منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   أجهلُ الجمال (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=28060)

ديفيليا غرايي 01-29-2021 01:09 AM

أجهلُ الجمال
 

نفختُ على زجاج النافذة المتجمد بمرح ثم رسمت عليه قلبا مبتسما، ونفخت على راحتيْ يديّ لعلي أكتسب بعض الدفء. الجو بارد والعالم كله مغطى بثلج سميك ناصع البياض، ورغم أن المدفئة تعمل جيدا إلا أنها لا تكفي. من المؤسف أنه لا يمكنني شراء مدفئة ثانية. المتجر مليء باللوحات الجميلة لكن الشراء نادر جدا خصوصا هذا الوقت من السنة. الشتاء قاس حقا..
الشمس قد غربت قبل قليل، والظلام ينزل شيئا فشيئا دون أن يصل المدينة. وكيف يصلها واليوم ليلة السنة الجديدة؟ الشوارع مُنارة بالأضواء الملونة ومليئة بالزينة المزركشة، الأغاني تُسمع في كل مكان والابتسامات تُرسم بهدوء ودفء على وجوه المارة، كأنه عالم يختلف كليا عن عالمنا. قلة قليلة جدا تقضي هذه الليلة وحيدة مثلي. قد أشاهد فيلما ما، أو أرسم لوحة جديدة، أو قد لا أفعل شيئا على الإطلاق.
الجو أصبح يزداد برودة هنا، لذلك قررت إغلاق المتجر والذهاب إلى المنزل، فعلى أية حال لن يأتي أحد لشراء لوحة فنية في هذه الظروف. ارتديت معطفي الثقيل وقبعتي الصوفية، وما أن أردت المشي نحو الباب حتى دخل شخص ما. أغلق الباب متأففا من الصقيع ثم نظر إلي وسأل ببهجة:
- أتيتِ للتو؟ من حسن حظي إذن!
أردت القول أنني كنت في طريقي للخروج، لكنه لم يدع لي أية فرصة. نزع عنه معطفه وقبعته وعلقهما على الكرسي الخشبي المهترئ ثم أخذ يتصفح اللوحات المعلقة في كل مكان. كان طويلا، ذو عر أشقر باهت ينسدل قليلا على كتفيه. نزعت عني بدوري المعطف والقبعة وأنا أدعو في داخلي أن يشتري لوحة ما، ثم قلت:
- مرحبا بك.. لقد كنت في طريقي للخروج ولم أعتقد أبدا أن أحدا ما سيأتي في هذه الليلة..
- أنا آسف.. يمكنني الذهاب والعودة لاحقا.
- لا.. لا أقصد ذلك. أنا سعيدة بوجودك.
شكرني الشاب ثم استمر في التصفح، فذهبت لإعادة تشغيل المدفئة التي أغلقتها قبل قليل. كانت عادتي أني أحس بالتوتر كلما قابلت شخصا جديدا، وهذا ينطبق على زبائني، لكن هذه المرة لم أشعر بشيء من ذلك. أنا هادئة، ونوعا ما فرحة لأنني أراه وأتحدث إليه، كنت خائفة من قضاء يوم آخر دون التكلم مع أحد، والأهم من ذلك أني فخورة قليلا بنفسي، إذ كان ينظر إلى أعمالي لإعجاب واهتمام.
أعددت بعض الشاي الساخن ليته يدفئنا قليلا، ثم أعطيته له فتقبله بامتنان. لما اقتربت منه، أحسست كأني أغرق في فراغ ما. هذه العينان بلون السماء الصافية، ولمسة يده الدافئة رغم البرد حين أخذ مني فنجان الشاي، ولدا فيَّ شعورا غريبا.
بادر بالسؤال قائلا:
- أنت صوفي؟
- نعم.. أنت تعرفني؟
- لا، اللافتة بجانب المتجر كُتب عليها: فن صوفي. كنت فقط أتساءل إن كنت صاحبة هذا المكان. أريد شراء بعض أعمالك، أحببتها.
أجاب وهو ينظر إلى اللوحة المقابلة له، بابتسامة غربية، ونظرة مليئة بالغموض. سكبت له كأسا آخر من الشاي وجلسنا معا.. هكذا فقط.. في صمت لا يقطعه إلا الرياح العابثة وأحيانا الأغاني الدافئة التي تأتينا من الخارج...




