![]() |
دروب الطاحون
"كل الدروب تؤدي إلى الطاحون "
مثل شعبي معروف . يجسد قاعدة عامة من أمهات القواعد و أنا شخصيا أتعامل مع الأمثال الشعبية بمنتهى الاحترام و الهيبة , لما تختزنه من تجربة إنسانية هائلة , يمكن أن تختصر علينا الكثير من الجهد و الوقت و المال و الدماء أحيانا ... لا , بل غالبا . غير أن المسكوت عنه في هذا المثل أهم من المصرح به , بل و ربما هو الجزء المقصود من المثل برمته , أما عن سبب سكوته , فهو الحكمة الخالصة التي لا تعطينا ذاتها من أول قراءة , و سأدلي بأسبابي فيما يتعلق بذلك , و أنا مضطر لذلك بسبب قاعدة فقهية عامة ترفع في وجهي يافطة كتب عليها : "لا ينسب لساكت قول " . كانت أمي تقول " الله يرحم المثل , ما خلا شي و ما قاله " و اسمحي لي يا أمي أن أخالفك هنا ...... فهناك شيئ لم يقله المثل و اسمحي لي , و اسمحوا لي انتم أيضا , أن أضع أولا صياغة لما سكت عنه المثل , و هو عبارة : "و لكن هناك طريق واحد فقط , هو الطريق الأفضل " قاعدة علمية أخرى تطل برأسها للمشاركة في هذا النقاش فتقول لنا : "أقصر الطرق بين نقطتين هو المستقيم " نعم هذا صحيح و لكن عندما ذهبت "ليلى " لزيارة جدتها , نصحتها والدتها بسلوك الطريق الطويل , مخالفة بذلك أهم قاعدة علمية و منطقية , و الكل يعرف السبب , حتى أبناءكم الصغار . حسنا إذا هل يكون الطريق المستقيم الذي هو أقصر الطرق إلى بيت الجدة , هو الطريق الأنسب ؟؟؟؟؟ سيجيب أولادكم عنكم : لا الأنسب هنا هو الطريق الطويل , لأنه أكثر أمانا , و يتوجب على ليلى أن تسلك ذلك الطريق لتضمن سلامتها ( و هذا ما لم تفعله ليلى على كل حال ) هناك عدة طرق للوصول إلى الطاحون , منها الخطر , و منها الطويل , و الأطول , و منها الوعر ...... و كلها ستنتهي بنا إلى هناك , و لكن واحد منها فقط هو الأفضل إذا آخذنا مقياس السرعة فقط , و واحد آخر قد يكون الأفضل إذا أخذنا مقياس آخر مثل السلامة , أو قد يكون هناك طريقا واحدا هو الأفضل بكل المقاييس . حسنا : يختلف الناس في اختيار الطريق إلى الطاحون , و هنا يبدأ الخلاف في الرأي الذي يؤدي كما دروب الطاحون , إلى الخلاف , عاجلا أم آجلا , و سنجد ان هناك طريقة واحدة هي الأنسب و الأسرع و الأفعل للوصول إلى الخلاف , و هي أن نغلق عقولنا عن كل رأي آخر , و نسقط رأي الآخر على شخصه , فنحاربه هو , في الوقت الذي نظن أننا نحارب رأيه فقط . اسمحوا لي بعد هذا التمهيد أن أصوغ عدة نقاط يمكن أن تكون موضع الخلاف بيني و بين بعضكم أو معظمكم أولا : لابد من الاختلاف حول أبسط القضايا المطروحة , و هذا أمر يفرضه التباين بمستوى الثقافة و الوعي و التجربة , و المصلحة , و هذه الأخيرة هي الأهم في حال تساوى المختلفون بالمجالات السابقة . ثانيا : لا تطابق بين البشر , و لذلك يبقى المتفقون على حال من الاتفاق إلى درجة سيختلفون فيها حتما , كلما تشعبت مجالات التداول و تعددت و تنوعت بعمقها و أهميتها , و لنصطلح على تسمية هذه الدرجة " بعتبة الاختلاف " ثالثا : نستنتج مما سبق أن أي اختلاف بين رأيين , ينطوي على مقدار من الاختلاف في صحة رأي كل منهما , فنستطيع القول أن أحد الرأيين صحيح و الآخر خاطئ , و هذا ينطبق على حالة الواقع الغالبة التي يكون فيها رأي أحدهما ينطوي على عناصر صحة أكثر من عناصر الخطأ ,و بالتالي يكون أكثر صحة بالمحصلة العامة . رابعا : لا نستطيع الاختباء خلف إصبعنا لنقول أن لكل رأيه , و المسالة مسالة ذوق , فهذا القول ينطوي على مساواة بالقيمة