منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   الجوع والظلال (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=3719)

زكية نجم 02-17-2011 05:58 PM

الجوع والظلال
 
الجوع والظلال


قصة قصيرة


المجموعة القصصية :


الآخرون ما زالوا يمرّون



"جائع " نطقتها عيناه ووميض الدمع يرتجف كخيط ضوء واهن على جبهة الظلام المريع ،
جسده الأسمر الضئيل يتململ تحت بقايا لحاف قاس ،
يده تقبض على بطنه الخاوي الملتصق بالأرض ..
يتأمل جسد أمه الكبير وصدرها يعلو ويهبط في بطء ، يتذكر حديثها الليلي المعتاد:
" الجوع كافر يا ولدي والنوم سلطان .. عندما تجوع حاول أن تنام ،
نم يا ولدي عندما تجوع.. نم .. "
ينقلب على جنبه الآخر .. يغمضُ عينيه : " شرير أنت أيها الجوع الكافر ..
وأنت أيها النوم السلطان .. لماذا لا تبدو قوياً الآن وتحملني معك " ؟!
تنكمش أطرافه الباردة ، صدره الصغير يرتجف .. " يخذلني ذلك السلطان يا أماه لا يريد أن يحملني مثلك حيث لا يؤلمني هذا الكافر" ..
ذراعاه المنقبضتان تفترشان الأرض في إنهاك ،
دمعة ساخنة تنحدر على خده ،
طنينٌ حادٌ يخترق مسافة السكون إلى أذنيه ،
بصره يشرئبُّ نحو الأعلى ، خيوط من الضوء تمتد من كوةٍ في السقف وتسبح في فضاء الكوخ المظلم ،
حشرات صغيرة تتكوم حول الكوَّة ، أجنحتها البيضاء السابحة – هي الأخرى – فوق خيوط الضوء تنهمكُ في نوبةٍ من الطنين الحاد..
ذهول عميق يموج فوق قسماته الشاحبة ..
" حشرات خضراء ..
لا تختلف عن ذاك العشب اللذيذ الذي أجده صباحاً يفترش بأذرعته القصيرة المدببة تربة الحقول الممتدة في طرف القرية ..
ليتها تقترب أكثر .. ربما طعمها شبيهاً بطعم ذاك العشب!"
يستلقي من جديد على بطنه .. يلتصق بالأرض..
أمعاؤه لا تكف عن الضجيج.
" المهم أن أستطيع إمساكها عندما تقترب وتصبح بعدها سريعاً في قبضتي حالما
أرفع يدي هكذا عالياً في الهواء " ..
يتنبه إلى يده الناحلة الممتدة وحدها في فضاء الظلام ،
أصابعه تتقوس كأنها تطبق على تلك الحشرات المتراقصة أمام ناظريه..
كأن المسافة بينهما لا شيء ،
تتراخى أصابعه في انكسار ، وتعود تلتصق بالأرض ،
عيناه المغمضتان بلا جدوى تعاودان التحديث .
الضوء المنعكس على الجدار يستطيل ..
يصبح طويلاً جداً يذكِّره قامةً مديدة أحب التعلق بها يوم أن كانت قدماه تتهجيان أبجديات المشي " أبي ليتك ترجع "
.. أبي ألا تريد أن تعود ؟؟"
تتكوَّر قبضته .. تسقط قبل أن يتلقَّي وجه الأرض ضربته..