- بماذا كنت تفكرين لما رسمتِها؟
سأل مشيرا للوحات الثلاث التي يريد شراؤها. اللوحة الأولى رسمت بها طفلا أسوداً يضحك، اللوحة الثانية رسمت بها غروبا بهيا للشمس بعد يوم خريفي، واللوحة الثالثة.. قُبلة.
- حين رسمت اللوحة الأولى كنت أفكر بابتسامة الطفل، ليس مهما من هو، لكنها ابتسامته.. ابتسامته فقط هي التي كانت مهمة، ولا تزال كذلك. الثانية رسمتها لأنني أحب الغروب، ومن لا يحب الغروب؟ والثالثة لأنني أحب.. أقصد.. فقط قبلة..
أجبت بسرعة ما تدربت على إلقائه كلما رسمت لوحة ما. وضع فنجان الشاي على الطاولة بهدوء عميق، وصمت لوهلة وهو يعض على شفته السفلية كأنه يفكر ثم قال بمرح لم أتوقعه:
- - لكن ما الفكرة التي تجمع بينها كلها؟ ما الذي جعلك ترسمينها؟
هنا علِمت أنه ليس مُشتريا عاديا، ليس إنسانا عاديا.. هل هو فنان أيضاً؟ هل يعرف الفن؟ بلعت ريقي بتوتر واستجمعت نفسي ثم قلت:
- ربما.. ربما كي يبقى جمال اللحظة لوقت أطول. هل تلاحظ الغيوم أثناء الغروب؟ خين تتحول من اللون الأبيض ثم إلى الأصفر الباهت، ثم إلى البرتقالي، ثم إلى الوردي، ثم إلى البنفسجي والأحمر أحيانا، ثم إلى الرمادي، وأخيرا إلى اللون الأسود. لطالما تساءلت لماذا لا تتحول ببط، فنستمتع بجمالها لوقت أطول. عوضا عن هذا فإن تحولها للأسف لا يستمر إلا للحظات.. لحظات فقط.. كأنه واجب الحياة أن الأشياء الجميلة لا تستمر أبداً لوقتٍ طويل، وسريعا ما تتحول للأسود في النهاية.. هذا ما يجعلني أرسمها، أحس كأنني بذلك أنقذها من الفراغ، ومن الاختفاء إلى الأبد.
وبينما كنت أتكلم، لم يكن هو ينظر إلي وحسب، بل كان ينظر إلى روحي وإلى داخلي أيضا، وأنا سمحت له بذلك. اعتقدت أنني أحسست بكل شعور في هذا العالم، لكني ها أنا أحس بشيء جديد مخالف تماما، شيء مجهول.. هذا جعل الخوف ينضم إلى الحفلة، والتوتر والسعادة، والحزن لسبب لا أعرفه، فأصبح داخلي مكان معركة بين المشاعر، لا أحد يعلم من سيفوز بها. ابتسم ابتسامة لمسْتُ بها الكون ثم قال:
- واجب الحياة.. أنا معجب بنظرتك للأمر. لكن ألا تظنين أنه من المطَمْئِن، من جهة أخرى، أنه حين تتحول الغيوم إلى اللون الأسود فلا يلزمنا إلا النوم، فنستيقظ في اليوم التالي كي نجدها لونا أبيضاً ناصعاً كأنه لم يمسسها السواد قط؟
- أجل.. لكن هذا لا يكفي...
- بلى عزيزتي. الجمال يكمن في كل شيء، ما عليك إلا البحث عنه. هل رأيت الشروق من قبل؟
أنزلت رأسي بخجل، أنا عزيزته، وأومأت له بالنفي.
- إنه ليس جميلا، إنه فاتن. الغيوم ترتدي رداءً ملائكياً بعد خلعها للون الأسود، ثم تدريجيا تتحول للون الأبيض، لونها الأصلي. تختال بهذا اللون طيلة اليوم حتى يأتي المساء، وقبل أن تغادر الشمس، تطبع على كل غيمة قُبلة فتستحي وتكتسب ألونا زاهية لطيفة.
- ضحك بمرح ثم تابع:
- - إنه لجمال نادر ترسمين، لكنك تظنين أنه لا جمال غيره، وأنت مخطئة في هذا.
ما هذه الغرابة التي أشعر بها؟ ظننت أن هذه الليلة ستنتهي بشكل عادي، أن هذه السنة ستُختم بالطريقة نفسِها، لكنها ليست كذلك. من أنت كي تُغير هذا؟ من أنت كي تغير كل ما كنت أفكر به؟ هل أنت الجمال نفسُه؟ من أنت؟ أوشكت على سؤاله لكنه نهض فجأة من على مقعده ناظرا لساعة يده باندهاش. " يا إلهي مر الوقت سريعا" قال. شكرني على الشاي وأعطاني نصف المبلغ ثم أخبرني أنه سيعود في الغد. ارتدى معطفه وقبعته، ثم غادر وغادرت معه روحي. من أنا بدونك؟ هل وقعتُ في الحب؟
وفوراً، وضعت على الطاولة نفسها كل ما لدي من فرشات وصباغة، ولوح رسم جديد، ثم شرعت في رسم لوحة جديدة، عنوانها أجهل الجمال.

