منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   مخبول... و مخبولة ... (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=13959)

ياسر علي 06-07-2014 08:02 PM

مخبول... و مخبولة ...
 
صباحا توجهت صالحة نحو محطة الحافلة التي تقلها بمعية المستخدمين ، مرت بجانب السوق الشعبي الذي دبت حركة الباعة فيه قبل وصول الزبناء ، فهمّت بالمرور لولا أن جذبتها إليه قوة خارقة وشوق جارف دام لأسبوعين ، كل مساء تخترق باحاته و هي تقتني بعض حاجاتها ، كلما مرت برحبة السمك علا صياح بائع الأعشاب الستيني ، بلهجته الغريبة المزعجة " كزبرة ، ليمون يا محبي الأسماك " .

عيناها تتفرسان الرحبة لعل صورته تظهر، تكاد ترى بقلبها العاشق عينيه البراقتين و وجهه الباسم المتخفي وراء لحيته غير المهذبة و صلابة عضلاته و ملابسه الخشنة و هو يوزع الصناديق على الباعة من محل التبريد ، مالت خطواتها جهة المخزن مطلة بوجهها المشرق من باب حديدي عتيد فاتح لدفتيه ، عيناها لم تتوجعا من رؤية السمك و سبابتها لم تتسلل لفرك أرنبة أنفها ، أطالت النظر فكاد يصدمها حامل الصندوق مطلقا صيحة تنبيه أن أفسحي الطريق يا فتاة ! استيقظت على صرخته الحادة فوجدت نفسها واقفة متسمرة أمام المخزن ، طافت ببصرها لتجد بائع الأعشاب يحدق نحوها بعينيه الغائرتين ، وقد تعودت على غمزه الخفيف كلما قطع عليها ناصر الطريق ، كان يطلق صوته عاليا " ليمون ... بقدنوس... كزبرة ... "
انتشلت جأشها المبعثر و حركت قدميها المتثاقلتين ، عاودت النظر إلى المحدق نحوها فأرعبها وجه سطرت الحاجة معالمه ، و تلذذ نحل السنين بامتصاص رحيق ملاحته . فكرت بالرد على تجسسه وتعقبه لحركاتها ومحاصرته لعفوتها و لعنفوان رغبتها ، قطبت جبينها وهمت برشق فضوله بلعنات تضخمت على طرف لسانها لولا دين على عاتقها لجم سخطها . احست بيد غادرة تمتد نحو محارمها و الحرارة تجتاح جسمها والعرق يندي جسدها الملتهب و هي بين دهشة و فتور، رمشة عين على استدارتها كانت كافية ليستل الصعلوك من يدها محفظتها مبرزا في وجهها مدية من وراء سترته كبحت فيها طلب النجدة ، لكن صوتا نشازا تلألأت نبراته المميزة مستصرخة ، فإذا بصندوق ناصر يهوي على رأس السارق فتناثرت أسماكه فوق جثته قبل أن يتنفض هاربا ، ويد قوية تمد المحفظة لها و لم تنتظر تمتة شكر من شفتيها المتراقصتين المثقلتين بجفاف ريقها .
تحركت صوبه بخطوات حازمة و لسانها يفصح عن غضبها : " وقوفك بجانبي يومها لا يمنحك وصاية علي ، فرغم طيبوبتي فأنا أنتقم لشرفي ." رد عليها ببرودة: " ربما افتقدك هو أيضا ، إن أباه مصاب بوعكة صحية .. " ما إن أتى ذكره على لسانه حتى تفتحت شهية مسامعها و طارت ظلمة انتقامها ، و رأت الوجه المرعب فانوس نور تشع من خلاله صورة من لم تتصور أنها أضحت معلقة بأهداب عيونه ، وطالبة لإشراقة طلعته ، أربكتها اللهفة فسألته : " متى سيعود ؟" تبسم بخبث فأحست بتسرعها في إفشاء مشاعرها لرجل غريب ، بل لشخص بشع وقح ، علت حمرة وجهها بعد سماع جوابه المقيت بسخرية : " هائمة إذن يا عصفورة!" تتابعت خطواتها تاركة السوق و في حلقها غصة تخنق أنفاسها ، لعام كامل استطاعت أن تكتم سرها و تحكم كبح اندفاعها ، ربما تراخت حبال ألجمتها و أصبحت نزوتها تقودها ، تذكرت الحافلة و خطفت نظرة إلى ساعتها ، آه هذا وقت الحافلة ، بدأت توسع خطواتها و تزيد من سرعتها ، عند المنعطف رأت الناقلة تغادر المحطة فازداد حنقها وغضبها ، يجب أن تدفع لسيارة الأجرة . ضربت كفا بكف و هي تتأفف من تعثر حظها ، فالعربات لا تكثرت لإشاراتها و الدقائق تتابع مهرولة ، تهيأت لها صورته أمامها فبصقت في وجهه المنكوث ببقع رمادية و كاد صوته المزعج يصعق كبرياء ثباتها ، حوقلت و تعوذت من شر رؤيته صبحا ، و أقسمت أن لا تعود إلى ما فعلته اليوم ، كان عليها أن تستقبل الحديقة بدل السوق الشعبي ، فلربما منحتها زهورها حظا موفقا .
توقف المصعد و فسح الباب فتحة أمامها و عقب حذائها يحدث صوتا مزعجا تمنت لو يصمت قليلا فتتسلل إلى مكتبها دون لفت الانتباه ، فالتفاتة الموظفين تزعج مشيتها ، و تضطرها إلى افتعال بسمة وقاية من تأثرها بنظراتهم الحاملة لعلامات تعجب و استفهام ، أخيرا وصلت إلى كرسيها و ضغطت على زر الحاسوب لكنه تأخر في الاستجابة لتمد يدها إلى الهاتف فور تراقص رناته ، صوت من مكتب الضبط يأمرها بالتوجه إلى الإدارة ، قامت و مزاجها ملتهب ، تحاول ترتيب الأعذار عن تاخرها ، تحاول اختراع كذبة بيضاء تنجيها من شطط القانون المذل ، خمسة عشر شهرا وهي تناضل من أجل قطف شهادة الأهلية و الترسيم كمحاسبة ، نقرت نقرة خجولة على باب الإدارة فسمعت همس المدير : " تفضلي.. " وقبل أن ينطلق لسانها بالسلام ، قال في حزم : " ما سبب تأخرك لساعة ونصف الساعة ؟" ردت وهي تكابر قشعريرة دبت في أوصالها : " من فضلكم سيدي ، أمي مصابة بالزكام . و..." ازداد منسوب النبرة الجافة من المدير : "هذا ليس عذرا يا صبية ، لماذا لم تهاتفي الشركة لتتخذ الإجراءات الضرورية ؟ أتعلمين أن دقائق من الإهمال كافية لتصيب الشركة بالإفلاس ؟ أنت لست أهلا لهذا المنصب ." ردت و الدموع تسيل من منابعها و تتجمع على أطراف جفونها . " سيدي لن أكرر ما فعلت ، ولكم الفضل في قبول طلبي للترسيم أنتم و رئيس مجلس الإدارة ، كما أنني لم أخطئ طيلة المدة التدريبية و أنتم يا سيدي أدرى بكفاءتي في عملي .." فقاطع لسانها الذي بدأ يتحرر من عقده : " انظري هذا قرار الاستغناء عن خدماتك ، لا مجال للتساهل ، قانون السوق ربح أو خسارة ...." صاحت في وجهه شاكية من الظلم الذي لحقها ، والتعسف الذي بخس مجهوداتها ، و القسوة التي قوبل بها تفانيها ، و التجاهل الذي أبدته الإدارة لمطالبها منذ وطئت أرض الشركة . فرد عليها المدير : " أتعلمين أن رئيس مجلس الإدارة يوجد في حالة عجز ، و قد كلف ابنه بشغل منصبه لأنه المساهم الأول في الشركة ، أتعلمين أنه عقد اجتماعا مع كل الموظفين والمستخدمين و أنت لا تزالين تغطين في فراشك ، أتعلمين أولى تعليماته أن لا تساهل إلا بعذر مقبول ناتج عن سبب قاهر . " علا صياحهما فاقتحم عليهما ناصر المكتب ، نظر نحوها و العجب يرتسم على ملامحه ، إنها صالحة بلحمها ودمها وجمالها الفتان ؟ كيف تصرفت هكذا مع المدير ؟ كيف امتدت يداها إلى الأوراق تمزقها ، أصابتها الدهشة و هي تنظر إلى ناصر في حلة جديدة و وجه حليق و المدير يتملقه و بين الكلمة و أختها يفخم سيدي الرئيس ، كادت ركبتاها تفشلان في دعم وقوفها ، غطت وجهها الملطخ بالدموع بكفيها مطأطئة رأسها ، توجهت منحنية نحو الباب ، والمدير لا يزال يذكر مساوئها لرئيسه الجديد الممسك عن الكلام ، في الشارع بالكاد تتبين ملامح العالم و صوت بائع الكزبرة يتردد في أذنيها و هو ينطق آخر كلماته : " مخبول و مخبولة ."

ياسر علي 06-09-2014 05:21 PM

دخل إلى مكتبه وضع رأسه بين كفيه ضغط بقوة كأنه يعصر من دماغه آلامه ، يحاول أن يقنع نفسه المجروحة أن لا يد له في مصابها ، فالمدير له من الخبرة ما يجعله يتفطن للذين تتضرر الشركة جراء تصرفاتهم غير المسؤولة ، وشطحاتهم غير الناضجة . حاول عزل شخصية ناصر المحبة عن رئيس الشركة وقائد السفينة التي إن غرقت كانت وبالا على مئات العمال والمستخدمين . تنهد بعمق و نفّس ربطة عنقه و هو يحاول أن يجد تبريرا لهذا الذي يحصل في أول يوم من عمله . كان أبوه يوصيه في أيامه الأخيرة بالمؤسسة خيرا ، مراجعة الحسابات و احترام قرارات الإداريين و أصحاب الاختصاص ، آه لو يستطيع أبوه الكلام اليوم لما غالبه هذا القرار الجائر في حق أقرب الناس إلى قلبه من كل الذين وقعت عليه عيناه في هذا العالم الذي لا يحبه ، و يكره مساطره ، بل وجد في العام الماضي راحة و هو يعيش على الهامش ، حيث يسكن كوخا بجانب البحر يطربه خريره عند المد والجزر ، يستمتع بحلاوة رمال الشاطئ . يغادر مع البحارة بعد منصف الليل لتتم العودة مع بزوغ النور ، كان للبحر طعم خاص ، تجعل ريحه المنعشة بدنه طريا و مشاعره عذراء كل يوم ، يرمي بكل تأوهاته هناك في فضاء اليم ويعود هادئا آمنا مطمئنا ، يتجه نحو السوق يوزع الصناديق على الباعة و يضع الباقي في محل التبريد ثم يغادر عند قدوم الشمس كي يعود مساء عند المغيب ، يكون أمامه اليوم كله ، فيه يستريح وفيه يرقص على إيقاعات موسيقي الطبيعة ، فيه يعانق مياه البحر عوما ، فيه يجد لنفسه المتعطشة للمرح مخرجا من تلك العوالم التي آلمته منذ الصغر ، يبتعد عن كل الذي تحمله تلك الكتب التي كان يسهر الليالي لاستكشاف مخزوناتها ، يعتقد في قرارة نفسه أن كل أولئك العظام و كل هؤلاء العباقرة ، ليسوا سوى أشخاصا عملوا على تعقيد الحياة البسيطة ، بل يرى كل تمظهرات التطور ما هي إلا عقبات توضع في وجه الناس البسطاء و الأطفال الصغار ، يتمعن بعمق ما جدوى الدراسة لمدة قد تصل إلى العشرين سنة ، هل العيش يحتاج إلى كل هذا الزمن المهدور ، و الحمل الثقيل ؟ هناك في فناء البحر وجد الطبيعة تتكلم قاموسا جديدا ، قاموسا عذريا ، قاموسا هادئا ، و هناك وجدت الأسماك لنفسها متنفسا رغم غياب الهواء في القاع . كان جسده هزيلا عندما كان في قاعة المدارس ، وهنا في الفضاء الرحب تمدد وتمطط و تضخم ، أيقن أن العقل مأساة الإنسان فهو من قزم بنيته العملاقة ليتحكم فيه ، إن الإنسان كتلة صراع بين العقل والجسد ، تميل فيه الغلبة للعقل و معها ينهار الجسد والعواطف حيث ميولاته العذرية . زفر زفرة حادة ، يرى عواطفه يكبتها ويقتلها فقط لإعطاء سطوة العقل مكانته المرموقة ، إنها الموازين المختلة ، والاستغلال والاستبداد ، يرى حبيبته تنهار أمامه صاغرة ، و لا يقدم على فعل فقط لأن المنطق لا يزاوج بين العقل والعاطفة ، كم كان هناك حرا طليقا يوم رمى بالصندوق في وجه اللص الذي تجاسر عليها ، كان بائع الكزبرة من أيقظ في نفسه تلك الشجاعة ، إنه نسخة لإنسان متحرر بعد طول صراع ، خبير بمفاصل الحياة ، يقرأ التصرف بسرعة ، إنه إنسان طبيعي يعرف قاموس الجسد العذري حيث تطفو العواطف والميول . لو كان قربه اليوم لكان مصير المدير مختلفا . إذ ذاك سيكون معها و يفتح لها صدره و يختارا العيش البسيط على إيقاعت الطبيعة .
فتح النافذة لعله ينتعش بريح قادمة من البحر يتأمل هذه المدينة الصاخبة يتأمل صواعدها بأعناقها المشرئبة نحو أعالي الفضاء ، حتى البنايات تواقة لاستنشاق عبير الطبيعة و رافضة لازدحام فرض عليها فرضا مقيتا ، أليس الكون فسيحا بما يكفي لاحتضان هؤلاء الذين يحبون التدافع في الزحام ، لكنه العقل من سيطر عليهم و فرض عليهم قواعده المليمترية . وحال بينهم وبين فسحة وهناء هناك ، يستظلان بوريقات الأشجار في الغابات ، يرتشفان كؤوس الشاي في خيام الصحراء ، و يطلان على الفضاء في أعالي الجبال .

