منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   غاوية والمسلوب (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=11877)

محمد غالمي 09-11-2013 12:39 AM

غاوية والمسلوب
 
انطلق غاضبا متذمرا يشق طريقه، أسيرا بين يدي سجان طاغ عنيد؛ ضرة مفعمة سما، تفننت في تكميم فمه وشل إرادته.. لا يطيق فراقها ليلة واحدة إلا إذا خذله الجيب.. خطر له أن يغازلها ويجرب أولى حظوظه في منتزهها، كشأن أقرانه حين يحتلمون ويصرون على إثبات دواتهم وفرض جودهم، وتفعيل بنود أحلامهم الفتية، ولو في موارد الشبهات ومزالق المهلكات. تقرب منها، ساحرا إياها بعين حالمة مستعطفة، وبسطت في خضوع ملامسها اللينة، ولئن بدت جثة هامدة فإنها تنطوي على روح مدمرة!.. وعلى حين غرة انقلب السحر على الساحر؛ استحال الذيل الأملس الزاهي سلسلة من حديد طوقت عنقه..أما هو فأمسى حاله كالكلب، إذا افتقد نسمة من نسائمها المسكرة ركبه السعار، وضرب في الأرض يبغي اللقاح.. وإلا حول اتجاه نابه إلى معارفه وآل بيته. هذا شأن إدريس الخضار في دنيا حية سوداء من نار!.. في محراب كائن حقير ضرب بنسجه على وعاء عقله. أعتاد بعيد كل غروب أن يندس في بيته، فيجنح إلى غرفته مندمجا في عالمه الخاص الذي جدَ في إحداثه.. ولا يسعه ـ وقد قر آنئذ عينا،وطاب مجلسا بغاويته الرقطاء ـ إلا أن يتنهد في انتشاء قل له النظير.. غاوية مصدر الرؤى! إكسير الحياة ومنبع الأحلام.. في محرابها يقرأ الطالع ويشيد القصور على قمم الهيمالايا!! كلما انتعش من سحرها، واستوفى حظه الوافر من أنفاسها اهتز فرحا منتشيا.. أكيد أنه عاين حلولا لهمومه تتراقص أمام ناظريه كالسراب!.. يضحك عاليا.. يقفز من على السجاد بخفة.. يبرح معتكفه إلى الغرفة المجاورة، فيدخل على آل بيته باشا على غير عادته.. يوزع الوعود مدرارا.. ويتبدد الشحوب من وجوه الصبية.. يستبشرون خيرا بقطف ثمار الوعود القاطعة! الأم وحدها فقهت منذ البداية سر اللعبة.. ضجت من ترجيع المعزوفة بلا طائل.. استيقنت بأن كلام الليل يمحوه النهار؛ إذ كيف لمسلوب الإرادة، مسكون بجنية حمراء أن يفى بوعد أويتقيد بعهد؟ حقيقة لا غبار عليها أدركتها السيدة حرمه منذ سقط الخضار في كمين غاوية الخناس.. بئس من ضرة لا تشبه الضرات في شيء.. وإن عزت خلا بنفسه متفكرا في قلق وكدر.. باتت عيناه تحصي النجوم.. أمسى تحت رحمة المطارق تهوي على رأسه.. اعتاد أن يأخذ نصيبه مما تحصده البنت البكر من جيوب السكارى وثعالب الليل.. ولكنه أخفق الليلة ومني بالخذلان؛ أعفت ابنته نفسها من أداء الضريبة اليومية! وطفق يهذي غير آبه لما تشيعه به زوجه من نظرات تطفح خزيا وإشفاقا.. وانتابته نوبة سعار حادة فجن جنونه، وانهال على حرمه الممددة بجانبه ضربا وعضا.. تناهى الصياح إلى مضجع الصبية! لم يلفوا سوى أن دثروا رؤوسهم تحت الأغطية.. وما عسى أرانب مذعورة أن تفعل سوى أن تستسلم إلى قدرها المقدور؟ خفت عنه نوبة الهستيريا، ارتخت جفونه، فتح عينيه في الظلام فبدت غاوية طيفا باسما ساخرا بعيد المنال. ولكن السبيل إليها يهون رغم ما يتخلله من المنعرجات، أو يتربص فيه من الضواري الهائمات. أفاق مبكرا وشعر بثقل ينهك رأسه. أجمع الأمر على أن يكون اليوم بها ظافرا مهما يكلفه ذلك من الثمن. تناول فطوره في غمرة صمت رهيب. تفقد جيبه للاطمئنان على قيمة المهر؛ فبدون مهر جديد يخيب المسعى في حيازة الحية الفاتنة، وبالأحرى الظفر بعبيرها وأبوها إمبراطور في مملكة الموت! فظ عنيف لا يسلم البضاعة من دون أن يأخذ. غادر الخضار البيت والصغار ينظرون إليه ومطالبهم ما تزال حبيسة مآقيهم.. ما يزال يشق الطريق في خطى حثيثة.. وبعد لأي لحق بثلة من المستعبدين؛ أشباح بشرية ملسوعة مثله. انبثوا عند مشارف البيت الإمبراطوري فرادى ومثنى وثلاث، يترقبون على أحر من الجمر طلعة الإمبراطور صاحب الحل والعقد، فيسعد كل منهم بالا برفقة ليلاه.. تارة يشرئبون بأعناقهم مستطلعين، وطورا ينكسون الرؤوس كشأن من يترقب خروج جنازة. ساعة زمنية تحت لفح الشمس فيطلع عليهم واحد من الخدم، يشير إليهم بمواصلة الطريق شمالا حتى حدود الغابة.. فثمة مأوى الإمبراطور ومعتكفه الجديد ومهربه من عين الرقيب!.. خبر كالصاعقة روع جوانح إدريس، التفت إلى القوم وخاطبهم بلهجة لا تعدم حزما وإصرارا.. الانتظار مضيعة للوقت.. إذا كنتم مهتمين فلا مخرج أمامكم إلا أن تشحذوا أقدامكم، وتشمروا على سواعد الجد لتحوزوا بغيتكم!
وانطلق المتيمون يتصدرهم إدريس.. راح يضرب في بطن بيداء مقفرة.. لفحه الحر الشديد، ورشح جبينه عرقا. وخزه الشوك وأدمت قدميه الحجارة. ما يزال على حاله يهرول نافيا من الوجود كل من حوله إلا هي؛ معذبته ومغلة لسانه، ناهبة جيبه وسالبة عقله.. وبعد مشقة وعنت نزل ومن معه بالغابة، لم يدم الانتظار، فالأماني تلاشت في أجواء يكتنفها صمت رهيب. داهم اليأس النفوس الحيرى من جديد، واعتملت غما وحزنا؛ إن الإمبراطور توجس خيفة من محيطه، ولزم عرينه حاجبا عن رعاياه الهلكى بغيتهم! خبر موثوق تسرب إلى الخضار من قائد العسس. ومهما يكن فلا مناص من أن يحظى ببغيته، وهو ما تحقق فعلا، ولا يعقل أن يخيب مسعى قيدوم الأصهار المتيمين! وانصرف الآخرون مصدومين، لاعنين في خواطرهم حالة الطوارئ الجائرة! اصطنع الخضار الدهشة، وتظاهر بأنه ملسوع مثلهم بلوعة الإحباط، بينما هو في مكنونه يرقص من مسرة وحبور.. وانفصل عنهم مهرولا لا يلوي على شيء.. قفل عائدا تحفه ساحرته بجناحي الدعة والاطمئنان. نزل ببيته وقصد معتكفه ـ كدأبه ـ عاظا على غاويته بالنواجذ.. ابتهل في محرابها بنفس عميق.. تركها قابعة وصد باب الغرفة خلفه. راق له ـ وهو في ميعة النشوة والحماس ـ أن يسامر آل بيته لحظة، فيلوذ مطمئنا إلى جنيته! والتمس سبيل مجمعهم تحدوه الرغبة في أن يزرع في نفوسهم الثقة ويذيقهم بعضا من سلاف وعوده. لكن العيال نضجوا قبل الأوان، تحدوا سنهم عنوة وأدركوا ـ كما أمهم ـ سر اللعبة.. ما عادت تنطلي عليهم وعود أب مسلوب!. نظر إليهم ودب في جسمه الفتور وانطفأ لهيب الحماس. جمد في مكانه يحملق في عيونهم تحدث بلغة الكبار حين يمسسهم ضيم أو تحل بهم مهانة.. شعر بفجيعة ما لاحظ، فولى إلى حيته الغاوية واجما متصدعا.. سحبها من ركنها، وأخذ نفسا عميقا من سحرها عسى أن يبدد سحائب الحيرة الملمَة.. شعر بعبيرها يشد برقبته ويشرع في خنقه.. سعل سعالا حادا حتى دمعت عيناه وسال مخاطه.. وفي حركة جنونية أمسك بها، وبرح المحراب الذي استحال مسرحا للطقوس المميتة. صعد بها الأدراج إلى سطح بيته منهك القوى.. بعير عليل يحمل على ظهره قنطار شعير.. وقف يجتر آلاما مبرحة كأنها سياط تهوي على هامته.. رفع رأسه إلى السماء مستعطفا، وغاوية في طي كفه.. فتح راحته وحملق فيها مخاطبا إياها في لهجة غضب حادة: عليك اللعنة أيتها الحية الرقطاء..
أنت التي...!
أنت التي...!
أنت التي... واللائحة لا تنتهي يا قاتلتي........!!
انفلتت من يده بلا شعور وسقطت أرضا.. اندمج يتأمل في هيأتها وهو كظيم.. سواها تحت قدمه اليمنى، وجعل يدعكها بكل ما أوتي من القوة، ولسان حاله يردد: لك الموت والفناء أيتها الحية الساحرة.. إلى الجحيم المستعرة يا وقود النار.. أنت طالق! أنت طالق! أنت طالق..
أزال قدمه وأحنى رأسه يتملى في قطعة الحشيش المضغوطة، وقد استوت مع أرضية السطح.. أشعل فيها نارا ونكص يلتمس دويه، يحصي الأدراج هذه المرة في خفة كوزن الريشة..

