منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الحوارات الثقافية العامة (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=4)
-   -   الثبات في زمن الانفلات (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=31693)

مُهاجر 11-15-2025 09:58 PM

الثبات في زمن الانفلات
 
لا يخلو إنسان من اقتحام تلكم الأفكار التي تتكاثر في بيئة خصبة تُهيئ لها المناخ تلك التربة الخصبة، إن جاز لي سوق ذاك المجاز. لكن صداها ازداد في الهاتف الذي أصم أذني، حين بات يقتحم غفلتي ويقظتي ويهمس: "كن أنت مهما تغير الناس".

أبحث عن سبب وسر ذلك الإصرار من ذاك النداء الذي يحثني على الثبات على المبادئ وما تربيت عليه، وهجر ما يناكف ويباين من سوء أخلاق. في رحلة البحث وجدت أن أجر من وقف وارتكز على جميل الأخلاق، فيتوسط هذا الغثاء من الممارسات والمعاملات، أجر أمة ممن سبقوه إذا ما قورن ذلك بالابتلاءات والمغريات.

فهو يعيش في هذا الزمان وهو يُعلي ويُرسي معنى الفضيلة، يعيش عيش المجاهد الذي أحيا ما مات في الناس من مُثل وقيم ترتقي بالإنسان إلى درجات الكمالات، في ظل تهافت الناس على ما يقسم ظهر المبادئ وعظيم المُثل. ومن يرى بعين البصيرة يجد الخلط في الأمور وتحريف المسميات والمعاني بمكر خبيث، أكان عمداً أم جهلاً، فالنتيجة واحدة، وإن تفاوتت طرق معالجتها وإعادة صياغتها، حين نجد كمثل:

الطيب = جبان

قليل الكلام = معقد

التقي = متخلف

متجاوز حدود الأدب = جريء

المنحرف = متحرر


لتذوب المسميات وتنصهر في غير قوالب معانيها التي تلقفها الناس، وقد طغى عليهم الغبش، وإن كان التمييز واضح المعالم لمن أراد الحقيقة والصدق مع الذات.

المصيبة تتلخص عندما يدعوك واقع حال الناس أن تتماهى معهم، وأن تكون "إمعة" ونسخًا منهم: "إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت". ومن هنا نحتاج أن نحافظ على ما يضمن لنا نماء عطايانا وصدق أحوالنا في باطننا وظاهرنا في ظل هذه التجاذبات.

ما نحتاج إليه اليوم هو بلورة واستقصاء وحصر كل المصطلحات، لنُخضعها لذاك (المِجهر) المتمثل في الشرع، لنعرف السليم منها فنعتني به ونرويه، ونعلم ما هو العليل السقيم منها فنحطمه ونُجافيه. وما هو حاصل اليوم هو تلكم الضبابية في معرفة حقيقة "هويتنا"، وعن ذاك "الحبل" الذي هو كـ"الحمض النووي" الذي يوصلنا لمعنى وجودنا.

تحوير المسميات جاء بعد ثورة التواصل الرقمي، مع وجود مروجين لها لجعلنا "إمعه" ونسخًا لفكر واحد. وحتى لو توقفنا عند "المصطلحات"، نجد بعض الإشكالات التي تحتاج إلى إيضاحات، لأن هناك فرقًا بين المصطلح في ذاته وما هو مفهومه الذي يتفرع منه. قد نجد مصطلحًا نتفق على المبدأ، ولكن إذا جاء التفصيل الذي يمثله المفهوم تفرق ذاك المُجمع عليه لكونه يُخالف ما يؤمن به أحدنا ويدين بمبادئه والواقع الذي يعيش عليه.

مثال على ذلك: "الديموقراطية"، فمن ينظر إليها على أنها فلسفة وضعية تجعل الأغلبية هي واضعة القيم والتشريعات دون مرجعية مقدسة، بينما يراها آخر مجرد آليات للاختيار بالأغلبية، ولا يلزم افتقادها للمرجعية الثابتة. لذلك نجد بونًا شاسعًا بين من يراها لا تُخالف ما أتى به الإسلام ومنهم من يراها كفرًا أكبر.

الطيب الخلوق المتزن أصبح جبانًا، قليل الكلام الفطن المتعقل أصبح معقدًا، التقي المؤمن الصالح أصبح متخلفًا، ومتجاوز حدود الأدب أصبح جريئًا. هي أمور غريبة فعلاً، ولكنها واقع العصر. لذلك نحن بحاجة إلى مبدأ ثابت وواضح، وشخصيات مستقلة، لنكون نحن هم نحن، ولسنا هم.

الشيء الذي لا يختلف عليه اثنان ولا يتمارى فيه عقلان هو الحقيقة المرة التي نتجرعها غصة. ومن يقول بخلاف ذلك فهو ممن ينمق ويجمل الواقع، ولعله يقوم بذلك من باب إغلاق الباب في وجه اليأس، ودفع ذاك الحزن في القلب، ومع ذلك لا يمكن الفكاك من الدليل القاطع الذي يشي ويكشف ما نحن فيه من شر، ماله دافع غير الرجوع للصواب، لنجعل بيننا وبين المثالب بونًا شاسعًا.

