![]() |
حامد جو
لا اعرف لماذا سمى حامد بحامد جو ، يبدو لى ان هذا اللقب قد اقترن بحامد عندما كنا طالبا بالمدرسة الثانوية ، كانت كلمة " جو " شائعة بين طلاب المدرسة ، و قد اعتاد الطلاب إطلاقها ، على كل شخص يميل إلى المبالغة ، سواء كان ذلك ، فى المظهر ، أو فيما يقص و يحكى ، من قصص و حكاوى. كما كانت كلمة " جو " تطلق أيضاً على كل من يميل إلى الاستعراض ، و لفت النظر ، و قد أطلقت على بعض لاعبى كرة القدم ، و غيرهم من الطلاب المبرزين فى الأنشطة ، ممن ارتبط أداؤهم بالميل للاستعراض .
غير ان حامد جو كان الشخص الوحيد ، الذى التصق اللقب باسمه ، و ظل ملازما له بصورة ثابتة ، حدث ذلك بالرغم من ان حامد جو ، لم يكن مبرزا ، فى اى من الأنشطة المعروفة ، الا انه ظل معروفا لكل طلاب المدرسة . كان حامد ميالا بالفعل ، لغريب الملبس ، و غريب المسلك ، و غريب الحديث ، و يبدو ان ذلك هو ما جعله ملفتا للأنظار . كان كلانا ينتمى إلى أسرتين متوسطتي الحال ، الا ان حامد واجه اليتم فى سن مبكر ، توفى والده ، و هو لا يزال يافعا ، اذكر يوم وفاة أبيه ، و كأنها حدثت بالأمس ، كنت مع بعض الصبية فى فناء منزلهم ، و كانت النسوة الثاكلات يتصايحن فى باحة المنزل . كان بعضهن ينحن و هن يطرقن بالعصى ، على قرع طاف فوق طسوت بها ماء ، و كانت تلك هى المرة الأولى التى أرى فيها مثل ذلك المنظر النائح ، الثاكل ، كانت أجنحة الفجيعة ترفرف فوق سماء القرية ، بشكل مخيف ، لقد انطبع ذلك المشهد فى نفسي لفترة طويلة . كنا على طرفى نقيض من حيث الإحساس بالانتماء إلى أسرتين عاديتين ، من اسر مزارعي المشروع الزراعى ، انتمائى إلى أسرة اب مزارع ، أورثنى حالة من الانزواء ، و الانطواء ، فى المدارس الداخلية التى بدأت ارتيادها منذ سن مبكرة ، و من ذلك مثلا تجنب الاحتكاك بأبناء الموظفين ، و أولاد التجار الأغنياء ، الذين ضمتنى بهم الداخليات . كنت أحس بأننى غير مؤهل طبقيا لصداقتهم ، و صحبتهم ، اما حامد ، فلم يخامر وعيه أبدا ، اى إحساس بالدونية تجاههم ، كان يخالطهم باعتيادية ، و فى الحقيقة كان يتصيد صداقاتهم ، ظل يقتحم عالمهم ، غير هياب و لا وجل ، كنت اصادق ممن هم على شاكلتى من حيث الطبقة الاجتماعية ، اما حامد ، فكنت أراه يلبس البنطلونات و الجاكيتات فى الشتاء ، كما كان يدخن ، و يرتاد صالات السينما ، و المطاعم ، و محلات الحلوانية ، مع أولاد التجار و الموظفين ، بوتيرة ثابتة ، فى حين كان أمثالنا ، من أبناء المزارعين ، يظلون قرابة الشهر بالداخلية ، و ذلك ، بسبب ضيق ذات اليد . الشاهد ان صداقاته الواسعة ، و جاذبيته ، كفلتا له قدرة أوسع على الحركة . من يرى أسلوب عيشه يحسب ان أباه تاجرا أو موظفا كبيرا ، ذلك يوم ان كانت للموظفين دولة ... يتبع |
كل قصة تروي حكاية يتيم هي حتما رائعة ويبدو ان لدينا هنا بطلان واحد يتيم والثاني من سكان المدارس الداخلية وهو يتم من نوع آخر. ساتباعك باهتمام. اسلوب مشوق. |
