منتديات منابر ثقافية

إياكم أعني
يعاودني الحنين، وتجتاح كياني الذكريات، ويحملني الشوق إلى ذلك النور الذي ينبعث على استحياء من بين النوافذ، وكلما مررت اشتد وجع الذكرى، وكلما تكلمت يرتجع الصدى ليذكرني بالزمن الفائت، بالنور الخافت؛ المتواري خلف أستار مهترئة ما تفتأ أن يتناثر نسيجها أمام عاصفة الذكرى. سفر عبر الزمن لا تقيده قيود ولا تحده حدود، لا أتردد أبدا في أن أركب أجنحته وفي داخلي يختلط الوجع بالنشوة، ولا غرابة في ذلك، إذا كان مع كل لحظة ألم، تولد بين أضلعي لحظات من الأمل، الأمل الذي به أحيا.
في كل لحظة من لحظات الذكرى ترتسم بريشة فنان مبدع خيوط ضوئية تربط الماضي بالحاضر، وتتبدى أجنحة الشوق حاملة للعذابات، فتختلط الدموع بالدموع، والحركات بالسكنات، ولا أقول إن الزمن يعيد نفسه، بل إن الماضي يتعصّى ويأبى الانمحاء، ويرفض التواري، ويصرّ على التجلي والظهور في أبدع صورة تشكلت.
في جوف الذكريات تسكن أعنف اللحظات، كما تسكن النار تحت الرماد، ظلت محتفظة بحرارتها حتى جئتم اليوم؛ فحركتم السواكن، وأيقظتم المواجع، وأحييتم الماضي، وقطعتم الطريق على من ظن أن الماضي ينمحي ويموت، لأن أجنحة الشوق لم تتكسر ولم يصبها التلف فكانت هي وحدها القادرة على الوصل والاتصال، وهي تعلو بي في سماء الارتقاء يداعب الخدود نسيم يزرع الأمل المفقود في العودة إلى زمن التلمذة.
على أجنحة الشوق يستشهد الحاضر ويهَب روحه للماضي حتى يتجلى فيصبح الزمن لا معنى له من دونكم، وما قيمة الزمن من دونكم وأنتم الذين تصنعون الزمن، بل أنتم الزمن، أنتم الماضي والحاضر والمستقبل، فشكرا لأجنحة الشوق التي حملتني إليكم، وحملتكم إلي، فما كلّت ولا ملّت ولا تخلّت في لحظة كانت حياتي وحياتكم تتشكل.
نعم يسافر الخيال إلى حيث أدري ولا أدري، بل يسافر الواقع بكل مكوناته الحية ليرتقي في سلم الغيبيات، حتى يصبح الواقع خيالا والخيال واقعا، وتذوب المسافات وتنمحي العقبات، ويحدث الالتقاء والتعارف ويستحيل إلى انسجام وتآلف، وتضيع الأرقام في زحمة الأرقام بل وتستبين المسميات وتستيقظ الذاكرة على حلم الواقع الجميل، وأفرح باللقاء وأي لقاء أحلى وأبهى وأغلى من لقاء تسكب فيه العبرات. ففي كل ليلة كنت أكفكف الدمع وأكتم الأنفاس وأتقلب على فراش الشوق وأجنحته ممتدة ترسلني إلى الزمن الأول زمن التلمذة، ليس هروبا من زمني الثاني بقدر ما هو التجاء إليه.
أرتني أجنحة الشوق كيف تتدافعون وتتسابقون إلى قلبي، وما سعدت يوما بمثل سعادتي في يوم جعلت أنظر إلى قلبي وقد وسعكم جميعا، فشكرا لأجنحة الشوق التي في ظلمة الشوق أيقظت شعلة الشوق، فبددت حلكة ليال طويلة عشتها والوحشة تملأ قلبي وكياني.