاطب فعلي الحضور والغياب تتولد الفاجعة في الذات.
ب ـ في الأثر: الآثار موضوع آخر تتوحد فيه شخصية ميخائيل وشخصية رامة، إلا أن الفاجعة تتولد عن تصادم وعيين متناقضين؛ عالم الآثار الذي يسعى إلى ترميم البقايا وانبعاث الماضي بكل زخمه وحرارته وحيويته، وإضفاء القيمة عليه وناهبو الآثار ومهربوها أصحاب المصالح الشخصية الذين لا يعيرون أي اعتبار للتاريخ الموحد للأمة الضامن استمرارها والمعلي مكانتها بين الأمم. إنه تصادم مفجع. وأمام استفحال اللصوصية يتحول فعل الترميم والإحياء إلى عمل عبثي. وهنا تظهر ملامح الرؤية الفجائعية وآلام الذات.
ج ـ في الصراع: لعل في لفظة "صراع" فاجعة، وتزداد حدة عندما يصبح الصراع بين مكونين أساسيين لوطن واحد، ويصبح الصراع يتهدد الوطن. أي أن معاداة طرف للآخر يخل بالوجود وبمصير المكونين معا. والطرفان هما الإسلام والمسيحية. ويورد الخراط في يقين العطش أكثر من نموذج على روح الانسجام والتعايش بين العقيدتين. لكن يورد ذلك بألم وتأس على ماضي يكاد يكون قد ولى إلى غير رجعة –هنا تصعيد للحس الفاجع- يحكي ذلك من خلال علاقة المسلمين والأقباط أيام الأعياد، ص(212-213).
1-3- إذا كانت الأقانيم الثلاثة تمثل الفاجعة فإنها كذلك تمثل اللذة والحلم والنشوة والمتعة، لكن أهم ما يبرز هذه المتع الديونيزوسية إقبال ميخائيل على الحياة، ويتجلى ذلك في الاحتفاء بالملاذ.
أ ـ الطعام: يبرز من خلال العمل الروائي اطلاع الكاتب على أنواع الأطعمة المختلفة المحلية، واهتمامه بطرائق طهيها وتحضيرها. وتلك بلاغة خاصة تنبئ عن وعي اجتماعي متجذر، وذلك أيضا معجم يؤثت به الكاتب عالمه الروائي ويكتسب من خلاله علامات التمييز الكتابية.
ب ـ الشراب: لكي تكون الجلسة ممتعة فلا بد لها من شراب، من كؤوس تنوس على الحبيبين ميخائيل ورامة، ويورد هنا الكاتب عددا من صنوف الشراب مميزا بينها في اللون والمذاق وشكل الزجاجة، والمفعول ودرجته لدى كل طرف على حدة أو على الطرفين معا.
ج ـ الألبسة: يغني الكاتب معجمه الديونيزوسي من خلال معرفته بالألبسة، ووقوفه الطويل واصفا إياها. لأن اللباس أيضا دليل على المستوى الاجتماعي وعلامة على نمط الوعي والمعرفة. فوصفه مثلا لطعام ولباس الصعايدة يختلف عن وصفه لطعام وشراب ولباس رامة.
د ـ الموسيقى: إذا كان النحت عنوانا على العقل والدقة والنظام والصرامة فإن الموسيقى عنوان على الاحتفال وعلى اختراق النظم والقوانين والحدود، وعلى الاختلاط والاندماج، هذا ما يستخلص من كتاب نيتشه. لكن الموسيقى توظف في العمل الروائي توظيفا مختلفا، فهي دليل على رقي حسي واجتماعي كما لو أن الموسيقى المتحدث عنها لا تتصل بالصخب الجماعي الديونيزوسي وإنما هي موسيقى هادئة صامتة! مما يجعل الحديث عنها هنا كالحديث عن الطعام والشراب واللباس وأيضا الأثاث المنزلي، أي أنها بلاغة ومعجم يؤثتان فضاء العمل الروائي، وإمكانية لامتصاص الفاجعة.
1-4- يناوب الكاتب بين الحسرة والألم وبين المتعة واللذة. وإذا كان الحب لديه كماء البحر لا يطفئ عطشا بل يؤجج أوار الرغبة والشهوة، ومن ثم تولد الفاجعة، فإنه في الحديث عن الصراع يجد في كلام رامة مستندا ومتكأ يعطي الانطباع ببعض الانفراج ويكسر بالتالي النغمة الدرامية والمتحسرة، تقول رامة على لسان الراوي: "قالت: ومع ذلك، وبالرغم من ذلك فإن أواصر المحبة وحسن الجوار عريقة في وجدان الناس، كل الناس، الشواهد على التآخي بيننا، لا نهاية لها، كلنا نعرفها وعشناها فعلا، كلنا". ويضيف ميخائيل على لسان الراوي كذلك: "قال: لماذا نحتاج أن نكرر مئات الشواهد والأدلة على حقيقة أولية بسيطة كان حقها أن تكون قائمة وثابتة دون برهان أو تدليل؟" (ص158).
