عرض مشاركة واحدة
قديم 06-12-2012, 11:52 PM
المشاركة 11
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
الخراط يتحدث عن ابداعه:
- أحـب أن يــأتــي الـتــاريـخ عـلـى ذكــري فــي صــفـحـة لا يـشــاركـني فـيـهـا أحــد

إدوار الـخــراط:
- أؤرخ لأشـــواق الـروح وأشـــواك الـمـجــتـمـع

- تـأثـرتُ بـجـبـران حـتـى الـتـيـه لا بـالمـنـفـلـوطـي والـعـقـاد وطــه حـســيـن

هذا الحوار حصيلة لقاء طويل أجراه "الملحق" مع الروائي ادوار الخراط، في مناسبة مجيئه الى بيروت وإلقائه محاضرة "أيار التذكارية" في الجامعة الأميركية في بيروت ــ برنامج أنيس الخوري المقدسي. وفيه يستعيد محطات من حياته وتجاربه ملقياً الضوء على جوانب كانت خافتة ومقيمة في الظل. وقد ارتأينا تقديمها كشهادة "محرَّرة" من الاسئلة. شارك في الحوار الياس خوري واسعد خير الله وماهر جرار وعقل العويط وحرره محمد ابي سمرا.

- قالت لي أمي: انتَ رضعتَ لبن الحزن.(وسام موسى)

1
ولدت في 16 آذار 1926 في حي بجنوب الاسكندرية قريب من منطقة تسمّى بحيرة مريوط. كان معظم المقيمين في ذلك الحي من الفئات الشعبية القادمة من الصعيد الى الاسكندرية. العمران ونمط الحياة فيه أقرب الى الريف منهما الى المدينة: شارع واحد رئيسي مفروش بالاسفلت يسير فيه الترام وينتهي الى قسم البوليس. وشوارع أخرى مفروشة بالحجار والرمل الابيض. البيوت كلها من طبقة واحدة او اثنتين، على سطوحها عرائش من العنب. وقد وصفت ذلك الحي في مقاطع من روايتي "ترابها زغفران". على ناصية الشارع الرئيسي كان منزل الخياطة اللبنانية السيدة روز التي تشتغل عندها فتيات في خياطة الثياب.

في الجلسات العائلية على سطح بيتنا تحت عرائش العنب، كانت جدتي وخالتي ترويان الحكايات عن الجن والعفاريت. ولكثرة ما سمعت هذه الحكايات في طفولتي، كان الطفل الذي كنته يحسب ان جنيات الحكايات وعفاريتها كائنات حية، ومن لحم ودم. كنت في السادسة او السابعة من عمري حين التقيت مرة في الليل امرأة عجوزاً فقيرة في شارع مهجور قريب من بيتنا، فأيقنت انها عفريت من عفاريت الحكايات. لم تتلفظ المرأة - العفريت بكلمة واحدة، لكني لا ادري إن كنت وقفت جامداً قبالتها دقيقة واحدة او 24 ساعة، قبل ان أروح اعدو هارباً بأسرع ما استطعت للوصول الى بيتنا، حاملاً في جوارحي ووعيي ومخيلتي الطفلية التجربة الأولى في الاتصال بقوة عالم الغيب في ما وراء الواقع والمحسوس.

من اليمين: محمد أبي سمرا، عقل العويط، ادوار الخراط، أسعد خير الله والياس خوري.

2
"روضة الكرمة القبطية" كانت المدرسة الأولى التي تعلمت فيها، وامشي نحو خمس دقائق من بيتنا للوصول اليها، وكان ناظرها منصور افندي شخصية حاسمة في تكويني الأول: رجل شديد الطيبة والحزم في آن واحد، ينظمنا صفوفاً في الصباح - نحن تلامذة المدرسة الأقباط مع قلة من المسلمين - لنروح ننشد ترنيمة "أبانا الذي في السموات"، قبل ان يبدأ برواية قصص شهداء القبط، وفي مقدمهم القديس مرقص، مؤسس الكرازة او الكنيسة القبطية، الذي تصف الحكاية استشهاده دفاعاً عن العقيدة وصفاً درامياً: قام الرومان بربط ذراعيه وساقيه الى عربة يجرها حصان أخذ يجري سريعاً بعد ضربه بالسياط، فتمزق جسم القديس مرقص أشلاء، وتركت هذه الحكاية أثراً لا يمحى في نفسي وقلبي.
اضافة الى "روضة الكرمة القبطية"، هناك مدارس الأحد التي كانت مس كاترين تعلمنا فيها الترانيم الدينية. لا أزال حتى الساعة أذكر مس كاترين الشبيهة صورتها بصورة مريم العذراء، فيما كانت تلقننا الترانيم. وفي واحدة من مدارس الأحد بدأ الطفل الذي كنته يقرأ الكتاب المقدس من دون ان يتنصر عبر طقوس العمادة. والى القراءة والترانيم، كانت توزع علينا نحن التلامذة الأطفال بطاقات مصورة مكتوبة عليها عبارات بالقبطية والعربية. كانت تلك البطاقات تروي بالصور حكايات من التوراة والانجيل، بدءاً بآدم وحواء وملاك النار الذي يحمل سيفه الناري الاسطوري. لم تكن تلك الصور او اللوحات عادية في عيني ذلك الطفل الذي كنته، اذ خبرت فيها معنى الألوان وتذوق التشكيل الفني المرتبط بالموضوع الديني. لاحقاً قرأت العهدين القديم والجديد، وتعرفت الى قصة صلب السيد المسيح الذي كان مأساة حقيقية حميمة في بيتنا، رغم ان عائلتي لم تكن متدينة الا تديناً تقليدياً، فيؤدي أفرادها فرائض الصوم من دون الصلوات. لكن الكتاب المقدس كان تأثيره كبيراً عليَّ، لأنه كان كتاب الوفيات والزيجات والولادات العائلية التي كان والدي يحرص على تدوين تواريخها عليه.
3
قدم والدي الى الاسكندرية من أخميم في الصعيد، مخلّفاً وراءه زواجه من امرأتين. تزوج الاولى في أخميم مسقطه، وبعد وفاتها انتقل الى الفيوم، حيث تزوج من امرأة ثانية دفعته وفاتها الى الانتقال الى الاسكندرية، حيث تزوج والدتي التي كانت شديدة الغيرة على زوجها من زوجتيه السابقتين المتوفيتين وأهلهما الذين تشدّدت في قطع علاقة والدي بهم وبماضيه، باعتباره رجلاً مزواجاً.