كنت أرى فى نمط سلوكه ، تطفلا على عالم أبناء الأثرياء و الميسورين . أو فيه على الأقل ، بمظهر غير حقيقى . غير ان الذى اتضح لى مؤخراً ، ان حامد كان مفطورا أصلا ، على عدم الإيمان بالفوارق الطبقية . فهو لم يكن يدع لمن يريد ان يتميز بطبقته ، فرصة للتميز بها ، كان يتصرف بعفوية مدهشة ، و بدون تعمل ، أو عمد . كان كمن ألهمته السماء ، ان الحياة مائدة كبيرة ، لا يملك منها من يملك ، سواء ما حازت أصابعه لحظة الأكل . كان لا يؤمن حرفيا بملكية العين ، و يبدو انه ظل يري ، ان الناس يرتفقون بالأشياء ، مجرد ارتفاق ، و ذلك حين يحتاجونها . على العكس منه ، كنت اسلم لمن عندهم ، بما عندهم ، و لا اجرؤ على ازعاجهم . و كان حامد ، لا يسلم لاحد بما يملك ، و بما يدعى لنفسه . كان فى داخله شئ مسيطر ، يخبره ان كل هذه محض أكاذيب ، و محض زيف . فالناس عنده ناس ، و ان طالت عمائمهم . حاصل الأمر اننى اشتريت من أصحاب الجاه ، و الأغنياء ، و المسيطرين ، فكرتهم عن انفسهم ، و سلمت لهم بما أرادو لأنفسهم . اما حامد ، فلم يشتر شيئا من ذلك أبدا . و الحق اننى ، لا أزال حتى اليوم ، أحس بالحرج ، كلما ارتدت محلا تجاريا كبيرا ، أو فندقا فخما . شئ ما يزور ، و يتضاءل ، و يقول لى ، لا يصح ان تكون هنا . و كان حامد على العكس من ذلك تماماً .. يتبع
|
فى القرية التى تمثل فى جملتها ، أسرة ممتدة كبيرة ، عرف حامد جو بعدم الاعتراف بالفواصل و الحواجز و الملكيات . يبدأ رحلته من جنوب غربى القرية ، حيث يقع بيتهم ، مرورا بالبيوت ، بيتا بيتا . يسلم على الجميع ، و يدخل المطابخ فى البيوت على اختلافها . يذهب إلى الآنية ، يكشف أغطيتها ، و ينتشل قطعة لحم من هنا ، أو قطعة خضار من هناك . كان يأخذ مما يجد ، دون اى إحساس بالحرج . يفعل ذلك متى ما عن له ، و قد سلم له الناس بذلك تسليما تاما ، بل و استملحوه منه . لم اعرف شخصا ، تم قبوله ، بلا تحفظ ، من الجميع ، فى القرية ، مثل حامد جو . حتى علاقته بالجنس الآخر ، ظلت محل تأمل بالنسبة لى ، طيلة حياتى ، كنت و لا أزال أهاب الجمال البشرى ، و انكسر أمامه . بالنسبة لى ، يظل الجمال محاطا دائماً بدائرة طاردة ، لا أقوى على ان أخطو بداخلها . و كان حامد على العكس من ذلك تماماً . فالدائرة الطاردة بالنسبة لى ، كانت فى حقه ، دائرة جاذبة ، و بشدة . كان يقترب كثيرا و لا يحترق . باختصار ، كانت لحامد قدرة غريبة على اقتحام ، حواجز الاستبعاد ، و الإقصاء ، بكل أشكالها و ألوانها . يقوم بذلك ، مدفوعا بإحساس فطرى ، لا تعمل ، أو تعمد فيه . كان يؤمن عمليا ، بان له فى كل شئ حق ، و ليس صدقة ... يتبع
|
شخصية روائية مثيرة حقا " حامد جو"
و مع هذه الحلقات المتتابعة التي وضعتنا في مدخل العمل أتوقع عملا روائيا او قصة طويلة مميزة أ. احمد ابراهيم معك نتابع القصة |
الساعة الآن 07:50 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.