إن الحديث عن الصراع بين الإسلاميين والأقباط في مصر سينتهي بالرواية إلى الحديث عن التسامح والتعايش بين الأديان كما رصدناهما في رواية سلالم الشرق لأمين معلوف، وفي رواية بهاء طاهر خالتي صفية والدير من خلال علاقة حربي أو إقامة حربي في الدير حماية له من صفية ورجالها وتوعداتها بالفتك والثأر والقتل، ومن خلال مكانة الدير في نفسية أهل القرية المسلمين، ومكانة (المقدس بشاي).
إن الصراع بين الأديان والمعتقدات ظهر إلى السطح كفعل فاجع في عدد من بقاع العالم الجديد، ومن بينها العالم العربي المتعدد الأديان، والذي يتكون من أقليات ذات أصول مختلفة وغير مسلمة. لقد ظهر الفعل الفاجع بعد انحسار الإيديولوجيات الكبرى، وتظهر الرؤية الفجائعية كذلك من خلال الصراع السياسي الذي يقود إلى الآفاق المسدودة وتمتهن الحق الإنساني والمصيري للأفراد والجماعات كما أوضحناه في هلوسات الترشيش لحسونة المصابحي، وفي روايات سحر خليفة.
2 ـ الكتابة والمعلوميات:
الكتابة عملية كيماوية يتم فيها تحويل الأشياء المادية وصهرها لتصبح متخيلا مادتها الأساس اللغة، والكتابة الأدبية المعاصرة أولت اهتماما كبيرا بالأشكال الخارجية وبأنماط القول أكثر من اهتمامها بالمادة المكتوبة/المنقولة ذات المحتوى الإحالي على المرجع الخارجي (الواقعي)، وقد أدى ذلك إلى خلق رؤية مغايرة ومختلفة عما أنتجته الثقافة العربية المسماة تقليدية سواء من حيث الأساليب المستعملة أو اهتمامها بالمحتوى (المعلومات)، وفي انحياز الكتابة المعاصرة إلى الأنماط والأشكال والصيغ الخارجية للقول مسايرة حركة الحياة. فالمعلومات أصبحت متوفرة بفضل شبكات الاتصال الضخمة والعالمية، ولم يبق هناك مجال للتمايز والاختلاف بين الكتاب والمفكرين إلا في طرائق صوغ المحتوى الأدبي أو الفكري. وهذا الطرح الذي نبادر به هنا لا يلغي أهمية المعلومة ولا يحط من قدر المحتوى أو الكتابات المحتفية بالمضامين، ولكنه إشارة إلى الاهتمام ببناء المحتويات وصياغتها داخليا لا خارجيا فحسب.
إذا الكتاب العرب والمفكرون أمام وضعية (جديدة)، كيف يمكنهم تقديم معلومات متداولة إلى القارئ في صورة مقبولة ومثيرة وجذابة تتضمن قدرا من الإبداع والتفرد؟ هل ينبغي الحفاظ على المتواليات السردية التقليدية في كتابة الرواية أو القصة مثلا؟ هل ينبغي البحث عن موضوعات غرائبية تمكن المتخيل من التفجر، وتمكن الكاتب من السباحة في عوالم بكر لا تمت بصلة إلى الحقيقة الموضوعية الخارجية؟
طبعا لجأ الكتاب العرب إلى التغيير في بناءات المحتويات التي يثقلونها وذلك بدمج قضية الخارج وقضية الداخل والربط بينهما ربطا وثيقا، بحيث يصبح العمل الأدبي هو الأهم لا خارج فقط أو داخل بل هما معا، فلا صيغة خارجية دون محتوى مركب ومبنين.
2-1- ادوار الخراط الذي اختار الكتابة الصعبة يصلح نموذجا لإبراز بعض تلك الإمكانات الكتابية.