- قبل قدومه الى الاسكندرية كان والدي تاجراً في الفيوم يعمل في تصدير البصل والبيض، وكانت تجارته مزدهرة هناك قبل تعرضه للافلاس في ازمة ،1936 مما اضطره الى العمل كاتب حسابات عند اصدقائه التُجار في الاسكندرية حتى وفاته.
- الذكرى الأقدم والأقوى لديّ عن والدتي هي العبارة التي طالما كانت ترددها على مسمعي في طفولتي قائلة: انت رضعت لبن الحزن.
- ذلك لأني ولدت بعد 19 يوماً من وفاة اخي الذي ولد قبلي بسنة او سنتين في الاسكندرية، فنذروني كي يجري تنصيري في أخميم التي كان لعلاقتي بها تأثير كبير في حياتي، قبل ان أعرفها وتطأها قدماي.
- واذ كنت قد ولدت لأرضع لبن حزن والدتي على وليدها البكر، فإني في العاشرة من عمري، صحوت ذات صباح من نومي في بيتنا على صياح والدي النائح: ولدي... ولدي... ولدي، لحظة وصله خبر مقتل ابنه البكر من احدى زوجتيه السابقتين، بعدما دهسه قطار.

كان عمري نحو ست سنوات حين أخذني أهلي الى اخميم لايفاء النذر بتنصيري وتعميدي هناك.
- أذكر ان الرحلة كانت شاقة في القطار، وعن سلّم بيتنا الذي كان بلا سياج في اخميم سقطت فأصبت بجرح بليغ في ركبتي، لم يندمل أثره حتى اليوم.
4
في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الاسكندرية تُضرب بالقنابل، عندما قرر والدي أن يرسلنا، أمي وأنا واخوتي واخواتي، الى مسقطه في أخميم، ويظل وحده منصرفاً الى عمله في الاسكندرية. كان ذلك في العام 1940 او العام الذي تلاه، فاستغرقت رحلتنا في القطار نحو 17 ساعة للوصول الى اخميم بين المنيا والأقصر في الصعيد.

في اخميم انصرفت الى قراءة شكسبير وشيلي ويتس في اللغة الانكليزية. وربما في تلك الفترة بدأت بمحاولات الترجمة الاولى لبعض القصائد من الشعر الانكليزي. وقبل ذلك، في الاسكندرية، كنت قد قرأت مؤلفات جبران خليل جبران الذي تأثرت به حتى التيه والهيام، على عكس المنفلوطي والعقاد وطه حسين الذين قرأت مؤلفاتهم من دون ان يتركوا فيّ أثراً يذكر.

طوال أيام الاجازة الصيفية، بدءاً من العام ،1938 انصرفت كلياً الى القراءة والمطالعة اللتين تعبدت لهما منصرفاً عن الذهاب الى البحر ولعب الكرة وغيرها من الألعاب التي كان يمارسها اصدقائي واترابي في المدرسة. أقول قارئاً نهماً واعني اني كنت في الصباحات افتح باب المكتبة البلدية في الاسكندرية مع موظفيها، ومعهم اقفل بابها واغادرها في المساء. وقد جعلتُ لقراءاتي منهجاً صارماً، اذ وضعت قائمة بأسماء الكتّاب نظمتها بحسب التسلسل الأبجدي. كانت القائمة تبدأ باسم ابرهيم، ويليه أحمد، ثم أسعد... الخ. وحين كنت أفرغ من قراءة مؤلفات الاسم الأول، انتقل الى مؤلفات الاسم الثاني فالثالث... حتى نهاية التسلسل الأبجدي.