" ياله من يوم ثقيل ! " هكذا قال ناصر وهو طوال اليوم يراجع السجلات المكدسة أمامه دون أن يستوعب كل تلك الجداول و المنحنيات ، تبسم حانقا على سنوات الدراسة البعيدة كل البعد عن الممارسة الفعلية ، إنه الآن لا يفقه شيئا في هذه القيادة التي أسندت له يتأمل قائلا : " كان الله في عونكم أيها الركاب عندما يسوق حافلتكم من لم يتمرس بعد على القيادة . ألم تكن حبيبتي أولى الضحايا ؟ هل هناك ما يعادل هكذا مأساة ؟ " فكر أن يطل على سوق السمك لكن مزاجه ليس صافيا ولا يظنه سيكون صافيا يوما ، كما أنه لا يحب الرجوع إلى الوراء ، فالعودة إلى الخلف إهانة للمستقبل وتشكيك بالذات و خياراتها مهما كانت غير صائبة ، فجرح العودة إلى الوراء لا يندمل ، كان أبوه يقول له عندما أحس أنه توجهه التعليمي لم يعد مشوقا كما كان يعتقد :" انت مخبول يا ولدي فلا استمرارية بلا عناد و مكابرة ، فالكل لا يحبون أعمالهم ، فقط يرفضون الاستسلام والعودة إلى الوراء ، فقاوم ستنتصر " لم يجد بدا من المقاومة رغم ما استنزفته من طاقته ، فأحس منذ ذلك اليوم أن القوانين التي وضعت للحياة تغلف و تحتضن ظلما عظيما .

هي في متاهة معتمة تخوض : " يا لهذا الذي كسر ضلوع اللص و هو حثالة ، كيف وافق على طردي بهذه السهولة وهو في أعتى المناصب ، ترى الفضيلة رديفة الضعفاء ؟ ترى المنصب يركب صاحبه منذ يومه الأول ؟ مخبول أنت يا قلبي ، تعلقت بالأعالي ، كنت أتحاشى أن أحبه منذ رأيت هيأته و عدم اهتمامه بمظهره ، كنت أتحاشى أن أنزل من رتبتي رغم وضاعتها و أشارك رجلا يعتمد فقط على بنيته الجسدية لكسب قوته ، كنت تائهة يومها في تساؤلات عديدة ، أحاول من خلالها قهر مشاعري التي لا تزداد إلا اتقادا كلما هممت بكبسها و إحكام الطوق حولها ، و اليوم رأيت كم كنت مخطئة ، إنه ابن رئيس مجلس الإدارة ، بل الرئيس بعينه يعوم في الملايين ، و يمتلك رقاب الكثير من البشر ، أين أنت يا صالحة من هذا ؟ " لم تجد غير الدموع مؤنسا ومواسيا لهذه المعادلة الجديدة كلما خرجت من متاهتها أسرعت بالعودة " يا له من يوم عصيب هذا الذي تكاثفت فيه الأحداث حد الصداع ، لكن ما الحل ؟ إنه العناد والمكابرة ، ألم تكن أمي معاندة جدا حتى مع الأقدار الصعبة ، ألم تتحدث معي طوال الأيام عن نضالها وكفاحها ، ألم يتكسر حبها على صخرة الواقع الفج والأعراف البالية ؟ ألم تسافر وتغادر الوطن لأعوام طويلة ؟ وهناك بنت بيتها و لقنتني أبجديات الحداثة و طعمت روحي بجميل الأصالة ، كنت مخبولة إذ رضخت بالعودة إلى وطني الأم ، لأكون ضحية بائع الكزبرة وحمال الأسماك ، و لص المحافظ النسائية ، و مدير لا يفهم في الإدارة غير العقاب . "
كان اندماجها في هذا الوسط عسيرا ، يوم مات والدها عزمت أمها على العودة إلى الوطن ، أخوها فضل الاستقرار هناك كمسير لمتجر والدهما ، أمها تخلت عن وظيفتها مكتفية بتقاعد نسبي ، وهي استكملت دراستها و قررت مرافقة أمها و تبحث لها عن استقرار في مسقط رأس والديها و الأزمة تلف بلاد المهجر ، و فرص النجاح تزداد في بلادها . تغيرت نظرتها إلى وطنها جملة وتفصيلا ، كانت أيام العطل تقدم صورة كاذبة عن مشاعر الحب والصفاء و التعايش ، إنه صراع طاحن من أجل العيش ، صراع بين الفقراء ، صراع بين النساء في توافه الأمور ، صراع لا يتوقف ، مع الجيران ، في الأسواق ، في الشوارع ، أينما وليت وجهك زكم السب والشتم مسمعك و تلقيت ضربات تحت حزامك ، وطعنات من وراء ظهرك . اليوم تأكدت أن الهجرة هي الحل من جديد كما هربت أمها ذات يوم من حب فاشل ، عليها أن تبحث هي أيضا عن موطئ قدم آمن لا يبخسها حقها ، تبني فيه مستقبلها بعيدا عن هذا الصراع الأجوف . تأملت الوطن يفر منه أبناؤه تباعا ، يا لها من صورة لو فتحت الحدود ، سترى الجحافل تغادر رغم عشقها لهذه الأرض ، لكن شيئا فيها يقض المضجع والراحة ، ليس الخبز وحده ، ليست الرغبة منفردة ، ليست الكرامة و ليس الأمن ، قد يكون الفرد يفر من ثقافة غير قادر على التحرر منها ، وربما أسلوب حياة لم يعد صالحا .
جمعت حقائبها فجاءت أمها تتوسلها أن لا تتسرع في اتخاذ القرار ، فبكت بكاء مريرا " أتعلمين يا أماه لأول مرة أحس نفسي مرتبكة ، ولو استرسل الأمر على هذا النحو سأفقد صوابي كلية ، أتعلمين كم كنت طموحة ؟ كم كنت واثقة من خطواتي ؟ من امتص كل مدخراتي من الصمود ، من عراني من قدراتي دفعة واحدة ، يا أماه ليس للمسألة علاقة برغبة ، بل مجرد انقاذ لروحي من الضياع " صمتت الأم برهة وقالت " إنه التاريخ يعيد نفسه يا بنيتي ، أتعلمين أنني مذ فكرت بالرجوع كنت خائفة عليك ، كما كنت خائفة على نفسي من عدم الاندماج ، يا بنيتي هي الحياة لا تقاس دوما بالنجاح والفشل ، أحيانا نصمد فقط و نتقبل عواقب الخيار و ربما المتاح ، يا بنيتي كنت حانقة كما أنت يوم رفضت عائلته زواجنا ، فثرت و ذهبت إلى أقاصي الأرض ، لا أخفيك أنه طوال غربتي فقدت نفسي التي كنت أعرفها ، التي من أجلها قمت بخياراتي ، لولا صالحة و أخوها حامد ما استطعت الصمود و مواصلة المشوار ، كانت ضريبة الغربة قاسية فقدت فيها تاريخي و صداقاتي و جزءا كبيرا من كياني ، لولا أيام العطل التي تحيي صلتي بجذوري لفقدت كل شيء ، لولا أبوك المثابر لكنتم على شاكلة أبناء الضواحي حيث الجريمة والانحراف ، يا بنيتي لم تكن الحياة يوما سهلة ، يا بنيتي علينا أن نقرأ من تجارب الآخرين لكي لا نضطر كل يوم للبداية من جديد . أنا فخورة بك و لك كامل الاختيار . "



كنت سأقتصر على النص الأول ، و لما رأيتها لم تنل إعجاب أحد عقدت العزم على تطويلها لعلها تكون عند حسن الظن هههههه . و أتمنى لكم خبلا ممتعا .

جليلة ماجد 06-09-2014 05:48 PM

اتعرف من المخبول أستاذي الفاضل ؟؟
من ﻻ يلتفت لهكذا رواية
سجلني أول المتابعين
و لي عودة تليق بالبهاء

ياسر علي 06-10-2014 12:34 AM


الأستاذة جليلة
ليست رواية بعد فمعالم النص في ذهني لا تزال مشوشة
لكن بفضل دعمك سأجتهد أكثر لتكون رواية

كل التحية لعائلة منابر


ياسر علي 06-11-2014 01:02 AM

بائع الكزبرة أطلق العنان مسافرا عبر تأملاته لما غادرت صالحة سوق السمك : " تراهما يتغلبان على أنانيتيهما ويترجلان من برجيهما العاجيين ليشيدا مجد الحب ، أم أنهما لن يختلفا عن الكثيرين الذين يتوقفون عند أول عثرة ، ناصر طفل في هيئة رجل ، مشاعر خفيفة و صوت هامس ، انسحب مبكرا من الحلبة ، أتكون هذه المدارس هي من تقلم شوكة العزم في الصبيان ؟ أتكون الأجيال مختلفة ؟ جيلنا لا يستسلم أبدا ، قهر الفقر المذقع و المذل ، بنينا الوطن و قد تركه المستعمر خرابا ، أتكون المصائب من تصنع الرجال وتشحذ الهمم ؟ هل أكثرنا من الدلال لأولادنا حتى أضحت طبائعهم مهذبة ، ينسحبون من المعارك بلا محاولة ، أتكون الحرية من فعلت بهم الأفاعيل ؟ و هل هناك حرية ؟ ( ألم تكن الحياة ناجمة عن واجب ، و نعيشها بالإكراه و نموت بحادث وصدفة ) فأين الحرية التي عنها يتحدثون ؟ جيل لا يستحق أكثر من الشفقة . " غادر بائع الكزبرة قريته مطلع الاستقلال و هو لا يزال صبيا ، نام في الشوارع و امتهن كل الحرف ، فاستقر على النشل حتى سجن ، في الزنزانة تعلم أن الحياة تتموضع في الوسط ، و لاتحتاج إلى كثرة مجهودات ، بل ذكاء وحيل و تصرف يضمن السلامة من الأذى ، هناك تعلم أساليب المعاملة ، لو بقي على عفويته لارتكب الكثير من الجرائم داخل السجن و لبقي هناك أبد الدهر ، قدم حزمة بقدنوس و ليمونتين للزبونة و رجع إلى رياضته العقلية و فسحته " الحياة مسرح كبير تتغير فيه الأدوار كل لحظة ، و الكيس من يتقن تقمص الدور الذي يقتضيه الموقف ، لن يتأتى ذلك إلا لقارئ الأحداث و العارف بمنطق الكون . رغم ذلك فهذان الطفلان نقرا نقرة الليونة في فؤادي ، أرى فيهما رمزا للبراءة ، رمزا للبدايات الأولى ، وقتها كانت حتى الطبيعة تكلم وترشد الإنسان يوم كان جزءا منها يسير وفق نواميسها ، يتأبط سذاجته فتجعل له مخرجا من كل الآفات ، أما اليوم حيث يعتبر الإنسان نفسه أهلا و قوة بيدها مفاتيح المستقبل ، فالطبيعة هجرته بل بين الفينة والفينة تغضب منه وتتركه فريسة لنزواته ، هذان الولدان يعشقان الحياة هما ذاكرة الإنسان التي فقدها ، هما مشكاتان قد لا يكفي نورهما لإضاءة الكون لكنهما يملكان ترك بصمة إن استطاعا الصمود ، وخبرا ما يجعلهما يتحملان المنعطفات ؟ أليست الحياة تضطرب بأخطاء بسيطة ، فكم شمسا خسفت في مهدها و كم نبيلا نالت منه المنعرجات ! "
تعكر مزاجه فأحس بلغة الكون تخز فسحته ، لاشك أن صدمة هزت قلعة حصينة ، لكنه متمرس على كبح نزوات نفسه التي تحاول بين الفينة والفينة الزج به إلى مقارعة الحزن ، إنه يقظ ، العاصفة زمنها قصير إلا على الذين يكابرونها و يعاندونها ، فكل ما انتصب أمامها شقى و تكسر قوامه ، ومن انحنى تركته سالما آمنا ، إنه ناموس الطبيعة ، لا يجابه الحزن إن زاره كي لا يترك في نفسه كسورا لن تجبر يوما . أخبره عقله أنهما في لجة فوضى يعتصرهما الألم ، فقلبه مربوط بتلابيب قلبيهما ، عاش معهما عاما كاملا ، رآهما منذ اليوم الأول في السوق ، حين جاء ناصر ، وقفت وقفة عجيبة تسجل كل حركاته و ملامحه ، مد إليها الكزبرة لكنها لا تبالي ، قام ثم جلس و لا حياة لمن ينادي ، إنها وجدت من تبحث عنه ، التفت نحوها مرتين في الأولى مستغربا و الثانية مبتسما ، إنها لغة القلوب . عند ذاك فقط استرجعت نفسها و قالت : " أين حزمي ؟ " نظر إليها ولم يجب و اكتفى بالإشارة نحو قفتها و رفع صوته عاليا : " كزبرة...ليمون... يا محبي الأسماك " نظرت نحوه باشمئزاز و ابتلعها السوق .