تعتبر الكتابة لدى الخراط صعبة لأنه فضل الكتابة المتزامنة المحايثة على الكتابة التعاقبية. لقد حدد ادوار الخراط لنفسه موضوعا للكتابة يتمركز بين حدود الكتابة السير ذاتية والرواية الجديدة، وإقامته تلك على الحدود وجه من أوجه الصعوبة، فهو كالواقف على التخوم الملغومة. والوجه الآخر للصعوبة نراه في حفره الدائم في معطيات سابقة ومنفتحة على جل أعماله، فتبدو بعض مقاطعه السردية مكرورة ومستعادة. والكاتب ذاته يشعر بذلك في عمله يقين العطش، يقول: "ولكن كل شيء، كل فعل، كل كلمة تقريبا تتردد وتتكرر من جديد.."، لكن هذا التكرار لا يفقد القول جدته وبكارته، يضيف: "… في نمط آسر مستحوذ قابض مستمر، ولكن متجدد بدماء نظرة، كل شيء قيل، ويقال من جديد، كأنه جديد، ولكن لا جدة فيه لأنه يكرر –كل مرة- مخترع من أول وجديد، لم يسبق له ظهور، لم تسبر له أغوار، بل لم يكد يمس سطحه من قبل" (ص267). فما الذي يجعل من المتكرر والمستعاد جديدا نضرا آسرا؟
إذا فالملامح العامة التي نريد الوقوف عندها هنا نختزلها في:
أ ـ الكتابة كتحويل وكتماه
ب ـ الكتابة الحفرية الاستكشافية
ج ـ الكتابة الشذرية
د ـ الكتابة كلعب أسلوبي.
2-2- الكتابة كتحويل وكتماه:
الكتابة تحويل كيميائي للمواد الصلبة في الواقع إلى متخيل وإلى تراكيب لغوية، وهناك تحويلات أخرى ضمن التركيب اللغوي ذاته، حيث تتحول الآثار الفنية إلى رموز تدل على الحضارة والتاريخ ووحدة الأمة على اختلاف أجناسها ودياناتها المكونة، وكتحويل الأشخاص العاديين إلى علامات دالة ضمن المتخيل وتحولها إلى مثل عليا يقتدي بها الناس في حياتهم. والكتابة تقوم بهذا الدور أحسن قيام، ويقين العطش التي تقوم على الأركان الأساسية الثلاثة؛ (الحب والأثر والصراع) تعمد إلى تحويل تلك الأركان إلى علامات دالة كبرى، فالصراع الناشئ بين الإسلاميين والأقباط المسيحيين في مصر كمحاولة للضغط سياسيا على القيمين وللحصول على امتيازات واعترافات، وإفساح مكان في الخريطة السياسية يستند إلى مرجعيات ثقافية عقائدية مؤولة بتأويلات جزئية توافق الموقف الشخصي واختلاف الوقائع الداعية إلى التفرقة ونشوب الصراع (ص89) و(114) و(144). هذا الصراع رغم خلفياته وأهدافه يعلي منه الكاتب ليصبح خطرا يتهدد الوحدة الوطنية، وتآمرا ضدها ومحاولة للضغط. إن التحويل هنا يأخذ معنى التصعيد، أي أن الكاتب يتجه صوب الأهداف البعيدة متعاليا عن الغايات الجزئية التي يحاول الطرف الآخر التأكيد عليها، كالتدرب على السلاح أو إصابة أحد المسلمين بالرصاص خطأ أو …
يتخذ التحويل في الكتابة الروائية دالة أخرى غير الإعلاء والتصعيد، إنها التغير والانحدار. ويستنتج ذلك من الحكي الواقعي الدرامي الذي يبدأه الكاتب من (الصفحة84) من الرواية بعد تعيين وترقية رامة، مديرا عاما لآثار المنطقة الوسطى، يتحول الحكي الواقعي عبر ثلاث محطات تقوم بها رامة للوقوف على حقيقة الصراع بين الأقباط والإسلاميين، المحطة الأولى تبدأ بزيارة المطران، والثانية بزيارة الشيخ حسن فاضل، والثالثة بزيارة ميادة.
الركنان الآخران يعرفان نوعا مغايرا من التحول، إنه التماهي الحكائي الذي يعتمد على قوتي الخيال والحلم. ومن أشكال التماهي الحكائي في يقين العطش الاندماج والانصهار بين مفهوم الجسد ومفهوم الوطن، حيث تضيع الحدود الفاصلة ويصبح الحديث عن الجسد الأنثوي حديثا عن جسد الوطن وخريطته الجغرافية (ص95-96). هذا النوع من التماهي يحتاج إلى قوة الخيال التي لا تعترف بالحدود، قوة الانفعال ونشوة الاحتفال الديونيزوسي حيث يسبح المعنى متنقلا بحرية بين الشيء وضده، أو بين الشيء ونقيضه. وكأن التغزل في جسد المحبوبة الأسطورية الخالد تغزل في الوطن بكل مكوناته وتاريخه الباذخ الحافل، وبكل انكساراته وانتصاراته، جسد مهما قسا في البعاد والتدلل فإنه حاضر عزيز بهي في النفس والمخيلة، وأبدا على موعد للتصافي واللقاء. وبقوة الحلم والخيال تحولت رامة إلى أسطورة خالدة، إلى نقيضين لا ينفي بعضهما الآخر بل يؤكده ويدعمه، تقول رامة محتجة على هذا التحول العميق عبر المتخيل: "أنت صنعت مني شيئا كأنه عاهرة ممجدة" (ص71)، ويضيف الراوي: "لم يقل لها: هذا العهر ليس أنصع منه براءة وبكارة، عبادتك للجسد تجعلك، فعلا، مقدسة، نقية وإلهية"، (ص71-72). إن القوة الكامنة خلف هذا التصعيد
والإعلاء قوة الخيال التي تجعل إمكانية التماهي ممكنة بعيدا عن الواقع وفي قلب اللغة، بين الجسد الأنثوي وجغرافية الوطن.