واذا كان جبران هو كاتبي المفضل بالعربية آنذاك، فإن التأثير الأول عليّ من كتّاب الخواجات (الأجانب) مارسه الشاعر الانكليزي شيلي. واذا قلت أني قرأت روايات جرجي زيدان في تلك الفترة، فان أثرها فيّ لم يكن يذكر، قياساً الى كتابات جبران الذي تعبّدت في محراب أدبه.

لم تستمر اقامتنا في أخميم أكثر من أشهر معدودة في نهايات الحرب الثانية، عدنا بعدها الى الاسكندرية، حيث قررت ألا أزور أخميم قبل أن أكتب رحلتي اليها ومشاهداتي فيها. وهذا ما فعلته لاحقاً في كتابي "صخور السماء". لقد حرصت على ألا ازورها كي لا أشوه تلك الصورة الأولى الغريبة التي رأيتها عليها اثناء لقائي الأول بها. ومن زيارتي الأقدم الى أخميم استعدت في "صخور السماء" اطياف طقوس تنصري وتعميدي في كنيستها استعادة دقيقة كاملة.
5
درست الحقوق في جامعة الاسكندرية. ذلك ان والدي، صاحب الميول السياسية الوفدية، كان راغباً في أن يراني رجلاً على صورة مكرم عبيد باشا ومثاله، ما دام عبيد هذا نائب سعد زغلول، زعيم حزب الوفد. لكن السياسة كانت حاضرة ايضاً في عائلتنا من جهة عائلة أخوالي الذين كان أحدهما في جماعة "مصر الفتاة"، وكان الآخر من انصار نبيل عباس حلمي. أما اليسار الماركسي او الشيوعي الذي كان حاضراً بقوة في مصر العشرينات فقد غاب تماماً عن مسرح الحياة السياسية في الاربعينات.

في اثناء دراستي الجامعية، وبعد سنتين او ثلاث من تخرجي من الجامعة، كنت عضواً مؤسساً لحلقة تروتسكية ظللت سكرتيرها العام حتى .1948 في تلك المرحلة من حياتي غرقت حتى الثمالة في الاجتماعات والمناقشات والتظاهرات واصدار البيانات وكتابة المنشورات التروتسكية، فأصدرنا مجلة "الكفاح الثوري" التي كنا ننسخها على الآلة الكاتبة ونوزعها على الاعضاء والاصدقاء.

- حين أنظر اليوم الى الوراء مفكراً في دوافع انتمائي الى تلك الحلقة من يسار اليسار، أجد ان شعوري بالظلم وفقدان العدالة كانا في اساس دوافعي العاطفية والوجدانية البعيدة. وكان مصدر احساسي بأن العالم من حولي ليس عادلاً، بل ظالم، أمرين اثنين:
- فقداني خالتي واخويّ وأختيّ الذين خطفهم الموت على نحو متواتر او متتابع. فالثلاثينات والأربعينات كانت حقبة سيئة وقاسية، عموماً، على الصعيد الصحي، اذ كانت الامراض والاوبئة، كالتيفوئيد، تفتك بالناس فتكاً متمادياً، لعدم توافر الأدوية، خصوصاً المضادات الحيوية.

- الأمر الثاني الذي يلازم الأول ويوازيه في دفعي الى اليسار، كان محنة الظروف المادية وقسوتها. فاليسر والرفاه اللذان عرفهما والدي قبل ازمة 1936 الاقتصادية الخانقة، انقلبا عسراً وضيقاً بعد تلك الأزمة، مما فاقم احساسي بالظلم واللاعدالة.

أما العنصر الذهني او الفكري في يساريتي فيعود الى وقوعي في مكتبة الاسكندرية البلدية على مؤلفات كاتب في حروف السين، هو سلامة موسى الذي سحرتني كتاباته وانكببت على قراءتها كلها، في نهم شديد، وعرفت منه ماهية الاشتراكية ومعناها. وفي تلك الفترة وبعدها بقليل قرأت برنارد شو ثم ان صديقي جورج خوري أهداني كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لفريديريك نيتشه، في ترجمة خاله فيلكس فارس، فكان تأثري بذلك الكتاب كبيراً.

يعود تعرفي الى الأفكار الشيوعية والانكباب على قراءة المؤلفات الماركسية الى شاب سوداني اسمه خليل الآسي. لكن شيوعيتي التروتسكية جعلتني معادياً للستالينية والديكتاتورية كما لم أكن معادياً لأي شيء في العالم. وكانت الشيوعية التروتسكية جواباً شافياً عن احساسي بالظلم واللاعدالة، في جمعها بين الحرية والعدالة. ثم عرفت ان تروتسكي صديق للسورياليين والسوريالية، فيما كنت منكباً على قراءة الأدب السوريالي في ترجمة رمسيس يونان.