أخيرا جاءها الرد بشغور مقعد في طائرة ستقلع بعد ساعتين ، دفعت ثمن التذكرة عبر الأثير ، و وضبت حقيبتها ، جرتها خلفها مطلقة العنان لشعرها تهزه نسمات قادمة من المحيط ، تودع نخلات كانت تزين الشارع ، وضعت نظارات شمسية كي لا تتأذي عيناها من تفاصيل وجوه لفحها القحط ، وجردتها الخيبات من نضارتها ، تذكر خطاب أمها كما تلك المواويل التي يكررها السياسيون ، انتهى عصر التوجيه أيها العالم القاحل ، مات عصر الدروشة و القبول بأشباه الحلول ، إنه عصر التخلص من كل المعطوبات ، مات عصر الإصلاح ، تلفاز معطوب إلى الكسارة ، صنبور يقطر إلى المزبلة ، حاسوب معطل إلى المطرح ، كلام هزيل إلى مهب الريح ، إنه عصر الكينونة بالفعل والقوة معا ( أكون أو لا أكون ) تراخت خطواتها فكلما اقتربت منها سيارة زادت من سرعتها ، حظها مع المواصلات غير موفق اليوم ، طوال مدة خدمتها الرتيبة في الشركة ، اكتسبت ثقافة لم تكن يوما بها عليمة ، تأثير البعيد في الفعل ، دورة النجوم والأيام المشؤومة ،ماورائيات تكبح الفعل و الفوز، طرق يائسة في التعامل مع الصعاب ، وضع تميمة ، ارتداء خميسة وغيرها من الأوهام ، إنها نظرية المؤامرة تحيط بالفعل ، تبريرات للفشل ، وتهدئة للعقد و الإحباطات إلى حين . تأففت من هذه اللعنة المقيتة التي تلبست تفكيرها ، تريد أن تتحرر ، أن تعود إلى سابق عقلها الناضج المؤمن بالقدرة على الفعل عندها استجابت سيارة أجرة لطلبها الملح ، نطقت بكلمة المطار فعاود السائق المسير بدون إجابة ، يا لها من طريقة في التعامل مع الزباء ، كلنا تافهون ونصر على تفاهتنا ، أف تقترب ساعة الرحيل ، لوعلمت بأنها ستواجه هذه المعضلة ما استحمت و ما وقفت تلك الدقائق أمام المرآة ، يزداد غبضها ، إنها ذات العجلات الثلاثة تقف لها أخيرا دون أن تسألها الوقوف ، إلى أين يا كتكوتة ؟، كادت تصفع وجه السائق جراء هذا التحرش الظاهر، لولا أنها بحاجة لهذه الخدمة اللعينة لأوقفته عند حده ، دراجة بهئية أسيوية كانت تستعمل فقط لنقل البضائع ، الآن تحمل البشر بلا ترخيص ، إن وقعت حادثة فلا تأمين ولا تعويض ، وقف عند الميكانيكي قائلا : "لا تبتئسي يا غزالة سيصلح الدراجة بسرعة " ما هذا الحظ الموفق ؟ دفنت وجهها بين ركبتيها و طفقت تتأمل المشهد ، "هل أصحاب المكان يرغبون في بقائي ، تبا لهذه الترهات التي تأتيتي رغما عن أنفي ، وهذا الزنديق الذي يتغزل بي كل حين ، هل لم يبق من المصائب غيره " تذكرت أنه عندما يكون الفرد في حالة عصبية رهيبة فأحكامه لا تكون موفقة ، بل يؤول دماغه كل شيء بسلبية .
أخيرا وصلت إلى بوابة المهجر ، فكرت أن تمسح زوج حذائها قبل دخولها لكنها فضلت أن تمسحهما عندما تكون في المدرج ، بدأت إجراءات الدخول ، مع كل ولوج يطن الصفير في أذنيها ، فتعاود الكرة وهي تتخلص من حليها و ملابسها ، لم يتوقف الطنين فصحبها الحراس إلى غرفة خاصة و أمروها بالانتظار ، تتنتظر وتنتظر حتى أقلعت الطائرة ، فجاءها ضابط معتذرا عن الإزعاج و مفسرا سبب التأخر بعطل في شبكة الاتصال بمصالح الأمن لمراقبة البطاقة الوطنية و جواز السفر ، مكررا أسفه قائلا : " يمكنك الدخول فسجلك نظيف خال من المخالفات ". أخذت أوراق هويتها ثم عادت أدراجها وهي تقول : " سأبقى هنا لأحارب ..."

جليلة ماجد 06-11-2014 01:57 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر علي (المشاركة 177530)

الأستاذة جليلة
ليست رواية بعد فمعالم النص في ذهني لا تزال مشوشة
لكن بفضل دعمك سأجتهد أكثر لتكون رواية

كل التحية لعائلة منابر


و الله أنا أراها رواية استثنائيّة ...

متدفقة كنهر و أنا أعلم عِندما تتدفق الرواية ...

أزِل التشويش .. و صدقني .. ستدهشك نفسك ...

إحترامي أ . ياسر


جليلة ماجد 06-11-2014 02:04 PM

و يستمر الأستاذ ياسر في تدفقه الجميل فلنبدأ ؟؟

رواية [ مخبول و مخبولة ] للأستاذ ياسر علي :

1- اللغة : بسيطة ..سهلة .. تدلف إلى العقل بلا مقدمات و يندمج القارئ مع الشخصيات الـ يكاد يراها و يسمعها و يشمها .

2- التشويق : أبرز سمات هذا النص التشويق .. فما إن تنتهي من سطر حتى تحترق لمعرفة ما في السطر الثاني .. و التشويق هو الذي يقيس مدى براعة الروائي في جذب قرائه ...

3- التصاوير : القلم عند الأستاذ ياسر ريشة بها رسم السوق و الشركة و الشخصيات فكأنما تتابع مسلسلاً أو فيلماً في التلفاز ...

4- الأفكار : يعبّر الكاتب هنا عن همومه و ينفثها مع الشخصيات ، فصالحة و ضياع الهوية و و ناصر و ضياع الذات و بائع السمك الحكيم المحنّك و هذا ما شدني في البداية لهذه الرواية جميل أن تقرأ الراوي من خلال أفكار شخصياته ..!

............ لي عودة .... أستاذي الفاضل تقبّل تحياتي ....

ياسر علي 06-11-2014 11:32 PM


الأستاذة جليلة
يسعدني أن يجد نصي استحسانك
ويسعدني النشاط الذي دب في منبر القصة
والفضل كله يرجع لك بالذات
إذ عملت على ضخ نفس جديد في شرايينه

كل الشكر على قراءتك التي أسعدتني كثيرا
وبدون شك سيكون لها الأثر الإيجابي على أدائي

كل التقدير .


ياسر علي 06-11-2014 11:40 PM

يتنقل ناصر بين روافد الشركة حيث أمضى يوما كاملا في مصنع النسيج ، وضع القيّم بين يديه الكثير من الأوراق و الوثائق و المستندات والملفات ، هذه للعمال و مطالبهم و تلك للمواد الأولية و أخرى للآليات ، راجع معه كلفة الإنتاج و قيمته و نسب الربح . نقل إليه اقتراحات الترسيم والترقية ، تداولا كثيرا في السبل الممكنة للرفع من جودة المنتوج و تطويره و تخفيض التكلفة حفاظاعلى تنافسية عالية وضمانا للتواجد في الأسواق و المحافظة على الزبناء . في اليوم الموالي شد الرحال إلى مزارع الخضر والحوامض ، هناك وقف على معايير دقيقة في الزراعة ، إنها لغة الكمياء في الإنتاج ، كميات موزونة في الأسمدة و أصناف رفيعة من البذور و الشتلات في مشاتلها تحظى بعناية و رعاية تفوق تلك التي يحظى بها الأبناء في المشافي ورياض الحضانة ، مياه السقي توزعها أنظمة الحواسيب بالمليلترات ، يشرح المهندسون ويشرحون و هو لا يستوعب مثقال ذرة مما يتفوهون به ، تساءل أين كان طوال هذه المدة ، لكأنه كان يعيش في كوكب آخر . يرجع ليلا مهموما غير قادر على استيعاب كل تلك العوالم ، يتساءل متثائبا إن كان قادرا على تحمل هذه المسؤولية . في شركة النقل يستعرض المدير عدد الحافلات المخصصة للعمال ، عدد الشاحنات من النوع الكبير الخاصة بنقل الخضر إلى الميناء ، عدد الشاحنات المتوسطة التي تقل السجاد إلى محطة القطار ، عدد لترات البنزين المستهلكة ، فواتير قطع الغيار و تكاليف الصيانة و تجديد الأسطول . رجع إلى مكتبه منتفخ الرأس ، تجرع قرصا فوارا و هو يأذن للمدير بالدخول : سيدي لديكم مجموعة من الدعوات ، لقاء مع منتجي الحوامض ، دعوة من وزير النقل ، لقاء مع رئيس جمعية المقاولين ، لقاء مع ممثلي النقابات ، للإشارة سيدي فكلهم يباركون لكم منصبكم ، لا تنسى إدخال طلب الحضور إلى التجمع الحزبي إلى الأجندا سيدي ، وهناك موضوع هام أيضا فرئيس قسم الضرائب في مكالمة هاتفية يتمنى التعرف عليكم في أقرب وقت . بدأ يعرف لماذا لا يرى أباه طوال مدة دراسته إلا للحظات قليلة ، تنهد و تمطط و قام إلى منزله مقفلا هاتفيه ، وجد أمه وحيدة تفترسها الوحدة ، أبوه على السرير فاقد للسيطرة ، أخته هناك في بلاد الغرب تلتهم دروس عالم اليوم ، تأمل هذا الشتات ، طلب من الخادمة كوب ماء ، أحس بالضيق ، فغادر من جديد يبحث له عن مكان آمن ، عن فضاء واسع فسيح ، فروحه تكاد تغادر ، في هذا الأسبوع بدأ وزنه يخف و ملامحه تشحب ، وصفرة تعتري وجهه الداكن .
صالحة قامت صباحا في بذلتها الرياضية توجهت نحو البحر ، وجدت العالم هناك هادئا ، دخلت المياه الباردة بعد أن أكملت تمارينها ، تمططت على الرمال وهي ترتب أجزاء خطتها ، استعرضت معطياتها ، إمكانياتها ، أهدافها ، و بدأت تفكر في التفاصيل الجزئية هذه تحاج إلى ورقة وقلم و أيضا إلى حاسوبها ، طوال الأسبوع تنقح خطتها ، رياضة وحاسوب وقلم وأوراق ، إنه الإصرار على الوجود . أمها تحاول مواساتها فترد عليها :" لاعليك أمي أنا نسيت الوضوع ، وسترين قريبا قدراتي ، فأنا صنيعة أمي " من بريق عينيها رجعت بأمها إلى الأيام الخوالي ، فتمتمت الأم مبتعدة عنها : "لطفك يا الله ."
باكرا يقتني بضاعته من سوق الجملة و يستقبل سوق السمك ، يبيع طيلة اليوم تحت ظلته مستمتعا بالأفواج الآدمية التي تغدو خماصا و تروح بطانا ، عند مقدم الليل يجمع أدواته و أعشابه ، في طريقه إلى بيته يوقف دراجته واهبا بقية الأعشاب للجمعية الخيرية ، يصل إلى بيته تستقلبله زوجته برفق ، تسأله عن جديد السوق ، يحكي لها تفاصيل اليوم ، يفرغ محفظته على المائدة ، ترتب خديجة النقود قطعا وأوراقا ، ترجع إلى المحفظة رأس المال لزوجها ، تأخذ مصروف الغد تضعه في المطبخ ، و تقبل ماتبقى و ترميه في صندوق خشبي في غرفة النوم ، في نهاية كل شهر تعد ما في الصندوق تدفع منه فواتير الماء والكهرباء ، تقتني منه بعض الأواني و الملابس الضرورية ، وتحمل الباقي إلى البنك ، أسرة تعيش على مهل ، في هدوء ، زوجت بنتها البكر و ابنها يعيش مع زوجته في بيته ، أسرة مقتصدة تعيش على باب الله ، لكل يوم رزقه تمطره السماء ، تعاظمت ثروة بائع الكزبرة فاضحى ملاكا للعقارات ، و تضخ في حسابه البنكي الدراهم كل شهر ، رغم ذلك لم يركب المال حياته ، و لم تتغير طبائعه ، فهو مؤمن أن المال فقط لإنقاد الروح من الفقر. يحكي لزوجته قصة العشيقين ، يتذكران عندما التقيا لأول مرة ، كان أبوها بائع الأعشاب و هو مساعده عند خروجه من السجن ، آواه في بيته و زوجه ابنته الوحيدة.
أوصته زوجته أن يبتعد عن طريقهما ، ويترك الأقدار تسري بهما نحو مسارهما ، وأن لا يتدخل فيما لا يعنيه ، فربما المصائب تأتي من حيث تظهر أمارات النور ، يؤمن بأنه تزوج أكبر حكيمة في الكون ، يؤمن أن لو تعطى الشهادات على المنجزات لنالت من الدرجات أعلاها ، لكنه أيضا يعتقد أن حدسها لم يوفق اليوم ، إنها لم تشاهد نظرات الولدين ، لم تر شوقا في عينيها وهي قلقة على غيابه المفاجئ ، لم تعرف عن قرب عذرية الفتى و لا معدنه و هو يداهم السارق بشجاعة .
فقرر المضي في طريق معرفة الشابين و المساهمة في تحقق أحلامهما .

