منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   المرآة (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=12745)

ياسر علي 01-04-2014 12:50 AM

المرآة
 
تذكر أولى القيود التي كبلت هيئته و هو يتفقد وجهه الصبوح في المرآة ، كانت نسيجا عنكبوتيا بخيوطه الواهية . حين مات جده استل المرآة من قبضته المتراخية بسياط الموت ، أتعسه الجسد الذي تلبسه الموت حين التهمه التراب ، فوارى سوأة المرآة في أخدود عميق بجانب المقبرة .
يومها كان في السابعة من عمره ، أفزعته تلك الصورة فخيل إليه أن عنكبوتا نسج عليها قيودا تهذب حركيتها ، يحس حركاته تتثاقل لكأنه يجري في حلم ، تتباطأ أعضاؤه و يفقد الكثير من مرونته ، كان دائما يتساءل لم استعصى الطيران على الإنسان ؟ ولم تعذر عليه الغوص في أعماق اليم ؟ كان يعلم أن لتلك الخيوط السحرية أثرا على ذاته التي تنقبض فيها الحركة ، تتعثر فيها الرغبة و يخبو فيها شغب الطفولة . لا يكاد يميز ملامحه ، مرآة عجيبة تلك التي تظهره على غير حقيقته .
تذكرها يوما عندما رأى رجالا يحفرون بجانب المقبرة ، حين غادروا توجه نحو لعبته المسكونة ، مسح على وجه المرآة غبار السنين ، لا تزال تلمع جوانبها المعدنية و لم يستطع التراب قضم طلائها ، كلما هم بالنظر إلى شاشتها ، تذكر رعب الطفولة الأولى ، وكيف تأزمت فيه النشوة ، و كم مرة أيقظته الصورة التي شوهت ملامحه البريئة ، وجعلت منه طفلا عنكبوتيا . رغم ذلك فالفضول غلبه و عيناه تختلسان النظر إلى المرآة و يداه تصوبان عدستها على وجهه ، عين مغمضة معصوبة ، وأذن موصدة ، و صخرة ضخمة على رأسه الهائم وراء قضبان حديدية ، ماهذا ؟ تبتعد صورته رويدا رويدا إنها سلاسل براقة بأقفال نحاسية ، تلف كل جسده ، رماها بعيدا وتحسس جسمه : " مايا له فأل قبيح ! أيتها المرآة اللعينة ! ألست شابا مليحا ذكيا ؟ أحفر طريقي في الصخر ، لا قيود تربطني ! لا موانع تصفد أحلامي !" خمن أنها مرآة ملعونة ، حملها بعيدا إلى مغارة عند قدم الجبل ، هناك دفن سرها المشؤوم . كما الماضي مازالت تلك الصورة تلعب بكل أحلامه ، توطن في ذهنه أن قوة قاهرة تحول بينه وبين ما يبتغيه ، أحس أن نحسا يلازمه أينما حل وارتحل .
تمضي الأيام ، تزوج و نسي المرآة و شأنها و استهلكت الحياة وقته و طاقته ، فهو السيد البطل ، يرسم السبل ، و يعلم الصواب ، يحد من طيش أبنائه ، فكانوا يستسلمون بسرعة لمنهجه ، يتبعون طريقته و يحققون نجاحاته الباهرة ، تزوج أولهم و منحه حفيدا ذكيا مليحا ، لا يحب مفارقته . كبر جميع أبنائه و استوى رشدهم ، اعتلت البهجة نفسه و هو ينهي رسالته بسلام .
يوما جاءه الحفيد و وجهه يحمل كآبة من سالت عيونه دمعا غزيرا ، فسأله : " ما بك يا بني ؟" فرد عليه الحفيد و هو يبكي : " أنا عنكبوت صغير يا جدي " استفاقت ذاكرته و الرعب ينخر هدوءه ، فقام من جلسته متسائلا : " إلى ماذا ترمي يا بني ؟" فواصل الصغير :" جدي ، هذه المرآة تصدع ملامحي ! و تلبسني شبكة عنكبوتية ! وجدتها أنا و أصدقائي في المغارة ، إنها ترعبني !" ضحك الجد فقال لولده : " لا تقلق يابني فهذه ليست مرآة بل مجرد آلة فيها صورة لا تتحرك، هل رآها أصدقاؤك ؟ " فرد الحفيد : " لا عندما رأيت فيها ذلك الشبح منعتهم من الاقتراب منها و أخبرتهم أن بعبعا يفتك بالأطفال يسكنها ، فهرعوا إلى ديارهم هاربين ." طمأنه الجد ماسحا على وجهه : " اذهب وامرح فهذه مجرد قطعة بئيسة ، لديك الكثير من اللعب ."
حين اختلى بنفسه سقطت دمعة من عينيه قلقا على أحفاده ، أحب الرجوع إلى الماضي لينظر لصورته البشعة التي حسبها لم تؤثر على حياته ، تعجب حين وجد صورته لا يفسدها غير ما خطه الزمن على صفحته . حينها اكتسح الندم قلاع نشوته ، نادما على ما اقترفته يداه .

حسام الدين بهي الدين ريشو 01-04-2014 06:04 PM

حين اختلى بنفسه أحب الرجوع إلى الماضي لينظر لصورته البشعة التي لم تؤثر على حياته ، تعجب حين وجد صورته لا يفسدها غير ما خطه الزمن على صفحته "
==================

ما اروعك
اخي الفاضل
والاديب القاص / ياسر علي
لحظة فارقة
يتعرض لها البعض
في مسيرة الحياة
لكن المعالجة
كانت رائعة
تدل على الاقتدار والحكمة
لك مودتي وتقديري

ياسر علي 01-07-2014 12:40 AM



الأستاذ بهي الدين ريشو

يسعدني تواجك هنا
و شكرا على متابعتك الدائمة .
احترامي أستاذي




ناريمان الشريف 01-07-2014 08:45 AM

كالعادة ..
جميل ورائع
سلمت الأيادي أستاذ ياسر


تحية ... ناريمان الشريف

ياسر علي 01-08-2014 12:58 AM


أهلا بالأستاذة ناريمان الشريف

قمت بتعديل طفيف على النص
لعله يكون أكثر تعبيرا .

مع الشكر والتقدير .




الساعة الآن 12:50 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team