عرض مشاركة واحدة
قديم 04-08-2012, 03:16 AM
المشاركة 366
عبد السلام بركات زريق
مشرف منبر الشعر الفصيح

اوسمتي
الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الثانية المشرف المميز الألفية الأولى الحضور المميز 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
.... إنَّ غَدَاً لِنَاظِرِهِ قَرِيْبُ ....

أي لمنتظره ، يقال : نَظَرْتُهُ أي انتظرته .
وأول من قال ذلك قُرَادُ بنُ أَجْدَعَ ، وذلك أن النعمان بن
المنذر خرج يتصيد على فرسه اليَحْمُوم ، فأجراه على أثَر
عَيْر ، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر عليه ،
وانفرد عن أصحابه ، وأخذته السماء ، فطلب مَلْجأً يلجأ
إليه ، فدُفِع إلى بناء فإذا فيه رجل من طيء ، يقال له
حَنْظَلَةُ ومعه امرأة له ، فقال لهما : هل من مَأوىً ؟
فقال حنظلة : نعم ، فخرج إليه فأنزله ، ولم يكن للطائيِّ
غير شاة ، وهو لا يعرف النعمان ، فقال لامرأته : أرى
رجلاً ذا هيئة وما أخْلَقَه أن يكون شريفاً خطيراً فما الحيلة ؟
قالت : عندي شيء من طَحين كنت ادّخرته فاذبحِ الشاةَ
لأتخذَ من الطحين مَلَّة ، قال : فأخرجت المرأة الدقيق
فخبزت منه مَلَّة ، وقام الطائيّ إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها
فاتخذ من لحمها مَرَقة مَضِيرة ، وأطعمه من لحمها ، وسقاه
من لبنها ، واحتال له شراباً فسقاه وجعل يُحَدثه بقيّةَ ليلته ،
فلما أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه ، ثم قال : يا أخا
طيئ اطلب ثَوَابك ، أنا الملك النعمان ، قال : أفعل إن شاء
الله ، ثم لحق الخيل فمضى نحو الحِيرة ، ومكث الطائي بعد
ذلك زماناً حتى أصابته نَكْبَةٌ وجَهْد وساءت حاله ، فقالت له
امرأته : لو أتيتَ الملك لأحسن إليك ، فأقبلَ حتى انتهى إلى
الحِيرَة فوافق يومَ بؤس النعمان ، فإذا هو واقف في خَيْله في
السلاح ، فلما نظر إليه النعمان عرفه ، وساءه مكانه ، فوقف
الطائيّ بين يدي النعمان ، فقال له : أنتَ الطائيّ المنزولُ
به ؟ قال : نعم ، قال : أفلا جِئْتَ في غير هذا اليوم ؟ قال :
أبَيْتَ اللعن ! وما كان علمي بهذا اليوم ؟ قال : والله لو سَنَحَ
لي في هذا اليوم قابوسُ ابني لم أجد بُدّاً من قتله ، فاطلبْ
حاجَتَكَ من الدنيا وسَلْ ما بدا لك فإنك مقتول ، قال : أبَيْتَ
اللعن ! وما أصنع بالدنيا بعد نفسي ؟ قال النعمان : إنه لا
سبيل إليها ، قال : فإن كان لا بدّ فأجِّلْني حتى أُلِّمَ بأهلي
فأوصي إليهم وأهيئ حالهم ، ثم أنصرف إليك ، قال النعمان :
فأقِمْ لي كَفيلاً بموافاتك ، فالتفت الطائي إلى شريك بن عمرو
بن قيس من بني شيبان ، وكان يكنى أبا الحَوْفَزَان ، وكان
صاحب الردافة ، وهو واقف بجنب النعمان ، فقال له :

يا شريكاً يا ابنَ عمرٍو = هل مِنَ الموتِ مَحَاله
يا أخا كلّ مُضَافٍ = يا أخا مَنْ لا أخا له
يا أخا النعمان فُكَّ الـ = ـيومَ ضيفاً قد أتى له
طالما عالج كربَ الـ = ـموتِ لا ينعمُ باله