ياسر علي 06-12-2014 02:10 PM

أخيرا حظي برؤيتها بعد طول انتظار ، حاول استجماع ما يكفي من المعلومات عن الشابين ، يريد أن يدرس الحالة ليتدخل بلمسة سحرية تكسر جمود علاقتهما ، الحب عن بعد ما أظلمه من حب ، يريد أن يكون تلك الصدفة المفائجة التي تجمع بين روحين ، يتمنى أن يكسر تلك الحواجز التي تحول بينهما وبين السعادة ، تشاءم من غيابهما الطويل ، لكنه يعرف أن الطيبين لا يتخلصون من أحزانهم بسهولة ، إنها لعنة العناد تؤثر عليه، لم يجمع إلا القليل من المعلومات عن ناصر ، فحتى البحارة لا يعرفون عنه الكثير ، يقولون إن أباه ربما لم يتعاف من مرضه ، و ربما يكون ميتا ، و هو رجل ذو شأن عظيم هذا ما كان ناصر يقول . وصلت أمامه بخطواتها المتثاقلة و علامات السنين ظهرت على وجهها الصارم ، كادت أن تمر دون أن يكلمها ، لكنه أخيرا اهتدي إلى عرض خدعة مسرحية : " يا مدام..، ألا تريدين كزبرة ؟" رجعت بخطوتين إلى الوراء و تأملت ذلك الوجه الذي طعنته عواصف الزمان قائلة : " هيا حزمتين من كل نوع " وجدها فرصة سانحة للاستفسار عن صالحة ، فمرارا كانت تصاحب أمها في الماضي البعيد : "هل صالحة بخير ما عدت أراها في السوق؟ " استغربت الأم من هذا السؤال فواصل موضحا : : " إنها زبونتي و تضررت من غيابها " فردت متنهدة:" قصتها طويلة يا ...." بسرعة قال : "أحمد أحمد سيدتي" وهو متلهف لمعرفة المزيد ، " السيد أحمد ، لقد فقدت وظيفتها وهي الآن تحاول بناء نفسها من جديد .." قال ضاحكا : " حسبتك ستقولين تزوجت وغادرت المدينة ...." نظرت إليه بابتسامة : " وهل شباب اليوم يفكرون في الزواج ، آه مضت الأيام الحلوة يا.... " فهب لنجدتها : " أحمد أحمد سيدتي " و لما همت بالذهاب قدم لها حزمة مجانا قائلا : " لا تنسي أن تسلمي عليها .." ردت عليه بنظرة اعتراف وامتنان وهي تستبشر في قرارتها : " أن الدنيا لا تزال بخير ، رغم كل مظاهر الفوضى .."
تمر الأيام ولا تتقدم خطواته ، فلاهي ظهرت في السوق و لا ناصر وصل إليه واحد من رفاقه ، عاد أحمد إلى طبعته القديمة و ظن أنها زوبعة صيف عابرة ، و عمر العاصفة لا يطول ، فإن كان لم يحظ بغنيمة تقريب الحبيبين فهو على الأقل ما خسر شيئا .
صالحة تطوف على المكاتب وتهيء أوراق مقاولتها ، تسافر إلى القرى النائية و تجالس التعاونيات النسائية وهن يعانين من قلة الكفاءة و قلة الطلب ، تأخذ عينات من منتوج الزيوت و العسل و التوابل ، تطير نحو بلاد المهجر التقت بصديقات الدراسة ، كن في حاجة إلى دفعة تنتشلهن من رتابة المكاتب ، وضحت لهن فكرتها وافقت اثنتان منهن على توزيع المنتوج ، هيأن ملفات الشركة بسرعة البرق و اقترضن الملايين من البنوك استعلمن عن المنتوجات عند ذوي الاختصاص ، طبعن آلاف الملصقات والصور تعلوها علامة تجارية جديدة ، تلقين آلاف الطلبات .
حملت هدايا كثيرة في رحلة عودتها ، هذه لمدير الوكالة البنكية الذي سيمنحها دفعة البداية ، و تلك لمسؤول الجمارك الذي سيحررها من قيود التصدير ، و أخرى للموظفين الصغار في كل المكاتب التي ستضطر للتعامل معها .
نجحت الفكرة أخيرا بتصدير دفعتها الأول فوضعت قدمها الأولى في ميدان الأعمال.
ناصر غارق في فوضوية السوق ، في اجتماع مجلس الإدارة ، حاول إقناع المساهمين باستغلال مدخرات الشركة في تعويض خسارة فساد المنتوج الزراعي فبضاعتها ردت إليها ، مئات الأطنان من الخضر والفواكه تم تفريغها في عرض البحر ، والتحقيقات جارية لتحديد المسؤولية ، و خبراء الإتحاد الأوربي قادمون لزيارة قلاع الإنتاج والوقوف على أسباب الكارثة . لطفي غريمه في الشركة رجل خمسيني لا يؤمن بالخسارة هدد ببيع أسهمه و إغراق الشركة إن تم استغلال مدخراتها ، ناصحا ناصر بالإقتراض من الأبناك على أسهمه أو بيع جزء منها لتسوية مشاكله ، فالشركة لم تكن يوما في خطر إلا يوم تولى القيادة . عرف ناصر أن خصمه يكيد له كيدا ، واستغل خبرته في تعكير صفاء الشركة ، من أين له بالنقود ، إن قلص أسهمه فمنصب رئيس مجلس الإدارة في مهب الريح ، إن اقترض من الأبناك تأجلت الأرباح لسنوات عديدة ، دعا إلى مكتبه غريمه ، عرض عليه اقتسام الخسارة بين الأسهم و المدخرات فبالكاد وافق لطفي تحمل المدخرات لعشرين بالمئة من الخسارة مما يجعل ناصر سيتخلى على أربعة في المئة أسهمه ، هذه النسبة على الأقل لن تمنح لغريمه منصب القيادة ولو قام باقتنائها .
لطفي كانت خطته السيطرة على الشركة ، لكنه في ذات الوقت يتوجس من استمرار التحقيقات فلو تعثرت الشركة ستتدخل الدولة بثقلها فهي مشاركة فيها بنسبة رمزية لتضمن مراقبة الشركة كشريك . فأجل مشروعه إلى حين .

تهلل وجه أحمد وهو يرى العصفورة تحوم حول دكاكين السمك ، تغير شكلها قليلا ، ربما صورتها ، أصبحت أكثر جرأة تتحدث إلى الباعة بثبات بل ترد على غمزهم بدعابات فتطول القهقهة ، توجهت نحوه دون أن تنظر في عينيه ، وصلت أخيرا و حدقت فيه وابتسمت: " وصلتني رسالتك و شكرا لك على الاهتمام " فرد عليها بفضول : " وما أخبار ناصر ؟" تغيرت ملامحها وبرقت عيناها بريقا مفزعا لكنها تمالكت نفسها : " حكاية قديمة ربما للنسيان " نظر إليها بحنان قائلا : " بابنيتي إنه لرجل صالح ، فتى بريء ، شبل شجاع و إني لأراكما خلقتما لبعض ، فما الذي يحول بينكما " تأملت هذا الوجه البشع يذكرها بالبطولات والملاحم و تلك العنتريات البالية ، و ذلك الصفاء والنقاء ، .. لكنها في غنى عن دخول جدالات قاحلة لا طائل منها ، إنها اليوم تتقن لغة السوق ، ربح وخسارة لا غير ، و عندما رأت حديثها مع بائع الكزبرة خسارة للوقت قالت : " أستأذنك فمشواري طويل وأنا مازلت في بداية الطريق .." فرد عليها : " إن كنت في حاجة إلى مساعدة فأنا رهن الإشارة ." ضحكت مقهقهة في دواخلها : " مساعدة من بائع الكزبرة ، أي حمق أكبر من هذا ، وعندما تمكنت الفكرة من دماغها تذكرت ناصرا وهو في ثوب الحمال و بين ليلة وضحاها وجدته على وثاب فاخر يؤشر على ورقة طردها ، أيكون بائع الكزبرة على هذا النحو ، لا بد من طريقة للوصول إلى الحقيقة . "