" قلت لي أنك عندما تعود ستحضر لي حذاءً جميلاً ألعب به مع الرفاق ..
أنني لن أكون حافياً دون حذاء وأننا جميعاً سوف نصبح سعداء "..
ينْقبض صدره وتعتري رجفة بزفراته المتلاحقة "
ماذا سأفعل بالحذاء الجميل وهو ليس طعاماً يطرد جوعي .. أنا أُريد وجه أبي لا الحذاء "
" أريده أن يعود لأنه حينما يكون هنا لا يعرف بيتنا وجه الجوع".
تتابع عيناه رقصات الأجنحة البيض والشرود يمتطي نظراته الهزيلة ..
" وجوه رفاقي تغيّرت أصبحت ملامحها كالجدران ..
تصدمني حالما أحاول الدخول معهم دائرة اللعب..
ألأنهم كبار وأنا صغير ؟ لكنهم لم يقولوا لي يوماً .. أنت صغير يا حمد ..
هل لأني بلا حذاء ولكننا كنا نلعب أحياناً دون أحذية لأن لهم أباء أما
أنا فليس لي أبٌ يجلب الحذاء!" ..
هدوء عميق ينسكب فوق سمرة وجهه ..
" الرجال وحدهم هم الذين يستطيعون ، طفلاً مازلت أنا ،
لكنني لا بد أن أكون رجلاً ..
حتى عندما أسير في الشوارع ستشير إليّ الأيدي "
هو ذا حمد أصبح رجلاً .. يحمل مالاً في جيبه وحذاءً في قدمه ويعود إلى بيته يحمل خبزاً ..
حمد أصبح رجلاً تشهد له الطرقات وعيون الرفاق الذاهلة..
لن تهطل عيناك دموعاً لن يبكيك الجوع يا حمد ..
لأنك بصمود الرجل تقاوم .. وحدك تقاوم "
سمرتُه الداكنة تضج بملامح متوقدة وقسمات غادرتها بصمات العناء..
ينهض قاعداً يحبو نحو البقعة المضيئة من الكوخ الحقير ..
يحاول الوقوف . تخذله قدماه .. يداه تتسلقان قدميّ طاولة خربة،
يقف يخيل إليه أن شيئاً ما يدبٌّ في قدميه.. ينخر نخاع عظامه ..
لكنه يظل واقفاً .. تتقافز نظراته في محيط الغرفة الحقيرة ..
شبح أمِّه النائم في الزاوية البعيدة لا تكاد ملامحه تتضح ..
نحو الجدار يظل بصره مشدوداً في انبهار.. نظراته تتسلَّق ظله الممتدّ حتى السقف ..
" هذا أنت يا حمد!" أصبحت طويلاً حتى السقف..
أصبحت لك قامة رجل أكثر علواً من قامة أبيك ،
في الصباح تستيقظ أمّك .. وتراك بعينيها بطلاً مشدود القامة ..
تماماً كشيخ القرية !" نبضه يتسارع .. للنخر في عظامه ألم عاصف ..
بصره يظل مشدوداً نحو الأعلى ..
الحشرات الخضراء مازالت تتراقص في البقعة المضيئة ..
طنينها الحاد لم يعد يصل إلى أذنيه .. لم يعد يسمع سوى طرقات قلبه الجسور ..
فجأة ينهار ظلّه المشدود حتى أعلى الجدار ..
لم تُحدِث سقطته ضجيجاً يثير بعضاً من السكون.
جسده الأسمر الساكن ملتصقٌ بالأرض ..
ملتصقٌ بالفضاء الأسود .. يتوقّف القلب الجسور عن الطرْق ..
يصبح جزءاً من السكون .. وبالداخل يكتسي ذهنه الصغير خلوّاً أخيراً لأحلام رجل!!