تلك المخالطات والمغالطات في توصيف حال الناس ما هي إلا انعكاسات للواقع الذي يعيشه ذاك الواصف، فكما يقال: "يشوف بعين طبعه"، وينظر الإنسان وفق ما يعيشه في محيط وجوده، ليكون الحكم متأثرًا بذاك الواقع، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

نحتاج الصدق مع ذواتنا، ومعرفة أنفسنا، والانقياد لما من شأنه أن يعلو من شأننا، والابتعاد عن كل ما يقذي شخصنا ويدمر حياتنا. في هذا الزمن يقل الخير وأسبابه، ويزيد الشر وأسبابه، والمتمسك بدينه من الناس عددهم قليل، وهذا العدد القليل يجد الكثير من المشقة والعناء، والهمز واللمز من كثرة المعارضين والفتن، مثل فتن الشك في أخلاقه ونواياه. ولكن المتمسك بدينه قادر على دفع تلك المعارضات، التي لا يصمد أمامها إلا من هو متمسك وصاحب بصيرة ودين.

في هذا الزمان لم يبق من الإسلام إلا اسمه، فالإيمان أصبح ضعيفًا، والعداوات والبغضاء انتشرت بين المسلمين، ودعايات وترويج للفساد الأخلاقي بشتى أنواعه. والماسك على دينه في هذا الزمن كالماسك على جمرة. ومن ناله الشك من الآخرين كان له الأجر والخير.

هي قاعدة تسير عليها الحياة بأن: "ليس هنالك خير محض"، ويقابله: "ليس هنالك شر محض"، ليبقى الخير القاعدة، والشر الاستثناء. عن ذاك الذي ينال من الإنسان من تعرضه لتلكم الافتراءات، فهو لا يعدو أن يكون مشروع ابتلاء، وفيه التمحيص لصقل الإنسان لمعرفة أصله ونوع معدنه. وما ناله ويناله ليس بالجديد والغريب، فقد نال من هم أقدس منه وأشرف من ذلك اللمز والغمز. فلم يسلم من ذلك الأنبياء والرسل، ولا أهل الصلاح من البشر، ولا الملائكة، بل تعداهم ذلك الشطط ليكون الله في مرمى ذاك القدح والشرر.

من كان يتفيأ ظلال اليقين بذاته، ومعرفة سلوكياته من غير سوق "الهيلمان" الذي يطغى النفس ويرديها في حضيض الكبر والغرور، فلن يقابل ما يعترض طريقه بغير الحذر، وتمريره والمرور عليه مرور المستفيد من ذلك، الذي له قد سيق من تهم وافتراءات هو منها براء، وعن فعلها يستحيل.

على من أتاه البرهان اليقين في شأن الآخرين أن يكون في قادم الأيام على حذر شديد، بحيث لا يسلم أمور المنقول إليه بالتصديق السريع من غير التريث واستنطاق الخبر الأكيد، كي لا يرمي به غافلًا فيصبح على ما فعل من النادمين.

فلنجعلها منهج حياة: لا تقلق من تدابير البشر، فأقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ امتحان وإرادة الله فيك.

الإنسان كائنًا تتحكم بمعظم أفكاره المشاعر والأحاسيس، ولأن الأحاسيس لها دور في فطرته فهذا يجعله كائنًا مخيّرًا. كلنا مخيّرون لقول وفعل ما نشاء، والمجتمعات هي من بناء كم هائل من التفاعلات البشرية، فلا شك أن التصدّي لبعض المغالطات يحتاج درعًا قويًا من الصبر والجلد. الإنسان في هذا الوجود مُخيّر ومسيّر؛ مخيّر في العديد الواسع من الأقوال والأفعال، ومسيّر في محدود مصغّر فيما ليس له دفع شره وبلواه، وجلب خيره ومناياه.

ذاك وبذاك التخيير، يكون المرء في زاوية المحاسبة ودائرة المساءلة فيما يأخذه ويذره، بعدما أعطاه الله السمع والبصر والفكر، وبالتفكر يُمحّص ما يمر عليه ويُصادم واقعه، ليكون التفكر والتمحيص عاملًا مساعدًا لفصل الأمور وتصنيفها، وتقرير ما هو الصواب وما هو الخطأ.

التصدّي لتلك المغالطات يحتاج لسياسة وحكمة، وكمّ وفير من المعرفة التي يكتسبها الواحد منا من خلال الثقافة والمطالعة، والإلمام بالنوازل التي تطرأ على الساحة. فكلما كان "ساس البنيان" قويًا، كلما سهل رد ذاك التدافع الزاحف، مع إرفاق الداعم لإطالة نَفَس المقاومة الذي يتمثل في الصبر، فليس أعظم عدة لكسب المعركة كالصبر المُحلّى بالارتباط بحسن التوكل على الله.