ياسر علي 06-12-2014 02:10 PM

تحقق المنتوجات أعلى الأرقام في أسواق المهجر قاطبة و تتهافت كبريات الأسواق الممتازة على الزعفران و عسل الزعتر و بعض المعلبات الغذائية من اللوز والجوز و زيوت الأركان ، فتجوب صالحة القرى و المداشر محفزة التعاونيات على مزيد من الإنتاج و تلح كثيرا على النظافة و الثمار الجيدة ، و تحذر من الغش والتزييف ، وما إن عبرت دفعتها الثانية الحدود حتى جاءها التحذير من شركة صديقتيها أن دراسة أجريت للدفعات الأولى تناهت أن بعض الشوائب تحول دون إعطاء المنتوج درجة الجودة العالية ، كما جاءتها رسالة من مركز مراقبة المواد الغذائية تدعوها للحضور فورا ، هناك وجدت أناسا مختصين خلصوا أن شروط الصناعة الغذائية تقتضي حفظ المنتوجات الأولية في أماكن خاصة وفق درجة حرارية معينة لكل منتوج ، و عملية عصر زيوت الأركان يجب أن تتم بواسطة الآلات العصرية حتى لا تشوبها زوائد تؤثر على جودتها . بدأت الأسئلة تلف في ذهنها ، أنتم لا تعدمون أعذارا لكبح إنتاجية شعوب الجنوب ، أنتم تختلقون دوما عراقيل لإذلال المنتوجات الأجنبية ، فنشر الدراسة في الإعلام حرب فاضحة ، يواصل المختصون اقتراحاتهم الجديدة ، حفاظا على المعايير المعتمدة ، نصحوها باقتناء آلات لتجويد المنتوج والاستفادة من خبرات تقنيين سيسهرون على مراقبة سلسلة الإنتاج من مهدها إلى أن تصل إلى السوق ، وهناك طلب موجه في الموضوع للوزارة المختصة لتسهيل تلك العمليات وفق اتفاقيات الشراكة . تيقنت أنهم يراقبون كل كبيرة وصغيرة هناك ، يحدون من الغزو الخارجي ، ويستغلون كل فرصة لتسويق آلياتهم . رأت نفسها دخلت متاهة كبرى ، شروط الرأسمالية العالمية ، و العلاقات (شمال ـ جنوب) أي مجازفة هنا تعني الخسارة . يجب الرضوخ لمطالبهم ، فهم أهل البلد ، و لو تركوا أبوابها مشرعة لاكتسحهم القمل و البق.
رجعت وهي تحاول اقناع التعاونيات على شراء الآلات الجديدة وتحديث التصنيع التقليدي ، هي تعلم أنهم لن يعدموا حيلة أخرى مستقبلا من تلك الحيل المكشوفة قصد فرملة الإنتاج ، فهم يقبلون بالاستيراد لكن بنسب ضئيلة لا تؤثر على الميزان التجاري . ماذا بعد ذلك ؟ تيقنت أن عليها مواصلة البحث عن مواطن المال ، يجب أن لا تعتمد على موطن واحد لاستقطاب العملة ، يجب أن تقتحم كل المجالات ، لكن كيف ؟ البرصة فيها سماسرة أقوياء و أشداء قد يرشدونها ، معها قسط من المال لا يفي بالغرض لإعلان حربها ، كما هي مؤمنة بعدم المقامرة بما تملك ، عليها أن تلعب لعبتها بأموال الآخرين .
خمسة أشهر مضت على ولوجها عالم الأعمال ،البرصة ستعطيها فرصا كبيرة للنجاح ، أولى الجلسات ستكون قريبا جدا ، وكيلها يوصيها بالمشاركة في التداول ، هناك أسهم ستطرح قريبا من شركة عملاقة ، ستكون بأثمان بخسة نظرا للمستقبل الغامض و عدم وضوح خطة مجلس الإدارة ، المبلغ سيكون مكلفا لكنه مربح جدا .
خرجت من بيتها غير مطمئنة ، أدارت العجلات و توقفت عند سوق السمك ، اليوم ستعرف ما يخبؤه بائع الكزبرة ، هو في مكانه المعتاد ، الحزم مصفوفة على منضدة أمامه ، صندوق الليمون في جانبه الأيمن وهو جالس على كرسيه الخشبي المهترئ ، تحت المنضدة تظهر أكياس الأعشاب المبللة ، فاجأته نبرتها وهي تسلم عليه ، لكأنه سائح مع موجات أثيرية لا يسمعها غيره ، كانت نفسه منقبضة منذ الفجر ، لم يبع صبيحة اليوم حزمة واحدة ، لعل السوق عبوس اليوم ، لم تقف ذاكرته على يوم شبيه بهذا الذي ابتدأ لتوه ، شعور يغمره كالذي اعتراه في أول ليلة بالسجن ، لكن بسمتها أزاحت عنه الكثير من القنوط ، سألته عن أحواله ، لم يفته أن يقاسمها التحية مستفسرا عن أحوال أمها . ردت بابتسامة مستفسرة عن نوع المساعدة التي كانت ينوي تقديمها ، كان سؤالها مباشرا بعثر جوابه ، تماسك أخيرا قائلا : " كل الصعاب لها حلول ، هذا ما علمتني الحياة " فقالت له : "ترى إن كان صديقك وحبيبي يواجه مشاكل جمة ، هل ستساعده أو على الأقل ترشدني إلى شخص يمكنني من مساعدته." فكر قليلا ثم أجابها : " هل يمكن أن أعرف نوع المصاعب التي يتخبط فيها " فردت و حشرجة تعكر نغمتها : " إنه يسير شركة والده ، وشركته مهددة بالإفلاس ، سيضطر للتخلي عن جزء من حصصه في الشركة . وعندما سكت قالت : "معذرة على إزعاجك سيدي ، فأنا مجرد فتاة مغلوبة على أمرها ، أعماها حبها ، و توهمت أن الجميع يمكن أن يضحوا بما يملكون لنجدة ناصر ، كنت أتساءل إن كان أصدقاؤه يملكون تقديم يد العون ، لكن لابأس ربما يجد حلا آخر ." قام بائع الكزبرة من مقامه ثم جلس و رعشة تهز أصابعه و تغلف صوته : " يا بنيتي إنه شاب سيتأذى كثيرا لأن روحه طيبة ، سينال عقاب نيته الصالحة ، آه يا زمنا يجلد الأرواح الطاهرة " تحركت مستعدة للرحيل و هي تقول : " سامحني فقد أيقظت أشجانك سيدي ، تركتك بخير " ناداها بعد أن خطت خمس خطوات : " انتظري قليلا " توقفت قليلا ثم واصلت المسير و هو خلفها يهرول : " أعلم أنك محرجة من طلب المساعدة ، لكن هذا المكان لا يليق للحديث ، سنذهب لأحد المقاهي ، أريد معلومات إضافية ، جرها من يدها متجها بها نحو محطة سيارات الأجرة ، فاجأه أنها تدعوه إلى سيارتها . سيارة وضيئة ، لابد أنها باهضة التكلفة ، تسرب الشك إلى دواخله ، فهمس بمكر ، ألا تبيعين السيارة وتساعدي حبيبك ؟ " صفرت صفيرا طويلا ثم قالت : "أنت ذكي جدا لكن ربما وقتي يذهب سدى ، فالمبلغ الذي يحتاجه ناصر لإنقاذ موقعه في الشركة ليس بالبسيط كما تظن ، حتى لو تم بيع عشرات السيارات فلن تفي بالغرض ." كاد يتعثر و هي تضغط على الدواسة ، فقالت بشيء من العجرفة : " اذهب إلى أعشابك و اتركني لحالي ، فأنا نذرت نفسي لهذا الحب ، و لن أعدم من الوسائل ما يجعله يحس بأنني المرأة المناسبة ." طارت شكوكه وهو معجب بهذا الإصرار و هذه القدرة على التحدي ، طمأنها : " أراك تستهينين ببائع الكزبرة ، مهما كان المبلغ ضخما فأنا له بالمرصاد ." لكنني أحتاج إلى ضمانات تؤكد أن أموالي ستكون بأمان ، تهللت أساريرها وهي تتأكد من قوة حاسة شمها ، فرائحة النقود تجذيها أينما وجدت ، الآن وقد كشف المسن أوراقه ، فستبدأ لعبتها السحرية بحيوية أكثر فقالت بصوت وديع : " طيب سيدي ، كل ماتطلبه بديهي جدا ، تفضل واركب ."

جليلة ماجد 06-13-2014 04:44 PM

و ماذا بعد ؟؟

يا للتشويق ...!

أنتظرك أستاذ ياسر ...

صافي الود

ياسر علي 06-14-2014 06:21 PM



لن يطول الانتظار بل جئت ملبيا يا أستاذة .


ياسر علي 06-14-2014 06:25 PM

سامية فتاة أمضت سبع سنوات في بلاد الغرب ، شقراء معتدلة القوام ، تبدو أطول من قامتها ، أكملت ربيعها الخامس والعشرين عكس أخيها ناصر تملك ذكاء اجتماعيا خارقا أهلها لممارسة العديد من المسؤوليات بأريحية ، لا يجرفها التيار ، فالعديد من الأشخاص لا يقوون على ممارسة أكثر من مهمة ، فهي تسرد الصوف و تشاهد التلفاز وفي الوقت ذاته تجاري صديقتها في حديث الموضة والطبخ و الفن دون أن يتشتت انتباهها لحظة واحدة ، إنها تملك تعددية التركيز ، مقبولة الجلسة ، مرنة الرد ، حاسمة الرأي ، يقظة الملامح ، تمارس هالتها ضغطا رهيبا على محاورها ، قوة الحجة و واسترسال لغتها في تسلسل منطقي مشفوع بذاكرة قوية فتتجسد النظريات في أقوالها وأفعالها لكأنها إنسان آلي كامل البرمجة ، زارها أبوها في رحلته الإستشفائية الأخيرة و قف على تسييرها المميز للوحدات الفندقية التي أنشأها في بلاد المهجر ، فوقع لها توكيلا على كل ممتلكات العائلة العقارية ، شرح لها أهمية الشركة ، والمصاعب التي تواجهها و نبهها أنه بين الفينة والفينة ستنتابه تشنجات عصبية ناجمة عن الإرهاق الذي يعانيه ، يخبرها أن أعضاءه متماسكة لكن جهازه العصبي مرهق لأنه بدنه لا ينال قسطه الكافي من الرياضة و الفسحة والاسترخاء لإنعاش حيويته فباشر وصيته : " أنت بنت أبيك يا سامية ، وأخوك ولد أمه ، حبكما كبير في أعماقي ، لكن أخاك يحتاج دوما لعين توجهه ، تركته لعام كامل يلهو و يعيش على مزاجه ، لكنني سأفوض له تسيير الشركة ليقف على عجزه و على عدم قدرته على التسيير ، سيرى بأم عينيه أن العالم لايمكن سبر أغواره دون الفعل الحقيقي ، فليست الدروشة سبيلا سليما وليس العناد منشأ القوة ، بل تلك القدرة على التصرف بإيجابية في أحلك الظروف ، سيتعلم كثيرا ، فمعه في مجلس الإدارة أناس خبثاء ، أناس شراهتهم لا حدود لها ، أناس يمارسون عقدهم في مواطن لا تسمح بالتهور ، ضعفه سيجعلهم يقدمون على تصرفات غبية ، وهي فرصة ذهبية لقطف رؤوسهم السامة و رد كيدهم في نحورهم . سترين يا ابنتي بأم عينك أن أخاك لن يطلب منك المساعدة ، لأنه أغلق نفسه في عالمه الخاص ، و توهمه نفسه أن الحياة تسير فقط بمنطقه الضيق ، إنه تشرب الكثير من طباع أمك التي ما كانت يوما سعيدة في حياتها ، فمنذ أن علمت أني كنت أحب فتاة أخرى قبل زواجي تقوقعت على نفسها غيرة ، و الحقيقة يا ابنتي أن والدي هو من اختارها لي ، ليس لأنني لست قادرا على عصيان أوامره ، وليس لأنني ضعيف لأفرط في حبي ، لكن التي كانت يوما حبيبتي معاندة جدا ، و رسمت خططا لعلاقتنا غير مبهجة حين تم رفضها ، يومها عرفت أن الحب شيء و القدرة على إنجاحه شيء آخر .
يا ابنتي تعلمين أني لا أخفي عنك شيئا مهما صغر أو كبر ، وأعلمك علم اليقين أنني لست نادما على كل قراراتي طوال حياتي ، في الشركة هناك فتاة تسمى صالحة إنها نسخة طبق الأصل من أمها في شبابها هذه صورة أمها ونحن في ريعان الشباب ، وهذه صورة البنت ، من جهة فهي كفؤة جدا كمحاسبة ، لكن عينيها و ملامحها تحملان العناد والمكابرة ، أبطأت في ترسيمها لأعرف نواياها الحقيقية ، تتبعت كل خطواتها و علمت أنها مهتمة عن بعد بأخيك ناصر ، لكنها لم تقدم بعد على أية خطوة ، حرصها الكبير جعلني أعجب بصبرها ، ولكن في الوقت ذاته هذا النمط في التعامل ينم على حدة الطباع و الإيمان الزائد بالنفس ، وشخص كهذا لا يحسن التصرف عند الشدائد . يا ابنتي أنت ربة العائلة في غيابي حتى يسترد ناصر عافيته و يتحمل مسؤوليته . لا تنسي أمك وهاتفيها كل يوم وطمئنيها أن كل شيء سيكون بخير عند عودتك إلى البلاد لتسيير الشركة و الأخذ بيد العائلة . فهي تثق بك كثيرا بالقدر الذي تخاف على ولدها ناصر و لو أظهرت عكس ما تضمر ، فأنا أعرفها جيدا . و طوال حياتي لم تقم بسلوك مشين ، بل تتفانى في سبيل العائلة وفق قواعدها و استطاعتها . " كان أبوها يومها صفحة شفافة جدا ورهيفا جدا ، سقطت دمعة من عينيه و هو يكابر تدحرجها ، لكنها ابنته التي يعرف بجد معدنها ولايضيره أن يبدو ضعيفا في حضرتها . في الأسبوع المقبل ستنال شهادتها و تعود إلى الوطن .

ركبا في السيارة فرن هاتفها ، إنه وكيلها في البرصة ينبئها أن مقالا في موقع إليتروني إقتصادي سيبعثر كل التوقعات ، و ثلاثون بالمئة من أسهم الشركة المدرجة في البرصة ستشهد تقلبات عجيبة ، فهذا التسريب سابق لأوانه ، و هي خطة تحتاج بعض الوقت ليحللها الإقتصاديون وسماسرة البرصة ، لكن على كل حال فالأموال يجب أن تضخ في حسابها بالبرصة في هذه اللحظة ليتصرف في الحين علما أن عقده في التداول لم يحرر بعد ،كما أخبرها ، أن العشرين بالمئة من إيرادات الأسهم كما سبق وتفاوضا عليها ليست مناسبة في عملية كهذه ، كما سيحتاج إلى دفعة مسبقة خارج العقد لإبرام الصفقات مع المضاربين . كانت تجيب بتحريك رأسها و قالت أخيراموضحة : "بعد ساعة سأكون معك هناك ".
"يمكنك أن تتأكد بنفسك سنذهب حالا إلى البرصة فالشركة ستنهار بعد لحظات ، إن لم نقم بعمل جبار " رد عليها : كم تحتاجين من المال ؟ " لا أخفيك الملايين من الدراهم على الأقل ." زفر زفرة حادة وهو يقول : " هذه مقامرة في آخر العمر" فردت عليه : ربما تكون فرصة العمر أيضا ، فأموالك ربما تتضاعف بين يوم وليلة ، فهذه الشركة لا يمكن أن تزول ، فعلى الأقل حصصها الثابثة توازي السبعين بالمئة ، ناهيك عن مدخراتها كسندات في خزينة الدولة ، إنها شركة لها موقعها الوطني وتحافظ على التوازنات و لن تسمح الدولة بتدميرها ، فهذه فرصة للإغتناء و في الوقت ذاته تنقذ وجه صديقك ومنصبه ، أيضا نكون قد حققنا نجاحا هائلا في سبيل الحب ، فكلنا في الأخير ناجحون . فقال لها بعد صمت لوقت قصير : " لنذهب إلى البنك "
عند مدير المؤسسة البنكية وقف بائع الكزبرة بعد إدخاله من البوابة الخلفية ، أعطاه قصاصة ورقة و قال له :" حول قروشي لهذا الحساب " ذعر مدير الوكال بهذا القرار، مستغربا من هذه الخطوة العجيبة الغريبة من أعظم زبون لهذه الوكالة مجيبا : "هكذا دفعة واحدة" فقال أحمد : بصوت الحازم : " يا صديقي إنها غارة فيها غنائم جمة ، سأعيد أموالي بعد حين ، وهل سأجد مؤسسة آمنة كوكالتكم . " لكن المدير بدا عليه التوتر ، وهو يحاول التأثير على الزبون ، فجاءه أحمد من الآخر :" حول نقودي على جناح السرعة فأنا لا أملك وقتا للكلام والدراهم تضيع . " ضغط المدير على الزر فطارت الدراهم إلى المجهول "
ضحكت بمكر وهي تحس انتفاخ رصيدها فأرسلت رسالة إلى وكيلها تأمره باليقظة ، وعدم التحلي بالرحمة ، فكرت أن تحرك عجلاتاها و لاتنظر هذا المخبول المؤمن بزغاريد الحب ، لكن همسة في دواخلها لا تزال تؤمن أن المرء لا يجب أن يغلق الأبواب خلفه ، خصوصا إن كان مبحرا في نفق مظلم .
وجدها تنتظر ، استوى على المقعد وقال لها :" في عينيك بريق عجيب ، قد يكون توترا أو حزنا أو مكرا ، لكن احترسي و لا تقللي من قدرات العشاب ، فهيا على بركة الله إلى سوق السمك ، فكزبرتي تنتظرني هناك ."