أحمد فؤاد صوفي 02-17-2011 06:32 PM

تهنئة من القلب لهذا الجمال البديع . .

هذا هو السرد الذي يستثير الكوامن فتتابع تدفق الأحداث بانسيابية وقرب . .

الأديبة الكريمة . .
تقبلي تحيتي وتقديري . .
دمت بصحة وخير . .

** أحمد فؤاد صوفي **

علي الغنامي 02-18-2011 06:31 AM

قرأتك هنا قاصة بارعة حد الدهشة،

كاتبة تسبر اغوار الذائقة بحروفها البهيه.


مُبارك للذائقة أنتِ


الأستاذة القديرة/ زكية نجم شكرًا على جمال حروفكِ هنا.



الجوع ظالم والعرب فيها أنقسام.....والناس ما ترحم ليا ضاقت عليه

زكية نجم 02-18-2011 04:23 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد فؤاد صوفي (المشاركة 62033)
تهنئة من القلب لهذا الجمال البديع . .

هذا هو السرد الذي يستثير الكوامن فتتابع تدفق الأحداث بانسيابية وقرب . .

الأديبة الكريمة . .
تقبلي تحيتي وتقديري . .
دمت بصحة وخير . .

** أحمد فؤاد صوفي **

أستاذي الفاضل : أحمد صوفي

رونق حضورك ازدانت به الصفحات

كل التقدير

رقية صالح 02-18-2011 06:40 PM

تأثرت جداً بهذه القصة ولا أخفيك سراً أني شعرت بوجع حمد
وتألمت لحاله حتى أنني شعرت بالجوع أيضاً
هذا لأنها حبكت من الأديبة اللامعة بشكل جيد
وصاغتها بسلاسة ومنطق نتجت عنها قصة
لامست الواقع بحقائقه وتفاصيله
وكم لدينا من هذه الحالات وليس لديها الحلّ إلا كحمد.
نحمد الله ونشكره على كل نعمه

الأديبة الفاضلة المتميزة
أ. زكية نجم
كنت متأكدة قبل دخولي لقراءة القصة
أن هناك شيء مميز كعادتك
دمتِ ودام نبض القلم
تحيتي معطرة بالجوري والياسمين الدمشقي

زكية نجم 02-19-2011 06:38 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة علي الغنامي (المشاركة 62110)
قرأتك هنا قاصة بارعة حد الدهشة،

كاتبة تسبر اغوار الذائقة بحروفها البهيه.


مُبارك للذائقة أنتِ


الأستاذة القديرة/ زكية نجم شكرًا على جمال حروفكِ هنا.



الجوع ظالم والعرب فيها أنقسام.....والناس ما ترحم ليا ضاقت عليه

الشكر أيضاً لحضورك .. أستاذ علي

عامرةٌ هي الدار بساكنيها

جُلّ تقديري

زكية نجم 02-20-2011 10:16 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رقية صالح (المشاركة 62168)
تأثرت جداً بهذه القصة ولا أخفيك سراً أني شعرت بوجع حمد


وتألمت لحاله حتى أنني شعرت بالجوع أيضاً
هذا لأنها حبكت من الأديبة اللامعة بشكل جيد
وصاغتها بسلاسة ومنطق نتجت عنها قصة
لامست الواقع بحقائقه وتفاصيله
وكم لدينا من هذه الحالات وليس لديها الحلّ إلا كحمد.
نحمد الله ونشكره على كل نعمه

الأديبة الفاضلة المتميزة
أ. زكية نجم
كنت متأكدة قبل دخولي لقراءة القصة
أن هناك شيء مميز كعادتك
دمتِ ودام نبض القلم

تحيتي معطرة بالجوري والياسمين الدمشقي

القريبة إلى القلب .. رقية صالح

مروركِ النقي نثر بياض حروفه فغدت أزاهيراً تتفتح

تقديري لكِ

اريج عبد الجليل 02-20-2011 01:17 PM

لكأني كنت ذاك الجسد الصغير .احسست بكل كلمة كتبتها وعشت تلك اللحظات كما هي ..لك مني كل الود

زكية نجم 02-22-2011 07:36 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اريج عبد الجليل (المشاركة 62425)
لكأني كنت ذاك الجسد الصغير .احسست بكل كلمة كتبتها وعشت تلك اللحظات كما هي ..لك مني كل الود

العزيزة .. أريج عبدالجليل

تقديري العميق لبهاء كلماتكِ

ورهافة مشاعركِ

ريم بدر الدين 02-24-2011 12:01 PM

صباحك ورد عزيزتي زكية
استطعت بإتقان الدخول إلى العالم الداخلي لهذا البطل الصغير المتألم فقرا و بردا و جوعا و يتما
ثيمات كثيرة تبدو متباينة ألقى النص عليها الضوء ببراعة ليخبرنا أنها شبكة واحدة متضافرة و كلها تخلق هذه البؤس الإنساني
تحيتي لك


الساعة الآن 03:14 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team