ياسر علي 01-29-2021 02:59 PM

رد: أجهلُ الجمال
 
كلنا نجهل الجمال لأنه جزء منا، نزين به الأشياء فتبدو أكثر جاذبية وقبولا.
قرأت هنا الجمال فكاد يعلن عن هويته كأدب بستحق المتابعة.
تقديري

ديفيليا غرايي 01-29-2021 10:35 PM

رد: أجهلُ الجمال
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر علي (المشاركة 282838)
كلنا نجهل الجمال لأنه جزء منا، نزين به الأشياء فتبدو أكثر جاذبية وقبولا.
قرأت هنا الجمال فكاد يعلن عن هويته كأدب بستحق المتابعة.
تقديري

شُكرًا جزيلا لك

ياسَمِين الْحُمود 01-29-2021 10:52 PM

رد: أجهلُ الجمال
 
القصة تحدث بالواقع
تأثرت بها وعشت أحداثها بعيون راويتها .
سهل ممتنع سطرتِ حروفا رسمتِ جمالاً
هو هذا الأسلوب الجميل المرن
الذي يترك القارئ يتنقل بين السطور بهدوء
أحييكِ ديفليا :20:

ديفيليا غرايي 01-30-2021 01:17 AM

رد: أجهلُ الجمال
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسمين الحمود (المشاركة 282923)
القصة تحدث بالواقع
تأثرت بها وعشت أحداثها بعيون راويتها .
سهل ممتنع سطرتِ حروفا رسمتِ جمالاً
هو هذا الأسلوب الجميل المرن
الذي يترك القارئ يتنقل بين السطور بهدوء
أحييكِ ديفليا :20:

أحييك بدوري، شكرا لك أختي ياسمين

ناريمان الشريف 01-30-2021 03:42 AM

رد: أجهلُ الجمال
 
بلى عزيزتي. الجمال يكمن في كل شيء، ما عليك إلا البحث عنه. هل رأيت الشروق من قبل ؟

سطر حكيم فيه المختصر
نعم ،، كن جميلاً ترى الوجود جميلاً
فالجمال يكمن في عباراتك الجميلة وفي السرد المحكم
كنت هنا .. وسأترك إعجابي
تحية لقلمك عزيزتي
مع ملاحظة ( مدفئة ) اكتبيها ( مدفأة )
ناريمان
:44:

محمد أبو الفضل سحبان 01-30-2021 03:48 PM

رد: أجهلُ الجمال
 
الحروف الجميلة لا يذهب جمالها أبدا رغم تقلب السنين....
كنت هنا لأقرأ لك التحية ولحرفك الأخاذ ...
تحية عطرة
ابو الفضل

ديفيليا غرايي 02-01-2021 12:24 PM

رد: أجهلُ الجمال
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناريمان الشريف (المشاركة 282977)
بلى عزيزتي. الجمال يكمن في كل شيء، ما عليك إلا البحث عنه. هل رأيت الشروق من قبل ؟

سطر حكيم فيه المختصر
نعم ،، كن جميلاً ترى الوجود جميلاً
فالجمال يكمن في عباراتك الجميلة وفي السرد المحكم
كنت هنا .. وسأترك إعجابي
تحية لقلمك عزيزتي
مع ملاحظة ( مدفئة ) اكتبيها ( مدفأة )
ناريمان
:44:

شُكرًا جزيلا لك، شكرًا حقًا
لقد تم تعلم الدرس من الخطأ :)

ديفيليا غرايي 02-01-2021 12:25 PM

رد: أجهلُ الجمال
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد أبو الفضل سحبان (المشاركة 283107)
الحروف الجميلة لا يذهب جمالها أبدا رغم تقلب السنين....
كنت هنا لأقرأ لك التحية ولحرفك الأخاذ ...
تحية عطرة
ابو الفضل

لك نفس التحية بل أحسن منها
شُكرًا جزيلًا لك

عبد الكريم الزين 02-01-2021 07:10 PM

رد: أجهلُ الجمال
 
ربما.. ربما كي يبقى جمال اللحظة لوقت أطول

هل الجمال مرتبط باللحظة أم هو ماهية الشيء؟
نص قصصي ممتع يستدعي التأمل ويغري بالمتابعة.
حروفه حالمة تختزن أفكارًا عميقة، وحبكته تنساب بسلاسة إلى آخر سطر.
تحياتي لقلمك


الساعة الآن 11:01 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team