ياسر علي 06-16-2014 12:12 AM

عادت صالحة من البرصة وروحها مكسورة ، ياله من عالم صاخب ، أحست أنها تعرضت لابتزاز كبير ، دفعت من خالص مالها دفعة سوداء لوكيلها إنها كل ما تملك ، رغم ذلك حرر عقدا بنسبة مرتفعة جدا لم يترك لها مجالا للتفاوض ، إنه ضغط عامل الزمن ، بدأ إحساسها يمل من هذه اللعبة الخطيرة ، أموال بائع الكزبرة في يد مقامر ، و مقاولتها الفتية تبخر مخزونها ، إنها عودة إلى الصفر ، يرهبها الحضيض، لم تستطع انتظار ما ستسفر عنه بداية التداول ، حركة الأسهم لا تزال عادية ، لكن وكيلها يؤكد أن حربا ضروسا ستبدأ قريبا ، دماغها يغلي وهي تنتظر ، ماذا سيفعل هذا الوكيل ، فناصر لم يطرح بعد حصصه في السوق ، هل يراهن وكيلها على الأسهم المتداولة لتغطية نقص المبلغ الذي حظيت به من بائع الكزبرة . يشرح لها رغم محدودية وقته ، يشرح وهو يقدم التعليمات ، هاتفاه لا يتوقفان عن الرنين ، و أصابعه تنتقلان عبر لوح حاسوبه بسرعة جنونيية ، إنه في قمة الجنون ، كيف سيكون عند بداية التداول ، ربما يمزق ملابسة و يسير ويجيء عبر الأروقة ، سينتف شعره و ينطلق سانه بالسب والشتم ، سيقفز ملوحا بقبضة النصر حينا و ينحني حينا آخر ، أية أعصاب يملك هؤلاء . تبحث لنفسها عن مكان آمن تحسست محفظتها ، فتحتها بضعة أوراق لا تزال هنا ، أما بطائقها فما عادت صالحة للاستعمال . تطوف عبر لطرقات في المدينة ، لم تقف على مكان ترمي فيه أحزانها ومخاوفها .
لطفي يتوجس شرا من هذا المقال الذي تم نشره ، يحس أنه ليس الوحيد الذي سيلعب هذه اللعبة ، يتساءل هل اهتدى ناصر إلى خطة تخلصه من بيع حصصه ؟ هل قام بصفقة مع من يحرره من قبضته ؟ أما هذا الضئيل الذي رفض التعامل معي في البرصة مع أنني كنت أمنحه أكبر النسب ، لماذا تدرع أنه مشغول ؟ هل مثله ينشغل عن كعكة كهذه ؟ بدأت الأمور تختلط في ذهنه عندما أعلمه وكيله أن الأسهم بدأت حركتها في ازدياد ببرصة باريز فقال له بصوت قوي : تصرف وإلا فقدنا حضورنا ؟
هناك في باريز كانت خطة سامية خلخلة حسابات هؤلاء المضاربين فنشرت ذاك المقال لقياس ردة الفعل ، كانت خطة غبية بعض الشيء ، وكلاء الشركة يعملون برأيها ولا يستشيرون ناصرا الذي ما عاد يفرق بين رأسه و رجليه ، بل أغلق على نفسه في المكتب طوال اليوم ، لكأنه ينتظر أن يتحرك العالم لنصرته ، إنها قلة حيلة النعامة ، دفن نفسه هناك والشركة بقرة تمتد نحوها الخناجر . هاتفته أخته في تلك اللحظة لم يجبها إلا بعد رنات عديدة ، سألته عن حال أمها و حال أبيها ، كان رده أنه لا يملك من الوقت ما يحك فيه جلده ، كانت تعرف كل حركاته وسكناته بفضل عيونها المنتشرة في كل الأرجاء ، كانت تراجع عرضها لنيل الشهادة التي أخذت من عمرها زهرته ، وحاسوبها المتطور تتغير جداوله مركزا على التجمعات المالية وتلاحظ تغير حركة الأسهم .
بائع الكزبرة يرى السوق مسودا ، حمل أعشابه إلى الجمعية الخيرية ، دخل الى بيته وزوجته تقصفه بنظرة استغراب و فتحت فمها أخيرا : " ما بك أرى وجهك شاحبا " رجع ببصره إلى الأرض قائلا : " أنا تعبان يا خديجة ، و رأسي سينفجر ، أسرع نحو البالوعة يقذف ما في بطنه من الآلام ، تقدمت نحوه تشد أزره ، تبا لهذا اليوم العسير، يقول بائع الكزبرة ، استوى على سريره البسيط و أخذت زوجته المحفظة لتفرغها فقال لها : " ما بها إلا بعض درهيمات عليك أن تستعيني بالصندوق " فردت :" يا للهول ، باكرا دفعت الفائض إلى البنك " هب من مرقده رغم تهالكه ، لكنه تمالك نفسه ، وقال لها:" سأجد حلا يا حبيبة العمر ." فواصلت بصوت بهي : " لا تشغل بالك حبيبي غدا سأسحب ما يكفي من البنك و ستذهب عند الطبيب ." فرد عليها بعنف : " لا أطباء ولا أبناك ، سأتدبر أمري الآن." وقف مرتعشا فسقط ، عاود النهوض فلم تقو ركبتاه على الصمود . فقال بصوت فيه ضعف دفين : بدأ الكبر ينال مني ياخديجة ، آه لهذا الزمن المر ." واسته زوجته : " لا تبتئس يا حبيبي ، ستستعيد عافيك و قوتك ، لدينا من المال مايكفي لألف عام ، وعقاراتنا تكفي أحفاد أحفادنا ..." فرد عليها بعد جهد جهيد : " لا أحب ذكر المال يا خديجة ، هلا بدلت هذا الموضوع ، لو كنا نستفيد من مالنا لما رضينا بهذه العيشة المذلة ، نحن دمرنا أنفسنا من أجل المال ، كلما انتفخت جيوبنا تضاءلت أجسادنا ، استسلمنا لحب المال واكتنازه ، وفقدنا لذة العيش ." لما رأت عصبيته ازدادت قامت حاملة الدراهم المعدودات و بها اشترت قرصا فوارا عند البقال و بعضا من دقيق و رجعت إليه ، أعدت له حساء الشعير وبعض تمر و أكرهته على شرب القرص الفوار ، رقد على سريره وهو يهذي . خديجة تعيش تقلبات زوجها على مدى الشهور الماضية ، أحست أن شيئا يشغل باله ، فعصبية مزاجه لم تعد خافية ، تظهر من فلتات لسانه و حركات يديه ، يخونه هدوؤه المعهود ، إنه كذاك العاشق المتيم الذي لا يستطيع البوح ، تتساءل إن كانت لحكاية العشيقين صلة بما يعانيه ، أم حرك عشقهما في نفسه نزوة ما ، فبدأ يبهر بالفتيات اللائي يجبن السوق طولا وعرضا في السوق كل يوم ، مرضه جعله يفصح أنه ليس راضيا على عيشه و حياته . هي أيضا أحيانا تحس بهذه النزوة و تتساءل حين ترى تلك النساء اللائي يتباهين بقلائدهن و فساتينهن الجميلة رغم تواضع مركزهن الاجتماعي ، هي المليونيرة لا ترداد الأسواق العصرية ولا البوتيكات ، و لم تقصد يوما صالة الحلاق و لا صالون التجميل . لم تحظ يوما بالمشي إلى جانب زوجها يدا في يد قصد التجوال و الفسحة ، لم تسجل ذاكرتها سفرا و لا رحلة إلى الشلالات والشواطئ ، في الحقيقة لم تستمتع في حياتها يوما بملذات كانت كلها في المتناول .
كانت تبتعد عن المدينة بمسافة بعيدة عندما رن هاتفها و وكيلها يخبرها أنها حققت فوزا يفوق الخيال في آخر نصف ساعة قبل إغلاق البرصة ، هنأها أنها الآن تستطيع أن تدخل صراع الأسهم التي ستطرح بهناء وصفاء ، تسأل وتكرر السؤال ، كم كان مقدار فوزها ، يجيبها أن الملايين أصبحت في جعبتها و باستطاعتها أن تقارع أعتى كبار المستثمرين . تريد أن تسأله عن المزيد لكنه مضطر لقطع الاتصال فهو سيدرس خيارات السوق و ينتظر بيان الشركات و يقرأ مؤشرات البرصات الغربية .
أوقفت سيارتها على جانب البحر ، ركضت وهي تقفز كطفلة تفوقت في لعبة ، وحين ذهب عنها التأثر رجعت إلى نفسها تسألها أسئلة صعبة :" ماذا تريدين يا صالحة ؟ " هل الحب أم الانتقام ، هل التحرر من المكائد والرجوع إلى السلمية أم مواصلة الحرب ، الحرب تستنزف الروح يا صالحة ! الحرب تقتل فينا الإنسان ، عودي إلى رشدك يا صالحة ، لكنها تعود من جديد ، ألم يكن بائع الكزبرة يسخر منها ، لو لم يكن يملك الملايين ما اعتبرها مجرد مخبولة بل لأحس بكفاحها المستميت ، ألا يستحق أن تجرده من ريشه ليحس بلوعة الحرمان ، حتى ناصر هذا ألا يعتبر مجرما ، ألم يجدها تنزف دموعا وروحها في ألم عميق فما كان منه إلا أن تجاهلها ، ألم يعتبر الملايين و منصب الفخامة أفضل منها ومن مسح دموعها الجارية ؟ كلا يا صالحة يجب عليك أن تكملي المشوار !
سامية عقدت يدها وكسرت حاسوبها و نزف الدم من يدها هطولا ، ما هكذا يكون التداول ، من هذا الذي يزحف للسيطرة على الشركة ، فقام بحركات غريبة لا تمت للاقتصاد بصلة ، هذه ليست فعال لطفي مهما بلغ به التهور لن يقدم على هذه المجازفات التي أفقدت التداول كل قوانينه ، هذا ضرب من إقتصاد الجنون كالذي حدث في أسواق أسيا المالية ذات شجع . ماذا يحدث لك يا أخي ناصر وأنت في غفلتك لا تريد حتى الرد على مكالماتي ، فكرت أن تقلع مع أول طائرة ، لكنها مصرة على نيل شهادتها ، غدا فقط ألا تصبرون يوما واحدا ، والله لأبيعن السماء والأرض و أدك كل الذين زعزعوا استقرار بنيان والدي ، أليس المجد رهين أسرتها ، كيف يتطاول عليها من لا يملك من قيم الزعامة شيئا .
ناصر في كوخه الذي هجره منذ شهور مستسلم تمام الإستسلام بعد معرفته بحركية أسهم شركته و صعودها الصاروخي وهبوطها المفاجئ أكثر من سبع مرات خلال ساعتين من التداول ، عرف أن أسهمه التي سيعرضها غدا لسد العجز سيلعب بها مناوؤوه كي لا يجني منها ما يسد عثرات الشركة و بذلك سيفقد رئاستها مع أي انعقاد لمجلس الإدارة للبحث عن الحلول . فكر في رمي نفسه في البحر و التخلص من عجزه الفاضح ، تذكر حبيبته التي لم يستطع حتى مصارحتها بما يكابده ، آه عندما تعرف أنه فقد رئاسته فتعتبره فاقدا لرجولته ، لام نفسه و ندم على تجاهلها كل هذه المدة ، فإن كان يعيش ففقط ليحظى برفقتها ، لكن ربما الأقدار هي من تباعد بينهما .