ياسر علي 09-16-2013 01:17 AM


أما هو فأمسى حاله كالكلب ، إذا افتقد نسمة من نسائمها المسكرة ركبه السعار ، و ضرب في الأرض يبغي اللقاح ، و إلا حول اتجاه نابه إلى معارفه وآل بيته .


اخترت هذه الجوهرة من هذا العقد الذي تلمع فيه اللآلئ مزينة هذه النص الخلاب ، منذ أن دخلت رحابه حسبتني في حديقة مزهرة فواحة سكرني فيها تناغم اللون و نسمات العبير .

شامخ كعادتك أستاذي

آية أحمد 09-19-2013 01:47 PM

منذ ولوجي هذا الصرح الممرّد من قوارير وأنا في ذهول
مع سحر الحرف وبديع التعبير،
وكانت النهاية التي كنّا نلهث لبلوغها ليجلو لنا سرّ هذه
الغاوية التي أوّلناها بأشياء كثيرة كالخمر، أو أنها فعلا
جنيّة سحرته، قلت كانت أروع من توقعاتنا لأنّ ما قبلها
من سرد قد خدم الفكرة بكل روعة وتأثير وترك لعنصر
التشويق دوره الرائع دائما...

وكالعادة، لقصصك بريق التميّز أستاذي المحترم محمد غالمي.

تقبّل إعجابي وعاطر تحياتي...

ريم بدر الدين 09-22-2013 07:06 PM

أبقيتنا على مشارف الدهشة نستكنه ماهية تلك الغاوية التي سلبته عقله و سرقته من حياته و اسرته ..
فعلا ا. محمد غالمي
نص قصصي في غاية الروعة
تحيتي لك

محمد غالمي 09-24-2013 11:44 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر علي (المشاركة 156552)

أما هو فأمسى حاله كالكلب ، إذا افتقد نسمة من نسائمها المسكرة ركبه السعار ، و ضرب في الأرض يبغي اللقاح ، و إلا حول اتجاه نابه إلى معارفه وآل بيته .


اخترت هذه الجوهرة من هذا العقد الذي تلمع فيه اللآلئ مزينة هذه النص الخلاب ، منذ أن دخلت رحابه حسبتني في حديقة مزهرة فواحة سكرني فيها تناغم اللون و نسمات العبير .

شامخ كعادتك أستاذي

الأخ ياسر:
انتقاؤك تلك العبارات الدالة ينم عن سمو الذوق الرفيع لروح العملية الإبداعية..
تشكر على الوقفة العابرة في رحاب النص.
تحياتي وامتناني
محمد غالمي

محمد غالمي 09-24-2013 11:48 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة آية أحمد (المشاركة 156980)
منذ ولوجي هذا الصرح الممرّد من قوارير وأنا في ذهول
مع سحر الحرف وبديع التعبير،
وكانت النهاية التي كنّا نلهث لبلوغها ليجلو لنا سرّ هذه
الغاوية التي أوّلناها بأشياء كثيرة كالخمر، أو أنها فعلا
جنيّة سحرته، قلت كانت أروع من توقعاتنا لأنّ ما قبلها
من سرد قد خدم الفكرة بكل روعة وتأثير وترك لعنصر
التشويق دوره الرائع دائما...

وكالعادة، لقصصك بريق التميّز أستاذي المحترم محمد غالمي.

تقبّل إعجابي وعاطر تحياتي...

الأخت الفاضلة آية..
سرني كثيرا هذه القراءة المتميزة التي تشي بامتلاكك أدوات التحليل الناجعة والقدرة الفائقة على الغوص في خضم الخطاب السردي ..
لا هنت ولا هان يراعك السيال..
محمد غالمي

محمد غالمي 10-01-2013 11:51 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريم بدر الدين (المشاركة 157453)
أبقيتنا على مشارف الدهشة نستكنه ماهية تلك الغاوية التي سلبته عقله و سرقته من حياته و اسرته ..
فعلا ا. محمد غالمي
نص قصصي في غاية الروعة
تحيتي لك

تحية أخوية الأخت ريم بدر الدين..
تشكرين على الاهتمام الكبير بموضوع القصة، وما حمل من إطراء محفز.
تحياتي وامتناني.


الساعة الآن 12:39 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team