منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   ويفيض النبـع (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=6976)

طارق الأحمدي 11-09-2011 09:27 PM

ويفيض النبـع
 



تكوّمت فاطمة في مكانها, فبدت كقطعة بالية من أثاث البيت القليل. تحسّست خيوط النور القليلة التي تمزّق ظلام الليل الطويل. فركت عينيها لتنفض آثار النوم الثقيل, ونهضت لتبدُوَ كنخلة تأبى الانحناء للقدر والعواصف. صامدة كصمود مخيّمها وأهله. وقفت, فبانت جبهتها عريضة, متّسعة لكلّ ما خطّ عليها من سطور وما ستطبعه الأيام عليها من الأحزان وبعض لحظات فرح حين ترى ابنتها الرضيعة " جنين" تكبر مع كل طلقة مقاوم يرميها في صدر العدوّ. مع كل شهيد يسقط لتخضّب دماءه أرض الوطن. مع كل حجر ينطلق من بين أنامل تلميذ أفرغ محفظته وحشاها حجارة, ونقمة وأملا.



استوت واقفة. تقدمت بخطى ثقيلة كثقل الساعات. فتحت النافذة فاقتحم نور الصباح أجزاء كبيرة من الغرفة, فتهلّلت ملامح رضيعتها وهي تنام هادئة, مطمئنّة وكأنها تعلم أن لها أما وأخا صغيرا, وجيرانا وأهلا يحمونها ويدفعون عنها الضيم.



التفتت إلى حيث ينام ابنها فلم تجده. فزعت طيور الرعب في صدرها, انتفض قلبها الجريح دائما بين ضلوعها, امتلأت عيناها السوداوان دموعاً, انقلبت حمرة وجهها المستدير شحوباً, تزلزلت دواخلها وزحف دود الشكّ ينهش عقلها. سكنها شيطان الأمومة والضعف, فاندفعت كالتيار إلى الخارج لتصطدم بابنها الذي لم يطفىء شمعته العاشرة بعد, وهو ينتعل حذاءه الرياضي ويستعدّ للخروج.



جمعت قواها الخائرة, لملمت بقيّة شجاعة مازالت تتعلّق بتلابيب وجدانها. وسألته بصوت تسلّق جدران حنجرتها في جهد ليخرج ضعيفا مكدوداً.



- أجننت؟! أمجنون أنت؟! تكلّم..ألا تعلم أنّ حظر التجوّل يبقى ساريا حتى الثامنة؟



رفع الطفل كتفيه في براءة تدلّ على عدم الاهتمام, ثم قبّل أمه وهمّ بالخروج.



جنّ جنونها, واختطفته بقوّة من قميصه فبان قصره الواضح وضعف بنيته التي لم تصمد أمام قوّة أمه التي رفعته بعض الشيء عن الأرض وأفقدته توازنه, فجثا على ركبتيه متألما بعض الشيء, وانخرط في البكاء.



حضنته. شدت بعنف على ضلوعه, تشمّمته, بلّلت دموعها خدّه الصغير, رفعت يدها اليسرى وتركتها تعبث بشعره. واسترسلت في نحيب حزين.



- فقدت الكثير ولا أريد أن أفقدك أيضا, تعذّبت كثيرا وتعبت. أيها الرّبّ, إن كنت تسمعني فخلّصني من عذاباتي, خذني إليك, أو فجّرني في هذا البلد الحبيب, اجعلني غيمة تروي شجرة صبّار رميت وحيدة في صحرائك الواسعة, أو ناراً تدفىء طفلاً جائعاً ينتظر رجوع والده من غيبة طويلة محمّلاً بالخبز.امسخني كلباً يحرس أمّاً ساهرة أرّقها جوع أبنائها, امسخني غراباً ينعق هذا العالم المجنون الظالم..قد تعبت أيها الرّبّ, يعذّبني جسدي. سجن هو, تختنق روحي داخله.



وتسكت, تخنقها غصّة فتبكي, بحرقة تبكي. لكن الدموع لا تسعفها كثيرا حين فاجأها ابنها بسؤاله البريء الذي أعاد لها توازنها, وجعل خوفها يتقهقر إلى الداخل.



- أمي.أعيدي عليّ حكاية " علي بن السلطان".



فتحكي له. تحكي عساه ينسى فكرة الخروج وهي تتوسّل الشمس الذابلة أن تتخلّص من براثن الأفق وتتحرّر. تتلهّف أن تمرّ الدقائق سريعة حتى يرفع حظر التجوّل.



وتروي له:



- "...وكان رجلا شهماً, لا يرهب صحراء, ولا يعيقه البحر. صيده الأسود, وأسراه الغيلان...كان شجاعاً, نبيلاً, غامر وأنقذ محبوبته من "خاطف العرائس".