فأبى شريك أن يتكفل به ، فوثب إليه رجل من كلب يقال
له قُرَاد ابن أجْدعَ فقال للنعمان : أبيت الَّلعن ! هو عليَّ ،
قال النعمان : أفعلت ؟ قال : نعم ، فضمّنه إياه ثم أمر
للطائيّ بخمسمائة ناقة ، فمضى الطائيّ إلى أهله ، وجَعَلَ
الأجلَ حولاً من يومه ذلك إلى مثل ذلك اليوم من قابل ،
فلما حال عليه الحولُ وبقي من الأجل يوم قال النعمان
لقُرَاد : ما أراك إلا هالكاً غَداً ، فقال قُرَاد :

فإنْ يَكُ صَدْرُ هذا اليوم وَلّى
فإنَّ غَـداً لنــاظِرِهِ قَرِيْبُ

فلما أصبح النعمان ركب في خيله ورَجْله متسلحاً كما
كان يفعل حتى أتى الغَرِيّيْنِ فوقف بينهما ، وأخرج معه
قُرَاداً ، وأمر بقتله ، فقال له وزراؤه : ليس لك أن تقتله
حتى يستوفيَ يومه ، فتركه ، وكان النعمان يشتهي أن
يقتل قُراداً ليُفْلِتَ الطائيّ من القتل ، فلما كادت الشمس
تَجِبُّ وقُرَاد قائمٌ مُجَرَّدٌ في إزارٍ على النِّطَع والسَّيافُ إلى
جنبه ، أقبلت امرأته وهي تقول :

أَيا عَيْنُ بكّي لي قُرادَ بن أجْدَعَا
رَهيناً لقَتْلٍ لا رهينـاً مُوَدّعـا

أَتَتهُ المَنـايا بَغْتَةً دونَ قـومهِ
فَأَمسى أَسيراً حاضرَ البَيْتِ أضْرَعَا

فبينا هم كذلك إذ رفع لهم شخص من بعيد ، وقد أمر
النعمان بقتل قراد ، فقيل له : ليس لك أن تقتله حتى
يأتيك الشخص فتعلم من هو ، فكفَّ حتى انتهى إليهم
الرجلُ فإذا هو الطائيّ ، فلما نظر إليه النعمان شَقَّ عليه
مجيئه فقال له : ما حملك على الرجوع بعدَ إفلاتك من
القتل ؟ قال : الوفاء ، قال: وما دَعَاك إلى الوفاء ؟ قال :
دِيني ، قال النعمان : وما دينك ؟ قال النصرانية ، قال
النعمان : فاعْرِضْهَا عليّ ، فعرضها عليه ، فتنصّر
النعمانُ وأهل الحِيْرَة أجمعون ، وكان قبل ذلك على دين
العرب ، فترك القتلَ منذ ذلك اليوم ، وأبطل تلك السُّنَّة وأمر
بهدم الغَرِيّيْن ، وعفا عن قُراد والطائيّ ، وقال : والله ما
أدري أيهما أوفى وأكرم ، أهذا الذي نجا من القتل فعاد أم
هذا الذي ضمنه ؟ والله لا أكون ألأمَ الثلاثة ،
فأنشد الطائيّ يقول :

ما كُنْتُ أُخْلِفُ ظنَّه بعدَ الذي
أسْدَى إليَّ منَ الفَعَالِ الخالي

ولقدْ دَعَتْنِي للخِلافِ ضَلَالتي
فأبَيْتُ غيرَ تَمجُّدِي وفعالي

إنِّي امرؤٌ منِّي الوفاءُ سَجِيَّة
وجزاءُ كلّ مكارمٍ بَذّالِ

وقال أيضاً يمدح قُرَاداً :

ألا إنَّما يَسمو إلى المجدِ والعلا
مخاريقُ أمثال القُرادِ بْنِ أَجْدَعا

مخاريقُ أمثال القراد وأهلـه
فإنَّهمُ الأخيارُ من رَهْطِ تبّـعا