ياسر علي 06-16-2014 12:13 AM

عند العاشرة ليلا استقبلها وكيلها في مطعم فاخر ، تناولا عشاء في مرح وسرور وشربا نخب النجاح ، كان يتحدث عن مغامراته في البرصة ، وكل الرجال الذين صنعهم بذكائه و بعض الذين هوى بآمالهم نحو الحضيض ، كان يصفها بالشجاعة ، بالمرأة الحديدية ، بالنبيهة ، تميل نفسها إلى تصديقه ، لكأنها تجهل نفسها ، يعزف على أوتار خاصة ، فتستعد النفس لتصديقه ، كان كل شيء يسير بشكل طبيعي جدا ، إنه لقاء شريكين تجمعهما التجارة ، لكنه مصر على إفساد احتفالها ، عندما فاجأها :"أين يريدين أن نكمل ليلتنا ، في شقتي أم شقتك ؟" عندها تغير مزاجها كلية ، ماذا يظن هذا الخنزير ، أيحسبني مجرد دمية أو بائعة هوى ، من يظن نفسه ؟ ردت عليه بعنف :" ما هذه الجرأة الخبيثة ؟ " ضحك ضحكة خفيفة و هو يقول :" صدقت دعابتي بسهولة ، يا ابنة العم أنا متزوج ، فقط أمازحك ، لكن لا بأس يمكن أن نذهب إلى المرقص و هناك نحتفل بإنجازنا و بشراكتنا المربحة ." ردت عليه حازمة :" سنلتقي غدا في البرصة فيومي طويل و أحس بالعياء ." قامت من مكانها و ضعت محفظتها على كتفها و لم تصغ لما تردده شفاهه من أعذار .
الليل كله تتقلب في الفراش ، رغم أنها تخوض حربا فهذا لا يعني أنها مستعدة للتخلي عن صالحة كلية ، فحربها مجرد تكتيك لاثبات الذات ، لا تريد نفسها محاربة أبد الدهر ، لا تريد لنفسها أن تتسسكع على ضفاف الشهوات الزائفة ، لا تريد لنفسها شراء المتعة ، تريد متعة حقيقية بلا وخزات ضمير . نعم ضميرها لايزال حيا ، لم تخنقه بعد . توعدت وكيلها بشر عقاب .
بائع الكزبرة يستيقظ من فراشه عند العاشرة صباحا ، نظر نحو الساعة الحائطية القديمة ، عقاربها استوت على العاشرة :" تذكر أنه كان مريضا ، تذكر نقوده ، وتذكر زوجته فانتفض يبحث عنها في أرجاء المنزل ، المفتاح في قفل المنزل يدور ، زوجته تدخل حاملة ما لذ وطاب من الفواكه والخضر واللحم ، كما اشترت جلابيب مختلفة الألوان ، و نعالا صفراء وبيضاء لزوجها ، عانقته عناقا حارا ، سألها :" أين كنت ياخديجة ؟ " ردت بتلقائية :" في البنك حبيبي ، حان الوقت لنتمتع بما جمعناه ، لا كزبرة بعد اليوم ، لا لشظف العيش . سنزور الكعبة كل عام و سنعتني بأحفادنا ." كاد يسقط مغشيا عليه عندما سمع البنك . فسألها : " وهل بطاقتك البنكية صالحة ؟" فردت باستغراب :" ما بك يا حبيبي ، وهل مرضك سيبخر مدخراتنا ، مدير البنك شكرني على ثقتنا بمصرفه و البشارة تعلو وجهه . "
وقفت أمام مبنى البرصة الزجاجي ، تنتظر رفع الستارة ، فور دخولها وقعت ورقة عزل وكليل أعمالها ، وتجميد أسهمها من تداولات اليوم ، و في الوقت ذاته نقلت غلتها إلى حساب بائع الكزبرة و ردت إلى مقاولتها الصغيرة ما ابتز منها ، تنتظر دخول وكيلها كل حين ، لكنه لم يظهر بعد ، ذهبت إلى المقهى ونفسها منقبضة ، رغم خبثه فقد أكسبها جولة مهمة ، تملك رصيدا جيدا من الأسهم ، لم تخسر بائع الكزبرة ، وبإمكانها استرجاع علاقتها مع ناصر مادامت لم تقدم بعد على عمل عدواني تجاهه ، تنتظر وتنتظر و لا أثر له ، قامت إلى سيارتها هناك وجدت رجلين ، تقدما نحوها مباشرة ، " أنت صالحة ؟" ردت عليهما بالإيجاب وضعا دملجين في معصميها و قاداها إلى سيارتهما .
ناصر لم يلتحق بعمله باكرا ، كانت الشمس بارزة عندما قام من كهفه بمحاداة الشاطئ ، لم ينتبه لبذلته التي فقدت نصاعتها و انسيابيتها ، وضع جثته المتهالكة وراء المقود و انطلق نحو مكتبه وهو يفكر أن يلغي طرح أسهم الشركة .
عندما رست سيارته وهم بالنزول كان هناك رجل وامرأة يقودانه إلى سيارة الشرطة .
لطفي تناول فطوره و تهيأ ليوم من العمل الجاد ، و هو على يقين من الإستيلاء على نصيب مهم من الشركة ، نظر إلى ساعته فوجدها تقترب من العاشرة صباحا ، إنه وقت العمل ، خرج من بيته متجها نحوسيارته عندما طوقه رجال الشرطة .

كانت تشرح أطروحتها ، وتقدم عرضها لما داعب هزاز هاتفها جيبها ، بين الفينة والفينة يزداد الاهتزاز حتى شوش على تركيزها فطلبت لحظة استراحة ، ردت على مكالمة من محامي الشركة يخبرها أن أخاها محتجز بتهمة تصفية واحد من كبار الوكلاء في البرصة . هاتفت أمها فوجدتها تنوح باكية ، فطمأنتها أنها في طريقها إلى البيت .
بائع الكزبرة بعد أن تناول غداءه مع زوجته خرجا في فسحة ، يعوضان ما فاتهما ، مر على المصرف مطمئنا على ودائعه ، وأكملا طريقهما في جولة عبر مرافق المدينة في ملابسهما الجديدة ، و في جو مرح مليء بالود والرحمة والأمل .

في غرفة اسمنتية قاحلة كان لطفي ينتظر مقيد اليدين مع ثلة من المجرمين الذين يرمقونه بنظرات غريبة ، ينتظر دوره لتقديم إفادته في ملف لا يعرف مضمونه بعد ، هل الأمر يتعلق بصفقاته الماضية أم بكيده المتلاحق في الشركة ، أم في قضية تصفية وكيل البرصة ، يرتب ذهنه للترافع . في تلك اللحظة دخل ناصر إلى غرفة الانتظار فوجد غريمه هناك ، تعجب من هذه الصدفة العجيبة فظن أن التحقيق وصل إلى أعلى الهرم ، ما إن التقط أنفاسه حتى دخلت صالحة مكبلة اليدين ، رأته فهوت بأعينها إلى الأرض عندها خطا خطواته نحوها قائلا : " أعتذر منك يا صالحة ، كان تصرفا غريبا جدا مني ، لكنني مجرد مبتدئ ، الآن انتهى كل شيء ، سأفقد منصبي وربما يكون مصيري السجن ." ولما أمسكت عن الإجابة ، و لاحظ أن عيناها تهيأتا للدموع سألها :" ما ذا تفعلين هنا ؟" هناك هطلت دموعها مدرارا ، كسر هذا الموقف مناداة الحارس على لطفي للاستجواب .
حامد يتأهب للعودة فأمه طريحة الفراش منذ صعقها خبر إلقاء القبض على ابنتها و تحويلها إلى السجن المركزي في انتظار مثولها أمام المحكة في الغد ، لم يترك له الخبر فرصة تسوية أعماله ، بل جمع حقيبته باحثا عن أول طائرة تعود به إلى الوطن ، وجد أخيرا تذكرة ، و انطلق إلى المطار ، عند نزوله من الميترو سقطت منه محفظته ، لكن سامية كانت وراءه أخذت المحفظة و نادت عليه :" سيدي ...سيدي .. هذه محفظتك .." رجع خطوتين فرأى بدرا منيرا يقدم له أوراقه ، شكرها متمتما فبدأ بينهما الحديث ، لم تخبره شيئا عن نفسها رغم إعجابها به و بتفانيه في إنقاذ أخته ، حكى لها مشوارهما منذ الصغر ، كان يتحدث عن صالحة لكأنها أفضل ما أنجبت الأرض ، حكى لها تغيرها منذ تم طردها من الشركة ، رغم ذلك لم تستسلم فقد واصلت كدها وأنشأت مقاولة بسيطة ، لكن حكاية البرصة هذه لا علم له بها ، لابد أن يستعين بمحام قوي لانتشال أخته من هذه التهمة الكاذبة ، يعيد ويكرر أنها روح طيبة لا يمكن أن تقتل ذبابة . سامية تفكر في جليسها ، هل هو التاريخ يعيد نفسه ، لا تريده أن يصمت ، تستلذ بنبرته الحزينة ، تريد سماع هذا الموال الذي يطرب قلبها ، تحاول جره إلى مواضيع أخرى كي تتعرف أكثر عليه لكنه مأخوذ بما أصاب أخته و مصر على إثبات براءتها .

ياسر علي 06-16-2014 03:09 PM

النهاية ستأتي قريبا
فلا تبتعدوا

ياسر علي 06-16-2014 10:55 PM

المواقف الصعبة تفتح القلوب لبعضها ، تحاول سامية أن تتفاعل بإيجابية مع ما يقوله حامد ، لكن أخته متورطة بشكل أو بآخر في مصاعب الشركة و لو كان الأمر كما يقول حامد لما تم الزج بها في السجن ، لكن في الوقت ذاته تعرف أن أخاها بريء جدا من التهم المنسوبة إليه ، فربما تكون صالحة أيضا مجرد مخبولة كما ناصر جرتها دورة الحزام .
لكن الذي يوجع سامية أكثر هو هذا الحب الذي ينمو في عش السماء الرحب ، فكلما تنهد حامد أحست أنفاسه عطرا يفوح في فؤادها ، أيكون طعم الحب في الأعالي ساميا تلطفه السحب و تلمع صفحته فيغدو طريا فواحا كوردة بللتها قطرات الندى ، تحس نفسها على صهوة فرس مستوية السرج ، بل لكأنها على هودج ناقة تسير بخطوات وئيدة ، جاءتها لسعة توجس في فسحتها الذهنية عندما تفطنت أنها لم تتحدث عن نفسها لحامد ، أيمكن أن يغفر لها هذا الكتمان يوم يكتشف أنها غريمة أخته و أنه ربما إن تأكدت من تورطها في مشاكل الشركة ستجد نفسها مجبرة على أداء ثمن باهض ، ولن يشفع لها حب حامد و لا نبرته الشجية .
نظر نحوها حامد و تأمل هدوءها ، رأى فيها إنسانة تحسن الإصغاء والإنصات و يلتهب في نفسه شعور غريب كلما أشعت ابتسامتها و مسحت على وجهه بنظرة عابرة ، يحس عينيها منبع دفء طال قلبه البارد ، يخاف كل الخوف أن تعتبره مخبولا لو قال لها بصريح العبارة أنه يحبها ، مؤكد أنها ستستغرب من سذاجته ، وستتساءل إن كان المرء فعلا سيحب شخصا لم يعرفه بعد ، إنها متكتمة جدا على ما يبدو ، لكنها رغم ذلك فعيونها تحكي قصة أخرى غير التي تحاول أن تظهر .

في السجن وجدت صالحة نفسها فريسة للأرق ، وصورته تصاحبها ، يقدم اعتذاره ألاف المرات ، تتألم لأنها لم تستطع غير البكاء بصحبته ، لم تعتذر له عن نواياها في الاتنتقام منه و من شركته لولا تدخلات القدر ، لتصفو روحها و تستعيد عافيتها ، تألمت وهي تتذكر التهم الموجهة إليها ، فمنها ضلوع في القتل ، وإضرار بالشركة ، كانت تنفي التهم و توضح أنها مجرد طموحة تريد حفر اسمها على صخرة السوق ، و أنها مارست التجارة بأخلاقياتها و بمهنية عالية ، وأنها لم تمارس تلفيقا ولا تزويرا ، و حتى عند طردها من الشركة انسحبت بهدوء ودون زوبعة . تخاف أن لا تستطيع توكيد براءتها و أن تبقى فريسة السجن أبد الآبدين . أما ناصر فأحس لكأنه في النعيم ، اليوم تحرر من ثقل أنقض ظهره ، فأخيرا اعترف لها بخطئه ، و قلبه تصافى من وخزات الضمير ، يتذكر أسئلة الاستجواب ، وعن ليلته أين أمضاها و عن علاقته بصالحة ، و علاقة صالحة بالشركة ، وعن معرفته بوكيل الأعمال ، يتعجب من ورود اسم صالحة في محضر التحقيقات ، أتكون تشتغل في البرصة ؟ أسئلة لم يجد لها أجوبة مقنعة ، لم يهتم لمصيره في السجن ، فهو يكاد يرى السجن أرحم من العالم الخارجي .

حان وقت الفراق و حامد لم يعرف عنها ما يكفي تجر حقيبتها متوجهة نحو سيارة جاءت لاستقبالها ، " سعيدة بصحبتك " هذا هو قولها الأخير نادى عليها قبل الدخول إلى العربة ، نظرت نحوه فأعاد النداء التقيا من جديد وهو يقول :" هل سأراك في الجوار ؟" ردت واثقة : "نعم سنلتقي قريبا ." رد بشغف :" أين ومتى؟؟؟ دوني رقم هاتفي ! " ابتسمت في وجهه و قالت : " ليس بعد ، و لم العجلة .." وتوجهت إلى سيارتها .