زمن تغيّرت فيه المفاهيم وانقلبت معه الموازين، وأصبح التمسك بالقيم والمبادئ مجرد تخلّف وانهيزامية. لكن هيهات: "ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين". المفاهيم أساسًا مكتسبة من البيئة المحيطة ومن تجارب آخرين، وقد تكون سلوكًا أو مجرد فكرة. مثال على ذلك مفهوم "برّ الوالدين"، الذي يترجمه البعض بسلوك احترامهم وطاعتهم، والبعض يراه مجرد فكرة، والمصيبة من فهم المفهوم بأسلوب خاطئ وطبّق عليه سلوكًا لم يُنزِل الله به من سلطان.

هذه الأرض وهذا الزمان ما تغيّر فيه غير الساكن من بني الإنسان، ممن اختارهم الله أن يعمروه، واستُخلفوا ليحافظوا عليه، وقد سخّر لهم كل ما في الكون. ومع ذلك انقلبوا على أعقابهم بعدما اغترّ بعضهم بالعقل الذي به أخضعوا الموجود لينفلتوا من اتصالهم بالرب المعبود. فهم يتجرعون مرارة فعلهم حين يعلو نَشِيجهم وأنينهم، وقد مزّقت أرواحهم المادية، وظمِئت تتوسل من يُرويها ويحييها من الفناء.

انخدع الكثير منا وانساقوا لتلكم الدعوات البراقة، ليخلعوا بذلك جلباب التريث والتمعن، ليكون لهم من التمحيص والانتقاء نور مبين. هم يريدون مواكبة العصر، ولكن بطريقة مبتذلة، ليأخذوا القشور ويتركوا اللب والجوهر.

الاختلاف في المصطلحات أصبح وكأنها هلامية فضفاضة، تحتمل العديد من شتات المعاني، ولكل منا تعريفه وقاموسه الخاص. المفاهيم تُقسم إلى قسمين: ما تعارف عليه الناس من العرف والعادات والتقاليد والثقافات، وما حُسم جدله بالشرع الحنيف حين أُخضعت المفاهيم المستحدثة للتسارع السريع والطوفان الجارف من التراكيب لتكون على طاولة البحث الدقيق.

ما تتمخض عنه بعض المفاهيم يحولها البعض من كلمات مكتوبة أو منطوقة لتكون منهج حياة وسلوكًا. وتستقر المشكلة حينما ينافح ويستميت ذاك المنتهج لذاك السلوك ليصادم المجتمع، لأنه يرى في فعله الصواب والطرف الآخر عن الصواب محروم. ومفهوم برّ الوالدين يظل ملتقى الإجماع، مهما اشتد الخلاف والاختلاف في معنى برهما، لا يتجاهل ذلك إلا من أطبق على قلبه رَان الحقد والمكابرة، والغوص في زحام المغامرة التي تدخل في حوزة المغالطة.

طالما وضع الفرد له مبدأ، فهو رأى وعايش كثيرًا من التناقضات في الحياة والواقع، وطالما وضع ذلك المبدأ مقياسًا للحياة التي ينوي السير عليها، فهو مدرك تمامًا أن الطريق ملئ بالصعاب والمطبات. ما يؤلم ويجعل الشخص يتزعزع هو الأغلبية التي يراها تسير على نفس النهج، والأمور والمفاهيم أصبحت تقيد بقيود الموضة والحداثة والتطور، ومن لا يماشيها سيعرض نفسه للسخرية والمسميات الهزلية. وما يطمئن هو أنه مثلما توجد تلك المجموعات التي تسير مع الموجة، هناك فئات تنتهج العقل وتختار ما هو صحيح وما هو خطأ، مثل الفئات المثقفة التي تمثل جزءًا من الواقع. لذلك، كلما ساءت الأمور، كان هناك بشائر خير في المقابل.

بهذا المبدأ، يكون الإنسان متزن الخطى، يحفه الأمان، تغشاه الطمأنينة، ويلتحف به السلام. "كن أنت مهما تغير الناس." علينا أن نُشهرها دومًا في وجه ما يُعكر صفو الوداد، حينما نرى من القلوب من يرتاب ويلتاع. في زمن شح فيه الصادق، وانقرضت بعض الأخلاق، حين أصبحت مساحيق المداهنة والمجاملة وسيلة ليقي البعض نفسه من القيل والقال، والعودة بها إلى زنازين العادات والتقاليد البالية، التي ما عادت تصلح في هذا الحين، والأغلبية التي تسير وفق ذلك النهج المعوج ما هي إلا ظل وذيل يسير خلف الركب، ويذوب في ذواتهم.

تلك المفاهيم أسندت لما يُطرح في ساحة الواقع لتضفي عليه صبغة الحداثة ومتطلبات العصر. ومن كان حاله كذلك، فلا يُستبعد منه السخرية ممن يخالفونه في السلوك والفكر، لأنه يرى من "داخل الصندوق"، ومنه يرى نفسه "الصحيح"، بينما الآخرون في الجهل يترددون. في المحصلة، لا يمكن أن نجعل النتيجة أن السائد هو ذاك الشر البواح وذاك الضياع من الشباب، فهناك الخير الذي يُدافع عن الشر، "فما يزال الخير في أمتي".


الساعة الآن 01:36 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team