المطلقة بين عقلين أو منطقين أو ذوقين لم تسمح الظروف المختلفة لأحدهما بالنمو و التطور و الاقتراب من المثال , كما سمحت للثاني , و إذا فعلنا ذلك نقع في فخ إغداق الطلاء على الصدأ , فهما مختلفين لأن أحدهما ببساطة أقرب إلى المثال . خامسا : عندما أختلف معك بالرأي فإني أصارحك باني لن أحترم رأيك , بل سأحترمك أنت فقط , فلن أكون مجبرا أبدا على احترام رأي أراه خاطئا , فإذا تمسكت أنت بإسقاط رأيك على شخصك , فسينسحب عدم احترامي على شخصك , بغض النظر عن صحة رأيي أو عدم صحته , فانا أراه صحيحا , و هذا خطأ يمكن أن نقع فيه نحن الاثنان . سادسا : لن أغير رأيي حتى تمسحه من دماغي , و تضع رأيك مكانه , و هذا ما أسميه عملية صراع الأفكار , و التي نتفق أنا و أنت على وجودها و مشروعيتها و على أساس احترامنا المتبادل لشخصينا و ليس لرأيينا المتعاكسين , و في ذلك تطبيق صريح لقاعدة لم يستطع المجتمع البشري أن يخرج من أسرها , و هي قاعدة البقاء للأقوى , حيث تبقى الفكرة الأقوى في النهاية , بعد أن تثبت أفضليتها بكافة مقاييس القوة الطبيعية . سابعا : بما أن لا إنسان كامل تماما , فإن المنطق و البداهة تفترضان انطواء رأيي على بعض النقاط الخاطئة , التي قد لا تعتور رأيك , أو رأي شخص ثالث , لذلك فإنني سأعبر عن ذكاء فطري في انفتاحي على رأيك و آراء الآخرين و تقليبهم في ذهني لأقوي فكرتي أو أغنيها أو ألغيها تماما , وإذا فعلت غير ذلك , فقد سلكت الطريق الذي اختارته ليلى للذهاب إلى جدتها . أعزائي : قد يصل بعضنا إلى الطاحون قبل الآخرين , و قد يصل بعضنا متأخرا جدا , و قد لا يصل البعض أبدا , و بذلك يظهر لنا التنوع اللانهائي و العبقري و الجميل , و غير المتوقع للحياة , تلك اللعبة التي لن تثبت قوانينها أبدا , فكل لاعب يدخل الملعب , عليه أن يراقب يكتشف يفكر يقاتل يفاوض يستسلم يقاوم........ يفعل الكثير من الاشياء الجميلة و القبيحة و لكنه أخيرا.................و أخيرا ......... يحب |
أخي / جمال عواد تحليل موضوعي متناغم ... وبداية مشوقة لمقالتك ... وإستخدامك لأسلوب " الإستدراج "كان موفقاً ... ... كنت أتمنى أن تختزل بعض العبارات ، في النصف الثاني من المقال ، للإبقاء على درجة تناغم واحدة ... أسلوبك يشير على أنك متمرس في هذا الفن ... أهلاً بك على متن منابرنا ... أخاً عزيزاً نستفيد من قلمه ... تحياتي لك ... |
الأستاذ عمر مسلط :لك جزيل الشكر لترحيبك الدافئ بي , أؤيدك بموضوع الإختزال في الجزء الأخير من المقالة , و قد فكرت بذلك عن طريق دمج بعض الفقرات بغيرها , غير أني فضلت التفصيل , و التراتب بالأفكار لكي لا اعود وأفسر و استطرد .
أشيد بدقة ملاحظتك و باهليتك للمهمة الملقاة على عاتقك بالإشراف |
الأديب الكريم جمال سامي عواد المحترم
بحثك هنا في منتهى الحرفية وفلسفة منطق التفكير . . وهو يشرح نقاطاً عدة يهرب منها الأدباء وقت تعرضهم للنقد بشكل عام . . إن قبول الرأي الآخر هو بداية الرقي . . ويجب أن نحافظ على مبدأ : إن رأيي هو صواب يحتمل الخطأ والرأي الآخر قد يكون (برأيي) خطأً . . ولكنه يحتمل الصواب . . أريد أن أضيف هنا فائدة لا بد منها . . نضع قاعدة لازمة لكلا الرأيين . . أن لا يتعارض رأي ما مع الثوابت الدينية . . فهذا لا يجوز . . عزيزي . . سرني أن أتابع هذا المقال لجماله وكماله . . تقبل تحيتي واحترامي . . دمت بصحة وخير . . ** أحمد فؤاد صوفي ** |
الساعة الآن 01:23 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.