وصل حامد إلى بيته والظلام اكتسح المدينة ، أمه عقدت رأسها بمنديل ، و الدموع تبلل خديها ، وشعرها الأشيب مشتت على كتفيها ، هاله هذا المنظر المرعب تعانقه وهي تقول :" إنها هناك مع المجرمين ، هل تناولت عشاءها؟ و هل تسرب النوم إلى جفونها؟ من يدري ؟ حاولت زيارتها فلم يقبلوا ، واكتفوا بأخذ ما أحضرت لها من ملابس و أغذية " كان علي التأكد مما كانت تقوم به ، إنها تخفي عني أمورا كثيرة ، اتصلت بالمحامي كما وصيتني و توجه نحو مركز الشرطة و بدأ يعد ملف القضية . " يواسي أمه المنهارة ، ويعدها ببذل قصارى جهده .
بائع الكزبرة مع زوجته يحلان ضيوفا عند ابنه و انضمت إليهم بنته و زوجها وأبناؤهم ، يقهقهون و يمرحون على العشاء ، كان يومه ربيعيا ، ظهرت صورة ناصر على التلفاز و بعدها صورة صالحة ، فقام من مقامه مسكتا الجميع ، كان خبرا عن الشركة و السجن ، تألم لمصاب العشيقين ، و تألم أكثر لفقدان قلبه صلته بناموس الطبيعة ، أحس أن إحساسه خذله هذه المرة ، تألمت روحه كثيرا ، كما زاده ألما إفساد فرحة أبنائه به و بأمهم .

دخلت سامية بيتها واطمأنت على أمها فوجدت الطبيب يكشف على والدها الذي دبت الحركة في أعضائه دون أن يسترجع وعيه ، فكم مرة قام من مقامه ، و هو يردد ، سآتي يابني لانقاذك ، لن أتركك حزينا هكذا ، لا تخف أختك قوية ، ستخفف عنك آلامك ، اعتمد عليها ، أنت ولد صالح يا بني ، قلب أمك بجانبك ." الطبيب يشرح لهما أنه هذيان ما بعد الإغماء ، و أنه بحال جيدة ، سيتعيد عافيته قريبا ، لكن حذار من إخباره بمشاكل العائلة إلا بعد حين و بطريقة مرنة .

خرجت لتوها عند المحامي الذي شرح لها بدقة مجرى التحقيقات من البداية ، سألته عن تورط أخيها فقال لها إنه بريء كما تعلمين و سألته عن البنت المسماة صالحة ، فقال أن هناك شبهة لا تزال تحوم حول دخولها في المضاربات ، و لكونها آخر من رأى القتيل في منتصف الليل ، بينما لطفي تأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه متورط في التلاعبات التي ألحقت الأضرار بالشركة ، فقد تم ضبط كميات هائلة من الخضر المهربة من المزارع في احدى مخازنه صبيحة اليوم و معها تم توقيف الكثير من المتعاونين معه و من المحتمل أن تدينه شهاداتهم ، و ربما يكون هو من قتل وكيل صالحة نظرا لكونه ألحق به خسائر فادحة في مضاربات الأمس . نظرت سامية إلى يدها التي تلفها ضمادة خفيفة كأنها شاركت في مباراة ملاكمة ، شرحت للمحامي القصة عندما سألها عن مصابها . فقال ضاحكا : "هذه حجة تدينك لو كنت هنا في البلد ."

دقت العاشرة صباحا ، أمام المحكة بائع الكزبرة يمشي و يجيء ، ظهرت أم صالحة فجأة و معها شاب ظريف ، توجه نحوها قائلا : " لطف الله من أقداره سيدتي . أقسم أنها بريئة مما نسب إليها ، إنها روح طيبة تلك الفتاة . " سجل المحامي اسمه للإدلاء بشهادته و شرح له في السيارة جميع خطواتها للحفاظ على حبها . كانا في خارج المحكمة بينما دخل المحامي لتسجيل حضوره عند قاضي التحقيق ، إنها سامية تتقدم أباها وأمها و المحامي يسير بجانبهم ، طلب منهم الانتظار خارج المحكمة حتى يأذن لهم بالدخول عند مجيء المتهمين ، رآها حامد قادمة فارتعشت فرائصه ، تقدمت نحوه و سلمت عليه وعلى أمه ثم بائع الكزبرة ، شم أحمد رائحة الحب تنبعث منهما فقال في نفسه :" شكرا أيتها الحاسة السادسة ، أنا بخير و في المكان المناسب ." وصل السيد نبيل الذي قام من مرضه كأنه لم يشك يوما من شيء ، كان في الصباح الباكر في الشركة مع ابنته و هاتف معارفه من كبار المسؤولين و أكدوا له مساندتهم له في مصابه . تقدم بخطواته الواثقة نحو بائع الكزبرة فقال له :" أنت أحمد ؟ يسرني لقاؤك بعد ثلاثين سنة " عانقه بائع الكزبرة وهو يتذكر يوم سرق محفظة والده و زج به في السجن ، كان نبيل يومها يزوره في السجن و يحضر له الطعام و الألبسة حتى انقضت مدته ، عامله بلطف رغم أنه أساء إلى والده ، نبيل يمد يده إلى نبيلة التي خفضت عينيها اللتين غمرهما الدمع قائلا :" السيدة نبيلة ، خفف الله من أقداره " مد يده نحو حامد وهو يقول : " أنت حامد بلا شك ، ابنتي حكت لي عن لقائك بها في الطائرة ." تقدمت أم ناصر تسلم على الجميع دون أن تعرف واحدا منهم .
وصلت سيارات شرطة تحمل المتهمين ليمثلوا امام قاضي التحقيق ، في غرفة الانتظار ، تعلقت صالحة بناصر وهي تعانقه :" سامحني كنت اريد بك شرا ، لكنني كلما اقتربت من إيذائك تذكرت أنك حبيبي ." واسأل بائع الكزبرة . مهما قيل عني فإني بريئة يا ناصر كما أنت بريء ."

النهاية .

ياسر علي 06-16-2014 10:55 PM

في انتظار ردودكم تحياتي

جليلة ماجد 06-24-2014 04:43 PM

بعضُ الخبل نعمة يا أستاذ ياسر ...

و الحب [ كله ] خبل !

أحببتُ العقدة المتمثلة في سجن البطلة ...

و أحببتُ النهاية ..لكني أحسستها مجتثّة ... لماذا ...لا أعلم ...!

استمتعتُ بكل حرفٍ هُنا .. و أكثر برجوع بائع الكزبرة للحياة ...

فنحن _ أيضاً _ نحتاجُ أحياناً أن نعود إليها ...

جميل يا أستاذ ياسر ... جميل جداً !

صافي الود

ياسر علي 06-25-2014 11:58 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جليلة ماجد (المشاركة 178262)
بعضُ الخبل نعمة يا أستاذ ياسر ...

و الحب [ كله ] خبل !

أحببتُ العقدة المتمثلة في سجن البطلة ...

و أحببتُ النهاية ..لكني أحسستها مجتثّة ... لماذا ...لا أعلم ...!

استمتعتُ بكل حرفٍ هُنا .. و أكثر برجوع بائع الكزبرة للحياة ...

فنحن _ أيضاً _ نحتاجُ أحياناً أن نعود إليها ...

جميل يا أستاذ ياسر ... جميل جداً !

صافي الود


تحية عطرة للأستاذة جليلة

طبعا يصعب كتابة نص موفق بدون تخطيط و تصميم ، و كذلك بدون تحديد أفكاره الأساسية و حضور عقدة محكمة يدور حولها النص .

فكل ما أكتبه إلى اليوم هو مجرد تدريب على الكتابة و تنشيط القدرة على التحدي ، فبين الفينة والفينة أصر على الكتابة .

لأن مشروعي لم يبدأ بعد ربما كتبت فيه المقدمة منذ سنوات ، في روايتين و أريدهما أن تكونا قويتين.

أستفدت من تعليقك و متابعتك .

وشكرا

جليلة ماجد 06-27-2014 04:36 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر علي (المشاركة 178306)
تحية عطرة للأستاذة جليلة

طبعا يصعب كتابة نص موفق بدون تخطيط و تصميم ، و كذلك بدون تحديد أفكاره الأساسية و حضور عقدة محكمة يدور حولها النص .

فكل ما أكتبه إلى اليوم هو مجرد تدريب على الكتابة و تنشيط القدرة على التحدي ، فبين الفينة والفينة أصر على الكتابة .

لأن مشروعي لم يبدأ بعد ربما كتبت فيه المقدمة منذ سنوات ، في روايتين و أريدهما أن تكونا قويتين.

أستفدت من تعليقك و متابعتك .

وشكرا

المشكلة في الكتابة إنها وحي غريب يكسوك ... فلا تستطيع أن تتحكم فيه و لو أن القص وقعه أقل من الخاطرة لكنّه أصعب من حيث التكثيف و الحبكة و التشويق ...

اسمعني يا أستاذي الفاضِل ربما لم تخطط لهذه القصة أو الرواية القصيرة ... لكنها جميلة جداً برأيي و لو أعطيتها حقها بالفعل لطالت و تشابكت أكثر و أصبحت أكثر روعة لكنّ استعجالك لم يعطِ النهاية حقها ..

أما الروايتين اللتين تكتبهما فعليك أن تركز في واحدة و تنهيها و تكمل الأخرى ... ابحث عن الالهام في كل ما يحيط بك من صراخ طفل إلى همهمة النخل ...

أنتظر أن أقرأ لك ... بالفعل .... بالتوفيق !

ياسر علي 06-30-2014 04:29 PM

تحية للأستاذة جليلة ماجد

شكرا على التوضيح الذي أراه محقا و صائبا .

أما بخصوص الروايتين فبمشيئة الرحمان ستكونان على قدر مقبول من الإبداع و البناء .


تقديري

محمد مهاجر 07-24-2014 10:20 AM

شكرا اخى ياسر على على هذا العمل الرائع

السوق له قوانينه, لكن المرء يمكن ان يختار. فمن الناس من يركل مبادءه وينجرف وراء التيار الذى يسعى الى الاثراء باية وسيلة. واذا تخلينا عن المبادئ, فلا ينفعنا البكاء على ما فرطنا فيه ووجدنا نتائجه ماثلة امام اعيننا

العمل ممتاز والحبكة جيدة وطريقة السرد تشد المرء لكى يتابع الحكاية حتى اخر سطر

تحياتى

ابو ساعده الهيومي 08-01-2014 12:24 AM

إن أباه مصاب بوعكة صحية .. " ما إن أتى ذكره على لسانه حتى تفتحت شهية مسامعها و طارت ظلمة انتقامها ، و رأت الوجه المرعب فانوس نور تشع من خلاله صورة من لم تتصور أنها أضحت معلقة بأهداب عيونه ، وطالبة لإشراقة طلعته ، أربكتها اللهفة فسألته : " متى سيعود ؟" تبسم بخبث فأحست بتسرعها في إفشاء مشاعرها لرجل غريب ، بل لشخص بشع وقح ، علت حمرة وجهها بعد سماع جوابه المقيت بسخرية : " هائمة إذن يا عصفورة!" تتابعت خطواتها تاركة السوق و في حلقها غصة تخنق أنفاسها ، لعام كامل استطاعت أن تكتم سرها و تحكم كبح اندفاعها ، ربما تراخت حبال ألجمتها و أصبحت نزوتها تقودها ،
الاستاذ علي
لقد مررت ببستانك ...... توقفت واخترت

ابو ساعده الهيومي 08-01-2014 12:28 AM

إن أباه مصاب بوعكة صحية .. " ما إن أتى ذكره على لسانه حتى تفتحت شهية مسامعها و طارت ظلمة انتقامها ، و رأت الوجه المرعب فانوس نور تشع من خلاله صورة من لم تتصور أنها أضحت معلقة بأهداب عيونه ، وطالبة لإشراقة طلعته ، أربكتها اللهفة فسألته : " متى سيعود ؟" تبسم بخبث فأحست بتسرعها في إفشاء مشاعرها لرجل غريب ، بل لشخص بشع وقح ، علت حمرة وجهها بعد سماع جوابه المقيت بسخرية : " هائمة إذن يا عصفورة!" تتابعت خطواتها تاركة السوق و في حلقها غصة تخنق أنفاسها ، لعام كامل استطاعت أن تكتم سرها و تحكم كبح اندفاعها ، ربما تراخت حبال ألجمتها و أصبحت نزوتها تقودها ،
الاستاذ ياسرعلي
لقد مررت ببستانك ...... توقفت واخترت

ياسر علي 08-09-2014 08:14 PM

الأستاذ أبو ساعده الهيومي

أسعدني مرورك البهي وأتمنى لك قراءة ممتعة .

كل المودة .

ياسر علي 10-28-2014 11:22 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد مهاجر (المشاركة 179244)
شكرا اخى ياسر على على هذا العمل الرائع

السوق له قوانينه, لكن المرء يمكن ان يختار. فمن الناس من يركل مبادءه وينجرف وراء التيار الذى يسعى الى الاثراء باية وسيلة. واذا تخلينا عن المبادئ, فلا ينفعنا البكاء على ما فرطنا فيه ووجدنا نتائجه ماثلة امام اعيننا

العمل ممتاز والحبكة جيدة وطريقة السرد تشد المرء لكى يتابع الحكاية حتى اخر سطر

تحياتى


شكرا أخي محمد مهاجر
قراءة جميلة جمال حرفك
معذرة عن التاخر في الرد

كامل التحية


الساعة الآن 10:56 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team