- ومن هو خاطف العرائس؟



تسكت لحظات, ثم تجيبه وهي تعدّل من جلستها.



- إنه غول- بنيّ- يسكن جبلاً وعراً تحرسه الوحوش. وله قصر قائم على جماجم البشر.وقد سُمّيَ بذلك الاسم لأنه يخطف كلّ عروس ذات جمال أو حظوة ليلة زفافها. وتقول الخرافة أن روحه كانت مخفيّة في قلب جمل!! وهذا الجمل يرعاه زنجيّ في وادٍ يسمّى" وادي الزنوج" يقع بين جبلين عظيمين.



يقاطعها وهو يدير ذقنها براحته لتنظر في عينيه.



- أخبريني عن الروح.



-إنها معجزة الله, يسكنها عبده كي يتحرك ويمشي ويسعى ويسرق ويقتل ويعمل ويدرس ويجاهد. وحين يشاء يأمرها فتفارقه.



- ولماذا الله هو الذي يشاء وليس نحن؟



فتنهره بشدّة, يدفعها خوف أزلي سكنها من زمن بعيد.



-استغفر ربّك, لا تكفر- ( ثم وبلهجة متوسلة ملؤها الرجاء)- إن الروح ملك للّه, وهو حرّ في ملكه يتركه إذا أراد ويأخذه إذا شاء.



- وأبي؟ هل هو ملك له كذلك.



- أجل. كلنا ملك له.



- لِمَ لَمْ يتركه لنا؟



فتبكي فاطمة في صمت. لم يكن الطفل يدري أنه ينبش جراحاً مازالت طريّة. ولكنها تجيبه من بين دموعها.



- أبوك لم يمت, إنه شهيد. لقد وهب روحه لهذا الوطن كي يكنس دمه بعض القاذورات التي دنّست فناء القدس.



استقام الطفل واقفا, وسار نحو الباب بخطى ثابتة وسط دهشة أمه وخوفها. وقبل أن يخرج خاطبها في جدّ وثبات.



- سأخلّص فلسطين من براثن خاطف العرائس.



وصفق الباب وراءه وخرج يحمل بين أنامله الصغيرة بعض الحجارة وتحت جنبيه قلباً مؤمناً ومصمّماً على تحرير أرضه.



انتظرت فاطمة. طال انتظارها.



مرّت الساعات ثقيلة, متباطئة ولم يعد ابنها.








يارا عمر 11-10-2011 08:57 PM

استاذ / طارق

اصفق لك بشده على هذه الرائعه بدايه من اختيار ك للاسم ويفيض النبع

بما يحمله من من معانى متدفقه

القصه تحكى واقع مؤلم تعيشه الام الفلسطينيه التوتر والخوف من القادم

والترقب الدائم لفقد عزيز مع كل اشراقه صبح ثم القدرة على غرس روح المقاومه

فى نفوس الصغار ليبقى الحلم بالانتصار هدفا لا ينتهى مهما كانت الاهوال

والذى اتضح من خلال القصه التى تحكيها فاطمه لابنها

برغم الخوف والاحساس بالضعف والقهر الذى جعلها تتمنى ان تكون مسخا

لتستطيع ان تفعل شئ لكنها لا تستسلم لمشاعرها فلديها ماهو اهم مشروع بطل

عليها ان تزرع بداخله التحدى والرغبه فى الانتصار

لغه السرد رائعه فهى السهل الممتنع

استمتعت بالقراءة هنا

شكرا لك



طارق الأحمدي 11-10-2011 09:03 PM


القديرة : يـــــارا

فعلا استمتعت جدا بقراءتك المتأنية والواعية ..

لقد غصت عميقا بين مفاصل الحدث واستنبطت مكامنه فأوفيت النص حقه وزيادة ..

ستبقى منابر شامخة مادامت مثل هذه الأقلام تسكنها..

من القلب شكرا سيدتي .

ودمت بود .

شيخه المرضي 11-10-2011 10:49 PM

رائع أنت استاذي
وكأنني أحد افراد تلك القصه

طارق الأحمدي 11-10-2011 11:10 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شيخه المرضي (المشاركة 93069)
رائع أنت استاذي
وكأنني أحد افراد تلك القصه



بل الأروع هو حضورك سيدتي الكريمة .

والقصة نبعت منا لتعود إلينا لذلك تجدين نفسك ضمن شخوصها ..

لا عدمت تشجيعك ..

ودمت بود .

أحمد فؤاد صوفي 11-12-2011 10:45 AM

أيها الحبيب . .

