![]() |
قالت جدتي
أهلكه الشيب و جماله توارى خلف التجاعيد ، صورته الحازمة التي تلطفها ملامحه الحية تهاوت بهوان جسده ، يسير محدودب الظهر كالخنفساء ، لا يقوى على طمس عيوبه التي تتأهب لتغتال زعامة كان لها عرشا ، بدأ ذكره يثقل الذئاب المحيطة به ، هو مجرد لقيط اختاروا له نسبا مخيفا فاعتلى برج الغابة . هم احترفوا الكيد و القتل و تنعموا تحت ظلال هيبة كان يثيرها ممشاه المنتصب ، و حركته السريعة ، و قدرته على تشخيص عنتريات تظهره شجاعا بطلا ، فتنحني لظله الحيوانات.
أصبح جثة محنطة ، مجرد فزاعة للعصافير كما كان على الدوام ، لكن هذه المرة تجرأت القبرة على رمي قذارتها على رأسه وهي تطير غير بعيد ، تيقنت من كونه لا يقوى على القفز ، بدأ هيكله آيلا للسقوط و عكاكيزه منخورة تميل بها الرياح . استشاط كبير الذئاب فزعا ، فكاد يتجرأ على افتراس جيفة البغل الجعفاء ، و يثير الزوابع في الصحراء ، ويهلك الحرث و النسل ، لكن عمره المتمادي في القدم ، و تعوده على النعيم و التمتع بجميل الأكلات بلا صيد قللت من ذئبية طباعه ، و قلمت أظافره ، و أنيابه المتساقطة أفقدت تكشره الرعب ، و بات عواؤه مبحوحا . كان البغل متآمرا مع الذئاب للسطو على الغابة ، و تشريد الأسود والنمور ، واستعباد كل الطيور ، و استباحة أعراض الغزلان و الرفع من قيمة الحمير و إذلال الخيول ، كان ذلك منذ أمد بعيد ، حين تم رهن الغابة للغول ، فسجن من الأسود الكثير ، بل مات منهم الجم الغفير ، و تم ترويض ضراوة الأشبال حتى عادوا مدعاة للشفقة ، يرصعون بهم المتاحف و يقيمون بهم الحفلات ، و يبتهجون بالقرد يمتطي صهوته ، و بالضفدع ينط على هيبته ، و استباحت الضباع حرمة اللبؤات . كما تم تجويع النمور فهزل مظهرها فأصبحت قططا بفرو وديع ، تقوس ظهرها عند رؤية الكلاب منتفخة الذيل باحثة عن مهرب آمن . قالت جدتي ، كان الغول عملاقا لكنه يخاف من دبيب النمل ، تزعجه صلوات السحالي ، بنى أبناؤه أبراجا تحرسها الذئاب و حريمه تأوى إليه الضباع ، هي زينة عرشه و صحبة مجلسه . فكانت لهم القدسية في الغابة بعد رحيله ، لكن الذئاب لا ترحم أحدا فما إن أمسكت بزمام الأمور واستتب لها الأمر أخصت الضباع و منعتهم من النسل ، فلما ماتوا جميعا جاؤوا ببغلهم القصير و ألبسوه سلهام الضباع وأجلسوه على كرسي الغول . قالت جدتي بعد أن مسحت تعب السنين عن عينيها ، جلست الذئاب في حيرة بعيدا عن جدها اللعوب ، الذي يمرح في حضن الغواني ، يلاطفن عجزه ، و يمنعن عنه وخزة الإحباط بالتعفف ، فقال راشدها : "نحن اليوم في مفترق الطرق ، أبونا شيخ كبير ، وهن العظم منه ، وذهب عنه وجهه الفتاك، و هذا البغل اللعين ما عاد قادرا على حفظ عرشنا ، بل أضحى وبالا علينا ، سمعت أن أسدا زأر في غيابات الصحراء ، فلو تركنا الأمر على هذا النحو لقامت قيامتنا ، و لأفسدنا ما بناه الأجداد ، و مكنا الرعاع من خيرات البلاد ، تصوروا لو استرجعت النمور عافيتها ماذا عسانا نأكل غير الفضلات ، و لو استعادت الأسود ذاكرتها ، ماذا سيكون مصيرنا و قد عثنا فسادا في حرائرهم ، و استوطنا عرينهم ، إياكم والتنازع على العرش ، فشوكتنا في وحدتنا و تشتيتهم ، و شوكتنا في ذئبيتنا التي فيها وفاء الكلب ، و ذكاء الثعلب و شراسة الضباع و الاستكانة عند الضعف ، فإياكم أن تطلبوا من الغول العودة ، وإياكم أن تفعلوا شيئا من غير مشورته ، فهو لا يزال المتحكم فينا ، و نحن خدام مشاريعه ، و سلطتنا منه آتية ، لا تنسوا أنه لا يزال يطعم بعض الأسود في حدائقه ، و النمور لها حظوة في بعض من مدائنه و الضباع تزين