![]() |
"ضوء الظلام " بثوب جديد
"ضوء الظلام "
في طفولتي كانت ظلمة الليل تَشُلُّ حركتي ، تجعلني منكمشاً على نفسي ، فما أن تتغطى السماء بسواده حتى أسمع دبيب مخلوقات تقترب مني ، تحوم حولي ، كانت عيناي المختبئتان تحت الغطاء لا تتو قفان ، تدوران في محاجرهما طيلة الليل ، وعندما أشعر بحاجتي لدورات المياه ، يخرج فجأة من قلب الظلام أطياف تلك المخلوقات ، فأرتعد وأغرق نفسي ... كنت أشعر بالهوان ، كنت أتمنى أن يتغير الحال ، كنت أود أن أصبح مثل ذيبان ، كم أنا مولع بهذا الرجل .. فبطولاته التي يصعب تصديقها حاضرة في عقول الكبار والصغار ، لقد أصبحتْ جزءاً من تراث القرى على طول الوادي .. أتذكر أنني رأيت ذيبان بشحمه ولحمه ، في سوق القرية الكبير كان رجلٌ طويلٌ ضخمٌ ، يتطاير الشرر من عينيه.. حصل ذلك بينما كنت مع الأطفال نحيط بمجنون سلمى " ثوبان" ونهتف مرددين : ثوبان جن جننوه أخذوا سلمى وتركوه هاج ثوبان وأخذ يركض خلفنا ، فدخلنا ممراً يقف فيه ذيبان ، وبمجرد رؤيته شعرنا بالخوف ، فتفرقنا ليصطدم ثوبان المسكين به ، فلطمه لطمة سمع صداها من كان في أخر السوق ... فسقط ثوبان بالقرب مني ، وقام من مكانه وانزوى بجانب أحد الدكاكين ، وجلس ودفن رأسه بين فخذيه للحظة ، ثم رفعه وحدق عميقاً في عينيّ .. أخافتني نظراته ، فأشحت بعينيّ عنه ، وأدرت ظهري ، وأخذت أتجول في السوق ، وعن طريق الصدفة رأيت فتىً في عمري لا أعرفه قادمٌ من قرية أخرى ، تلاقت نظراتنا ، وكذلك فعلت أرواحنا ، وبدأت صداقتنا ، وخرجنا معاً وجلسنا فوق ربوة تشرف على السوق ، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث وكأننا نعرف بعض منذ زمن طويل .. أتذكر أنني سألته كيف تقضي يومك ؟ ضحك وقال :لا شيء سوى أنني أنام في النهار وأطوف بالليل والناس نيام .. فسألته : ماذا تقصد بـ " أطوف بالليل " ؟! وهنا بدأ يخبرني بأمور كنت أجهلها ، كم كانت جميلة لم أسمع عنها من قبل ، جعلتني أنظر للّيل المخيف نظرة أخرى .. ومن يومها أصبحت أطوف باللّيل مثل صديقي ، أسمع الهمسات ، أرى الحركات من خلال الثقوب العديدة المنتشرة على جدران الطين ، وفي النهار أندس بين النخيل لأنام في رقعة اخترتها بعناية بعيدة عن العيون .. ومع مرور الأيام أصبحت خبيراً ، وأكثر شراهة ، لم أعد أكتفي بزيارات القرى القريبة ، بل أقطع المسافات ، وأغزو القرى البعيدة ، خاصة في فصل الشتاء ، صاحب الليل الطويل ، موسم الكلمات الدقيقة والرقيقة .. كانت الجبال والتلال هي القنوات التي أسلكها للوصل إلى غايتي ، كنت أتحاشى دائماً غابات النخيل في الليل ، رغم أنها صالحة " لنشاطي المريب " ، لأنها مسكن الجن والهوام ، كما تقول جدتي ، وفي إحدى مغامراتي اللّيلية حصل ما كنت أخشاه ، شعر بي أحدهم فصرخ : " حرامي ... ففررت " .. استيقظ سكان القرية على الصرخة وصدى وقع أقدامي بين أزقة القرية الضيقة ، شعرت بالخطر ، فقررت أن أسلك الطريق الذي أكرهه ، وانطلقت كالسهم ، ودخلت غابات النخيل .. توغلت في الأحراش ، كنت أتحسس طريقي على ما تبقى من ضوء القمر الذي استطاع أن ينفذ من خلال سعف النخيل ويلامس الأرض .. وبعد أن قطعت مسافة طويلة ، اختفى صوت مطارديّ ، ولم يبقَ سوى أصوات ساكني الأحراش ، يشاركها صوت أنفاسي ، فشعرت بالأمان وتوقفت عن الركض .. عندها افتكرت أني بين الجن والهوام ، إنهم يحيطون بي ، ينظرون إلي ، فمساكنهم على الأرض فوق الجذوع والأغصان .. ازداد إيقاع قلبي ، فأخذت ألتفت مرعوباً في جميع الجهات ، أرفع قدماً وأنزل أخرى بكل هدوء على الأرض المليئة بالحشائش الجافة ، كانت عينايّ وجميع حواسي تعمل بأقصى طاقتها .. توقفت ... اختبأت خلف جذع نخلة عندما رأيت منظراً لن أنساه ما حييت .. رأيت ثوبان " مجنون سلمى " ، يلوّح بعصاً غليظة في وجه ذيبان المرعب ، بينما كان ذيبان جاثياً على ركبتيه يطلب الرحمة منه .. كان ثوبان يصرخ في وجه ذيبان مردداً : أتسخر مني أيها الأحمق ؟ وأنا من صنعك ، أهذا كل ما جنيته خلال هذا الأسبوع ؟ أقسم بالله أن هذا كل ما حصلت عليه .. أتعلمُ لو اكتشفت خلاف ذلك ماذا سيحصل لك ؟ أقسم بالله أن هذه هي الحقيقة يا سيدي .. فركله ثوبان وصرخ : هيا قم واغرب عن وجهي .. وبمجرد أن اختفي ذيبان خلف جذوع النخل وظلمة الليل وقف ثوبان برهة من الزمن ، طاف خلالها بنظره في المكان دافعاً رأسه للأمام ، فرأيت عيناه ، تذكرتهما ، تذكرت بريقهما عندما رأيته أول مرة في السوق .. غادر ثوبان وضللت في مكاني ملتصقاً بجذع النخلة حتى طلعت شمس الصباح ، لم يكن ذلك بسبب الخوف بل كنت مبهوراً لاكتشافي أن الظلام له ضوء !. |
رد: "ضوء الظلام " بثوب جديد
إنها عوالم الليل والطفولة وما تكتنزه من مفارقات وحب للاستكشاف، ولعل تبادل الأدوار بين ثوبان وذبيان واحدة منها.
دمت مبدعا. |
الساعة الآن 11:38 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.