![]() |
|
الطريق
الطريق
" الطريق مقطوع يا عم " صاح رجل الأمن في وجه صالح، وأشار بيديه طالبا منه التراجع. كانت السيول قد اكتسحت الجزء الأكبر من الطريق الإسفلتية المتآكلة الأطراف، جارفة معها أكواما من الحجارة و أغصان الزيتون المتكسرة. أرجع صالح السيارة إلى الوراء، واتكأ على المقود ينظر بحسرة إلى المياه الطينية التي تدفقت أمام صف طويل متوقف من العربات. تعالى زعيق منبهات السيارات وتصاعدت صيحات الاستنكار، لكن رجال الأمن منعوا بحزم أي محاولة للمرور. لم تجد احتجاجات السائقين و توسلات الركاب في زحزحة الأمنيين عن موقفهم. كانت الأوامر التي تلقوها منذ ربع ساعة واضحة و صارمة. لا أحد يمر من الطريق المحاذية للنهر الهائج، والتي اجتاح الفيضان المدمر معظمها، وحول منعطفاتها الجميلة إلى برك موحلة. استدار صالح بالسيارة، وقفل راجعا من حيث جاء. قرر أن يسلك طريقا فرعيا بعيدا عن مزاج النهر و تقلباته المفاجئة، رغم أنه سيكلفه وقتا مضاعفا وكثيرا من الاهتزاز. بعد مدة انحرف إلى طريق ضيق، يتلوى كثعبان مرقط بلا رأس بين حقول القمح الخضراء و أشجار الزيتون. اهتزت السيارة فضغط على الفرامل و قلل من السرعة. حدق أمامه بحنق. الحفر تملأ طول الطريق. ذلك ما كان يخشاه. قد تطول الرحلة أكثر من المتوقع حتى يصل إلى بلدته. لو لم يتوقف ليحتسي كأسا من الشاي في مقهى ريفي بسيط، لاجتاز حاجز الأمن قبل قطع الطريق، كما فعل زملائه أبو لطفي وأمجد. أمسكت قبضتا يديه المقود بشدة، وعض على شفته السفلى. دائما ما يصل بعد الآخرين، وليست هذه المرة الأولى. الفتاة التي نبض قلبه بحبها، تأخر في خطبتها ففاز بها شخص آخر. والوظيفة المرموقة التي لطالما حلم بها في شبابه ضاعت منه لأنه تباطأ في التقدم إليها. وحوادث أخرى كثيرة لا يتذكرها الآن. تخيل زميليه في بيتهما، جالسين يحتسيان القهوة الساخنة في ركن دافئ، بينما هو لا يزال يتأرجح فوق شريط ضيق وعر يبدو بلا نهاية. أضفت أشجار الزيتون بأوراقها الصغيرة المتشابكة ألقا ساحرا على البساط الأخضرالممتد إلى الأفق البعيد. عينا صالح لم تستمتعا وتتذوقا ذلك السحروالجمال. لم تكونا تحدقان بقلق سوى في الطريق المتداعي. تسائلان في صمت حظه المشروخ، وتلقيان سحابة من الشك على قدر لا يأبى إلا أن يعانده. تمثل زوجته وهي تردد كعادتها، كلما اشتكى إليها:" لعله خير". حرك رأسه جانبا بامتعاض، وهمس بسخرية كأنما يحدث شخصا جالسا بجنبه :"ترهات، مجرد أقوال لا تنفع . أي خير وجسدي يكاد يتفكك قبل السيارة بسبب هذه الحفر العميقة، الخط المستقيم أفضل دوما من الخط المتعرج، حياتي لم تكن إلا خطوطا متعرجة تلاعب بها الزمن في غفلة مني". عندما أوقف محرك سيارته أمام بيته بالبلدة، كانت الشمس تلفظ آخر أنفاسها، والظلام ينساب بخلسة في الأرجاء. زوجته وجمع من جيرانه تحلقوا حوله. نظر إليهم بعينين محمرتين ووجه متعب مستفهم. سألته أم لطفي بجزع واضح: "سيد صالح ألم تصادف أبو لطفي و أمجد؟ سيارتهما لم تصل بعد! وقد سمعنا أن الفيضان جرف عددا كبيرا من السيارات". |
رد: الطريق
أخي ( متابع أول ) أسعد الله مساءك بالخيرات لعله أول عمل أدبي أقرأه لك قصة جيدة ، لغتها سليمة .. بالتوفيق وإلى الأمام إن شاء الله تحية ... ناريمان |
رد: الطريق
اقتباس:
وشكرا على مرورك الكريم |
هنا قصة ممتازة، وتنحو منحى التقاليد الرفيعة في فن القص . بالفعل نص محبوك ببراعة وحساسية ملهمتين.
تحية حارة |
رد: الطريق
اقتباس:
وشكرا لمرورك الكريم تحياتي |
رد: الطريق
قرأت من قبل القصة هاهنا ونسيت التعليق حينها
وإني من جمالها سارعت بالتقييم قبل الرد وهي تستحق ذلك بحق .. لعله خير ... يفهمها القلب المؤمن الصابر المحتسب الذي يحسن الظن بالله وإنها لثقافة جميلة ولكن هناك دوما من يكبل نفسه بالخوف و لايتستشعر هذه القيمة الروحية العميقة ... والتي لو استشعرها لذابت كل أوجاعه كما تذوب قطعة الثلج تحت نور الحقيقة الساطعة ... إن الوصول أولاً لايعني على الدوام النجاح فالخطوة الثانية هي الأكثر ثباتاً واستقراراً يحتاج كلا منا التفكير بإيجابية في كل مايحيط به من حواجز وإن الرسالة التي يحملها النص صادقة وقيمة أثابك الله بها ... لي شرف قراءة هذا النص البديع " الطريق " مختصر شاف لـ من يعاني التذمر وسوء الظن قلم مميز وصادق ... يستحق الوقوف عنده بتقدير |
رد: الطريق
اقتباس:
أنرت الطريق بتحليلك الرائع المستفيض وشكرا لمرورك العطر |
رد: الطريق
نص أدبي معتبر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولغته سلسة تأخذك من دون تكلف عبر طريق يحمل دائما المفاجآت ..و المفاجأة هذه المرة أن الطريق كان مقطوعا بسبب السيول القاهرة...لكن البراعة تتجلى في قدرة البطل على إيجاد سبل واقعية عاجلة و بديلة للخروج من هذا المأزق الكبير و الوصول للهدف وإن كلفه الأمر وقتا مضاعفا وجهدا إضافيا..والحكمة تقول أن الوصول المتأخر غير من عدم الوصول....
شكرا أخي متابع على هذا النص الأصيل الذي قرأته وكأنني أشاهده.... تحيات ابو الفضل |
رد: الطريق
قصة جميلة سردا و لغة ومعنى، وعلى فكرة لي قصة بنفس العنوان ولكن المضمون مختلف جدا ..تحياتي
|
رد: الطريق
اقتباس:
تحليلك جيد ونظرتك ثاقبة شكرا لمرورك الكريم |
الساعة الآن 05:29 PM |
|
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.