قصوره ، و بين الفينة والفينة نخضع لإملاءاته الصعبة ، لكن في سبيل هذا العرش سنتعلم مزيدا من الخضوع ، ومزيدا من المكر ، و لا تنسوا أننا مجرد حثالة الغابة ، وآخر ما يمكنه أن ينال حظوة تسييرها ، أتركوني أخابر الغول و أمكنه من كل ما يشتهي ، و أنتزع منه بشارة العرش المجيد . قالت جدتي : " لو كانت الذئاب تعلم أن الغول مجرد بغل آخر لبس ملابس الغول و أن جيشه العرمرم ما هو إلا نعاج جيء بها من كل فج عميق ، لكان مصير الغابة لا كما يظهر ، لكن الحياة هكذا . قلت لجدتي ما تتمة الحكاية ، فقالت ليس لها نهاية يا ولدي ، فكلما أشرفت على النهاية تكون قد بدأت ، فالذئاب هي الذئاب ، والضباع هي الضباع ، و ليت الأسود تكون أسودا . لكن يا بني هذه قولتي الأخيرة ، الغابة حكاياتها لا تنتهي ، فيوما قيل لي ، هل تموت الأفاعي عندما يبدو عليها الاحتضار؟ سكتت برهة ، و قلت لهم بل تغادر ثوبها الضيق ، لتردي ثوبا فسيحا تماما كما تفعل العنقاء . |
وتبقى حكمة الاجداد في ذاكرتنا
نبقى نرددها حتى يحفظها جيل بعد جيل أديبنا القدير ياسر دائما لحرفك نكهة مميزة أستطيع معرفتها ،،،لان جمال حرفك وفكرك توأمان لك تقديري |
وأنا أقول ....إن ماقرات هنا حرف مبدع لكاتب مبدع .أترع لنا موائد الذائقة فبتنا في حيرة من أين نأتيها .|
أستاذ ياسر مبدع كما أنت .وافر هطل حرفك صافي الود |
أهلا أخي ياسر
رحم الله أيام زمان حين كانت الجدة مؤسسة تروية عظيمة. كنا نتحلق حولها لنسمع حكياتها السحرية المفعمة بالحكمة. حكايات لا نمل من سماعها و لم يفقدها التكرار أبدا نكهتها. و ضرنا اليوم غرباء في منازلنا بدون دفء الجدة ، استبدلناها بآلة شوهتنا و شوهت عقولنا. قانون الغاب أساسه الاصطفاء الطبيعي البقاء فيه للأقوى ...للأدهي ...للقادر على التكيف مع أجوائها. و الانقراض يكون للضغيف الغبي . أحسست ان الغابة هي وطننا العربي على الكراسي بغال وحاحشيتها من الذئاب الماكرة . تبذل خطتها و خطابها حسب الظروف و موازين القوى لتصبح النخبة الأبدية.هي بالضبط حكايتنا. قفلة رائعة تنم عن وعي حقيقي بالمقصود من الكتابة ، و تنم عن وعي بالكتابة المبهرة. طبعا لن تنتهي حكاية الغابة . نص مائز بكل المقاييس. فيه صنعة و إبداع و رصانة و بعدة نظر. تحياتي أيها المبدع الجميل. |
، فالذئاب هي الذئاب ، والضباع هي الضباع ، و ليت الأسود تكون أسودا .
لكن يا بني هذه قولتي الأخيرة ، الغابة حكاياتها لا تنتهي ، فيوما قيل لي ، هل تموت الأفاعي عندما يبدو عليها الاحتضار؟ سكتت برهة ، و قلت لهم بل تغادر ثوبها الضيق ، لتردي ثوبا فسيحا تماما كما تفعل العنقاء ====================================== ما اشد حاجتنا الى حكمة الجدات في هذا العصر المخادع حقا تبقى الذئاب ذئابا والافاعي أفاعي وبينهما تضيع البراءة والاخلاص استاذ / ياسر مازلتَ مالكا لزمام القص الهادف والتربوى تقديري ومحبتى |
الأستاذ القدير ياسر علي
ربما تخونني العبارات....نص يحبل بالحكمة ...كتب بلغة جزلة تنساب رقيقة سهلة محققة بإبداع التشويق والمتعة....القفلة انبعاث للقصة....وتستمر المعاناة يحيا قلمك أستاذي الكريم |
هل قالتها فعﻻ جدتك يا أ. ياسر ؟
هذا نص رمزي عالي التقنية يصف حالنا بواقع صادق أليم ... و ما هذه الدنيا إﻻ غابة ... فاختر ما عﻻ لك ذكره ...! تستحق أكثر من نجوم خمس ... احترامي الجم ... |
المبدع المتمكن من أدواته الإبداعية .. ياسر على
نص مبدع بسرده وإسقاطته .. وودى وتقديرى أيها المتألق |
الساعة الآن 01:19 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.