أسير الأحلام
.
دخل غرفته بعد يوم عمل مضن . كان قد أمضى نهاره ما بين المكتب والعملاء وما بين الاجتماعات التي يمقت وقعها الرتيب . لكنه لم يدخل غرفته طلباً للراحة . هذه الغرفة البغيضة المملة التي لا تسأم جدرانها من التحديق إليه في بلاهة وهي لا تعرف سبباً لشروده وذهوله و عبوس وجهه وتقطيب جبينه عندما يراها . هي طالما احتوته .في أيام التعب والبرد وأيام الإرهاق والحر . لم يبدل ملابسه , تمدد على السرير مرتمياً كسيف ممشوق طال مكوثه في غمده حتى ظن أنه سيعلوه الصدأ . . يا الله , كم يكره هذا السرير البارد برود ذرا الجبال المغطاة بالثلوج . هذه الوسادة الساذجة التي تنتظر منه كل يوم أن يعانقها ويضمها إلى صدره لكنه لا يفعل . يجب أن يؤدي الفريضة اليومية تجاه الأحلام التي أضنته واستعبدته ؛ فهي ترسل إليه كل يوم طيفاً ليزوره ؛ واشترطت عليه أن يكون ثمن حريته هو أن يضع اسماُ حقيقياً لهذا الطيف ؛ فإن تحقق الشرط نال حريته , وأنهى زمن عبوديته لها . وإن فشل في إيجاد الاسم فسيظل أسيراً مستعبداً لأحلامه طوال عمره . أغمض عينيه , ليرى حظه اليوم . لعل السماء تجود عليه بطيف يعرفه ؛ طيف قد يكون مر به في رحلة حياته . فرضت عليه عبوديته أن يصبح كالسندباد , يدمن التطواف والترحال حول جهات الدنيا الأربع وبحار الأرض السبعة , عله يجتمع في رحلة من رحلاته بطيف يشبه طيف أحلامه المستبدة . اعتاد على شد الرحال وصارت جزءاً من حياته التي استهوته رغم قسوتها . كانت الشمس تميل للغروب وضوء الشفق الأحمر يضفي على السماء لوناً حزيناً لا يخلو من بعض البهجة . كانت نسمات المساء تتسلل إلى وجهه المرهق عبر النافذة تحاول إنعاش ذكرياته . سئم من التحديق إلى سقف غرفته الشاحب . أشاح بوجهه صوب الأفق . لا حظ مخلوقة غريبة ترفرف بأجنحتها باضطراب ثم تستقرعلى سور شرفته . نهض من فراشه وصار يراقبها عن كثب . حاول جاهداً ألا يجعلها تنفر منه . إنها حمامة بيضاء أضناها التعب فحطت على خميلته . كانت ترمقه من بعيد بخجل حاول الاقتراب منها . خافت منه في البداية , إذ كان كل من يقترب منها يحاول إمساكها و سجنها في قفص ذهبي وهي لا تحب الأقفاص مهما غلا ثمنها . لكنها في هذه المرة لم تخف منه . لم تدر لماذا شعرت بالأمان في قربه . دنا منها أكثر فأكثر . لمحت في عينيه مدى إرهاقه وحزنه . شعرت أنه لا يمكن أن يؤذيها , لذلك أطالت المكوث ببراءة وثقة . شعر أنه يراها لأول مرة . لم يسبق لها أن زارته في أحلامه . ياالله , كيف يعرف اسمها وهو لم يرها من قبل ؛ لكنه سيحاول , ربما تكون مهمته سهلة وينهي عمراً من العبودية . دنا منها أكثر فأكثر , لم تحاول الابتعاد . تأمل في بياض ريشها الناصع وبراءة عينيها اللتين تحدقان إليه بطفولة حالمة . شعر أنها تناديه باسمه , إنها تعرف اسمه , كأنها تستعطفه أن لا تبتعد .. ادن مني أكثر , لا بد أن تعرفني إذا كان احساسك لا يزال يقظاً مشتعلاً . مد يداً مرتعشة , حاول لمسها . فاستكانت للمسته و تركته يمرر يده على رأسها و يمسح على ريشها حتى يصل إلى قلبها . يا الله , كم ينبض هذا القلب بقوة . فجأة أحس برعشة تسري في بدنه , وشعر بلون الدم الحار يجري في عروقه . وأحس بعطر الياسمين يملأ المكان حوله ويأخذه إلى عالم غريب عن عالم البحار والجبال والأودية التي طاف بها خلال رحلاته السندبادية . نظر الى عينيها مرة أخرى . لمح وميضاً يلمع كسهم ماسي يخترق قلبه . أحس عندها أنه قد طالما انتظر هذا الوميض . هذا الوميض الذي افتقده في عيون كل الأطياف التي ترسلها إليه أحلامه ؛ وميض يضيء شغاف القلب ويسري فيه روحاً فينتشي بالأمل . صرخ لا هثاً : أيتها الأحلام , قد وجدتها , قد عرفت اسمها , لا عبودية بعد اليوم , قد نلت حريتي .. قد نلت حريتي .. خرج من غرفته مسرعاً , وصار يطوف في أركان منزله مردداً بلهفة : وجدتها .. وجدتها . ترى , هل تراوده الأحلام مرة أخرى عن حريته ؟ ! ************************************** |
رُبما ...!
من الصعب حقا الإمساك بالأحلام فكيفَ فعلتِ هذا ؟؟ لك قدرة جميلة على الوصف ... حسٌ راقٍ جميل بوركتِ صافي الود |
الكاتبة المحترمة جليلة , أشكر لك مرورك الكريم على سطوري .
تقبلي مني خالص تحياتي . دمتِ بخير . |
قدرة سردية متميزة و لغة متمكنة حقا
أ. هند جميل الطباع سعيدة بقراءة نصوصك إلى حد كبير تحيتي دوما |
الساعة الآن 06:09 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.