أما آن الأوان لهذا الوطن أن يلملم جراحاته وينبعث حراً في سبيل الله من جديد . .
لقد طال الصبر . .
ونحمد المولى أن جعلنا قادرين على التحمل . .
ولكن الأشياء تعرف بأضدادها . .
وكل ليل سوف يأتي بعده النهار . .

لنكن مؤمنين موقنين . .
نحن زوار الأرض . . والزيارة قصيرة . .
فلنحسن الفكر والحكمة . . ولنعلم الحق لكل صغير وكبير . .

قصتك هنا هي قطعة ألم تحرق القلب . .
فهي واقعية . . تتكرر كل يوم . .
ومع تكرارها . . فألمها لا يتغير . . بل يزيد دوماً . .
اللهم امنحنا من لدنك صبراً ويقينا . .

عزيزي . .
تحيتي أرسلها إليك وتقديري . .
دمت والأهل والوطن بخير وكرامة . .

** أحمد فؤاد صوفي **

طارق الأحمدي 11-12-2011 02:34 PM


صبرا جميلا أهلنا في فلسطين .. فالنصر قادم لا محالة ..

جميل القلب والروح : أحمد

نزل حرفك كقطرات الندى في صباح بهي ..

حرفك بلسم هذا المنتدى ..

حباك الله صديقي بالخير واليمن والسعادة.

لا حرمنا الله من إطلالتك البهية ..

ودمت بود ..

حامد الشريف 11-15-2011 11:12 AM


أخي الحبيب الأستاذ طارق
عندما أغوص في ثنايا حرفك وأبحر في بحر إبداعك
عندما تتلقفني شواطئ إحساسك المرهف
تنتابني حالة من اليأس والقنوط
أتسأل في حيرة والألم يعتصر فؤادي
لما لا أملك مثل هذا الإحساس
لما لا تستنزف قلمي كل هذه الأحداث الدامية من حولنا حتى أسطر مثل رائعتك
لما لا يطاوعني هذا القلم العتيق الذي مللت خربشاته
أنظر إليه والشرر يتطاير من عيني أوشك بعدها أن أحطمه أو أرميه من يدي
وكلي أمل أن أجد قلماً أخراً يضاهي قلمك
يستطيع أن يسطر مثل هذه الروائع التي تفيض بالأحاسيس والمشاعر
تنتظم فيها الأحرف على هيئة قصيدة حب خالدة
أخي طارق لقد أتعبت من كتب بعدك
لقد كانت قصتك تنساب أحرفها في سلاسة ويسر
وهي تقطر إبداعاً كما تنساب جداول الماء الرقراق في أخاديدها
ليس جديداً أن تتعلق أم بأهداب الأمل وهي تحاول ثني وليدها الذي لم يبقى لها غيره
عن الانتصار لكرامته والذود عن حياض أمته برغم أن هذا ليس غراسها
نستحضر هذه الصورة الرائعة ونحن نراه يذكرها بالقصص التي كانت ترويها له
والتي خلقت منه هذا الرجل الشهم الشجاع الذي لا يهاب مواجهة العدو رغم شراسته
رغم تكرار مثل هذه القصص الحزينة إلا أننا نقرأها من أناملك حكاية أخرى
تتضارب فيها المشاعر وتتلاقح فيها المفردات لتفرز لنا أنموذجاً رائعاً للقصة .
عذراً أخي طارق فكم تمنيت أن تسترسل أكثر وأكثر
لأنني لم أمل حرفك ولأنني أجلد ذاتي كلما أقترن بصري ببوحك الشجي .
كن لنا دوماً مبدعاً نقتفي أثره
دمت في مودة أخوك ... حامد الشريف


طارق الأحمدي 11-16-2011 10:35 PM


الأخ الحبيب : حامد الشريف

من القلب تحية .. وإلى روحك الطيبة ألف سلام ..

أخجلني حرفك يا صديقي بما حباني به من كرم ..

أحرجتني كلماتك وأسرتني بجمالها ونقائها وروعتها ..

من يملك قلمك لا تقدر الكلمات إلا أن تعشقه وتسقط لديه أسيرة الإبداع ..

القريب من القلب : حامد

من القلب شكرا لقراءتك المعمقة والواعية ..

فليحفظ لنا الله قلمك وإبداعك فنحن بحاجة لكما ..

حفظك الله يا أخي من كل سوء

ودمت بود .

سناء محمد 11-17-2011 08:01 PM

أتشرف بمروري هنا اخي الفاضل طارق الأحمدي .. ولازالنا ننتظر الفرج كانتظارها لولدها

بورك القلم ذات الأثر الجميل


الساعة الآن 08:11 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team