إن مفهوم الكتابة الإبداعية لدى ادوار الخراط يستمد قوته من إمكانيتي الحلم والتخييل، ومن خلال مستوى التحويل والتماهي بين العناصر المختلفة والمتناقضة في الأصول، والمتعارضة على أرض الواقع، ولأن الأحلام "لا تخضع لقوانين المنطق التي تتحكم في فكرنا أثناء اليقظة كما أنها تجهل مقولتي الزمان والمكان جهلا مطبقا: (ص10)، فهي تعيد إلينا رأي نيتشه في الأبولونية التي تساوي حياة اليقظة حيث المنطق والنظام والقوانين، وفي القول حيث المتواليات السردية والحكائية المركبة تركيبا زمانيا منطقيا، وتعيد أيضا مفهوم الديونيزوسية التي تمثل لحظة الحلم حين ينتفي التمايز بين الزمان المنطقي والمكان المادي، فتحل الأشياء في بعضها بحرية وتتداخل، وهو ما نجده عند ادوار الخراط، فتتداخل الأزمنة والأمكنة ويتماهى الجسد والوطن وتصبح رامة مصر، ويتحول علم الآثار إلى حفر في الجسدين معا؛ جسد رامة البض الريان، وجسد الوطن المنهوب الممزق المعطوب.
2-3- الكتابة الحفرية الاستكشافية:
إذا ركزنا أكثر على الأحلام في تداخلاتها وعدم اعترافها بالحدود والضوابط المرجعية الخارجية (الواقعية المنطقية) وهو ما تسلكه الكتابة عند الخراط، فإن الكتابة الحفرية تعمق أكثر مفهوم التماهي؛ فليس تماهي الجسد والوطن إلا صورة على التداخل الحلمي الانفعالي الديونيزوسي. وهذا النهج نستشفه كذلك في الكتابة الحفرية الاستكشافية. فما هي مستويات الحفر وأشكاله في يقين العطش.
أ ـ الحفر الأركيولوجي: يعد الأثر كما بيننا، من بين العناصر الأساسية لمتخيل يقين العطش ولموضوعات الحكائية. يقف الحفر الأركيولوجي عند الآثار الخالدة المطمورة وتحتويها الطبقات الدنيا للأرض، ومصر بلد الآثار المطمورة والحضارة العريقة الفرعونية أساسا وغيرها من الحضارات السابقة واللاحقة المتعاقبة، إلا أن تعقب الآثار والكنوز يلقي بظلاله على قضية جوهرية ثقافية وحضارية وسياسية في آن، ونقصد قضية السرقة المنظمة وغير المنظمة للآثار وتهريبها مقابل أثمان زهيدة مهما بلغت لأن الكاتب لا يقيس الآثار، وكذلك كل عالم، بالعملة ولكن بالقيمة التاريخية التي تحمي الأمة من الضياع والتلاشي وتقدم لها قاعدة صلبة تقف عليها لتستشرف المستقبل ولتضاهي الحضارات الأخرى قديمها ومحدثها.
في هذا المستوى من الحفر يراوح المفهوم معناه العلمي، وهو التنقيب عن الآثار المطمورة تحت طبقات الأرض لتبقى دليلا على حضارات عاشت وهلكت وأغرقت تحت الطمي (أو عبارة عن بقايا أواني أو ممياءات قاومت الزمن والرطوبة أو كتابات أو أصداف أو غيرها من الدلائل الجزئية أو بعض المدن المردومة بعد الطوفان أو بعد البراكين أو الزلازل وعوادي الزمان).
إنه بحث في الحفريات واسترجاع للعصور الغابرة، وحث على إعلاء القيمة التاريخية والحضارية للأمة، كما أنها زاوية لفضح السرقات المنظمة وغير المنظمة التي تستنزف الرصيد الحضاري لمصر. وإنه تعريف بواجهة هامة، ودليل على مصر الاختلاف والتعدد الثقافي والحضاري عبر العصور، وهو رد على الصراع، الركن الأساس في متخيل يقين العطش وموضوعاته الحكائية كذلك، بين الإسلاميين، والأقباط المسيحيين، الذي تم استغلاله لخلق القلاقل، وإنه تحديد وظيفي لشخصيتي ميخائيل ورامة، وعموم الشخصيات الثانوية.